د. ذاكر حسين جمشيد

الدكتوراه من جامعة جواهر لال نهرو، بنيودلهي

لدى تصفح التاريخ البشري ودراسة عابرة للتأريخ الاجتماعي للإنسان قبل ظهور الإسلام نرى أن الإنسانية فقدت روح الإنسانية، واستهوتها اللذات، وانصرفت عن الطاعات وعبدت الطاغوت، وغلبت عليها المادية الطاغية، وارتطمت في هذا الشقاء، ونسيت تعاليم الأنبياء والرسل الذين بعثوا إلى الناس عامة لأجلها، مع أن الله خلق الإنسان على وجه هذه الأرض بشرفه وكرمه، كما يقول تعالى في محكم تنزيله “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً(سورة بني إسرائيل، رقم الآية:70). وخلقه الله ليعبد الله وحده، وقال تعالى “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”(سورة الذاريات،رقم الآية:56) وبالرغم من هذه الفضيلة والكرامة والشرف والعزة والعظمة التي ليست أمامه شرف وكرم، بدأ الناس ينحتون التماثيل والصور من رجالهم الصالحين الأبرار، ويسجدون لهم، ويعبدونهم، وتناسوا الله تبارك وتعالى، وبذلك انهمكوا في الضلالات وتمادوا في الغي…. ومن ثم ضعفت البنية الاجتماعية، وشهد المجتمع البشري تفككا في نظام الأسرة والعائلة، وأفقدت القيم الاجتماعية مثاليتها وأدنى متطالباتها، وأصبحت الأرض مثل الطير الظامئ الذي ينظر إلى مواقع القطر والندى لإرواء غلته، ومازالت الإنسانية على هذه الحالة الرديئة والتعيسة إلى أن رحم الله على هذه الإنسانية البائسة فبعث الله رسولا إلى الناس كافة بشيراً و نذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، ورحمة للعالمين، الذي دعا الناس إلى الله وحده، وأنقذهم من الظلمات إلى النور ومن الضلال إلى الهدى، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، وأعاد إلى المجتمع مقوماته الإصلاحية البنائية. وهنا نحاول دراسة تلك الأوضاع التي مرت بها الإنسانية، خاصة العرب، وكيف وجدت الرسالة السماوية النهائية أن تنزل بساحتهم وتسكن في قلوبهم ومن هنا تنتقل إلى أرجاء المعمورة الأخرى من أدناها إلى أقصاها.

نظرة إجمالية على الأوضاع الاجتماعية والدينية قبل البعثة:

يقول الأستاذ العلامة أبي الحسن علي الندوي : “أصبحت الديانات العظمى، وصحفها العتيقة، وشرائعها القديمة التي مثلت في أزمان مختلفة دورها الخاص في مجال الديانة والأخلاق والعلم، فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المحرفين والمنافقين، وعرضة الحوادث الدامية والخطوب الجسيمة حتى فقدت روحها وشكلها فلو بعث أصحابها الأولون، وأنبياءها المرسلون، وأنكروها وتجاهلوها، أصبحت اليهودية مجموعة من طقوس وتقاليد لاروح فيها ولا حياة، وهي- بصرف النظر عن ذلك – ديانة سلالية، لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، ولا للإنسانية رحمة. وقد أصيبت هذه الديانة فى عقيدة كانت لها شعاراً من بين الديانات والأمم وكان فيها سرشرفها، وتفضيل بني إسرائيل على الأمم المعاصرة في الزمن القديم وهي عقيدة التوحيد التي وصى بها إبراهيم بينه يعقوب، فقد اقتبس اليهود كثيراً من عقائد الأمم التي جاوروها أو وقعوا تحت سيطرتها، وكثيراً من عاداتها وتقاليدها الوثنية الجاهلية، وقد اعترف بذلك مؤرخو اليهود المنصفون ([1])

وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار أنه قال: “إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربَهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب”([2]). والمقت هو شدة الكراهية. هذا الحديث يدل على حال الأرض قبل البعثة النبوية، وفي كلمة “البقايا” لدلالة كبرى من الناحية الاجتماعية حيث تفيد هذه الكلمة معنى الأثرية، يعني هذا أن بقايا أهل الكتاب الذين لم ينالوا الكراهية الربانية لم يكونوا إلا مثل آثار من عهود سحيقة لاقيمة لها في واقع الناس، وبالتالي فإن هذه البقايا لم تشكل مجتمعات كاملة كانت أفرادًا معدودين. وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدلّ على فساد اجتماعي وديني على نظاق واسع وشامل.

هنا نريد بعض الوقوف عند بعض الشرائح الدينية التي تشكل القيم الاجتماعية وبنيتها التحيتية للمجتمعات العالمية آنذاك، وطبعا كانت المجتمعات خاضعة لقانون الديانات الفاقدة روحها.

وضع المسيحية:

لم تكن المسيحية صالحة لأنْ تقوم عليها حضارة، أو تسير في ضوئها دولة، ولكن كان فيها أثارة من تعليم المسيح، وعليها مسحة من دين التوحيد البسيط، فجاء بولس فطمس نورها وطعمها بخرافات الجاهلية التي انتقل منها، والوثنية التي نشأ عليها، وقضى قسطنطين على البقية الباقية، حتى أصبحت النصرانية مزيجاً من الخرافات اليونانية، والوثنية الرومية، والأفلاطونية المصرية والرهبانية. يقول (SALE) مترجم القرآن إلى الإنكليزية عن نصارى القرن السادس الميلادي: “وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية حتى فاقوا في ذلك الكاثوليك في هذا العصر” ([3]). والبلية كل البلية أن الخلافات العقدية بين شتى مذاهب النصارى مزقت حياتهم الدينية، والاجتماعية. وكان الخلاف بين المذهب الأرثوذكي، والكنيسة الشرقية من جانب، والمذهب الكاثوليكي والكنيسة الغربية من جانب آخر تقوم على شفا التناحر و عداوة ونتجت خلافاتهم المذهبية عن حروب مدمرة قتل فيها عشرات آلاف. وبالتالي تفكك المجتمع المسيحي الروماني وزعزعج كيانه؛ فانقسم المجتمع إلى أحرار وهم السادة، وعبيد وهم ثلاثة أضعاف الأحرار من حيث النفر والعدد وعاشوا دون احترام اجتماعي وحقوق إنسانية، حتى نجد الفيلسوف الكبير أفلاطون الذي أتى بفكرة المدينة الفاضلة يرى أنه لايُعطى العبيدُ حق المواطنة. وأما وضع المرأة في المجتمع المسيحي الروماني فكان غاية في التعاسة والقسوة، وكان الناس في هذا المجتمع يعتبرون المرأة كائنا لا نفس له، وأنها رجس، ولن ترث الحياة الأخروية، ويجب أن لاتأكل اللحم، وأن لاتضحك، وأن لا تفتح فمها للكلام أمام الرجال حتى الأغبياء منهم ([4]).

وضع اليهود:

إن اليهودية من الديانات القديمة، وبعد البعثة عام 610م انتصر الفرس على الروم ثم انتصر الروم عليهم (كما أشار إليه سبحانه وتعالى قائلا: غلبت الروم، وهم من بعد غلبهم سيغلبون: الروم: 2-3) وعندما انتصر الفرس انقلب اليهود على نصارى الشام وغدروا بهم وخربوا الكنائس، ولكن بعد انتصار الرومان على الفرس جاءوا إلى هرقل مستأمنين به فأعطاهم عهدا، غير أن أتى إليه رهبان الشام وقالوا له : أقتلهم، فتردد أولًا ثم قتلهم شر قتلة، حتى لم يفلت إلا الذي هرب من الشام ([5]).

وأما حالة اليهود في قرن البعثة النبوية فكانت سيئة جدا، فقد تمركزوا في شمال المدينة المنورة، وكانوا كعادتهم قومًا غِلاظ الطباع، قساة القلوب، منحرفي الأخلاق، يعيشون على الرِّبا، وإشعال الفتن، والتكسب من بيع السلاح، وعلى إيقاع السادة في الفضائح الأخلاقية وتهديدهم بها، وعلى السيطرة على الجهال بكتبهم المحرفة وأفكارهم الضالة. وأما وضع المرأة اليهودية فكانت تقسو حياتها. فقد وُصفت في التوراة المحرَّفة على هذا النحو: “درتُ أنا وقلبي لأعلم ولأبحث ولأطلب حكمةً وعقلاً، ولأعرف الشر أنه جهالة، والحماقة أنها جنون؛ فوجدتُ أَمَرَّ من الموت المرأة التي هي شِباكٌ، وقلبها شِراك، ويداها قيود”([6]).

وضع المجوس:

عاش المجوس في الدولة الفارسية آنذاك، وعرفوا من قديم الزمان بعبادة العناصر الطبيعية أعظمها النار وقد عكفوا على عبادتها أخيراً وكانت الديانة عندهم عبارة من طقوس وتقاليد يؤدونها في أمكنة خاصة، أما خارج المعابد فكانوا أحراراً، يسيرون على هواهم، وما تملي عليهم نفوسهم، وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين من لادين لهم ولا خلاق، في الأعمال والأخلاق ([7]).

يقول راغب السرحاني :

” كان الوضع في تلك الدولة يمثل مأساة حضارية بكل المقاييس في كل الجوانب الأخلاقية، والاجتماعية، والدينية على السواء، فقد كان الشعب في المجتمع الفارسي يخضع لنظام شديد الطبقية، وفيه مهانة كبيرة للإنسانية، فكان المجتمع مقسمًا إلى سبع طبقات أدناهم عامة الشعب، وهم أكثر من 90% من مجموع سكان فارس، ومنهم العمال والفلاحين والجنود والعبيد، وهؤلاء ليس لهم حقوق بالمرة، لدرجة أنهم كانوا يربطون في المعارك بالسلاسل؛ كما فعلوا في موقعة الأُبلَّة ([8]) أولى المواقع الإسلامية في فارس بقيادة خالد بن الوليد([9])”.

وضع البوذية:

فقد جاء في السيرة النبوية للعلامة أبي الحسن علي الندوي عن البوذية في قرن البعثة : أما البوذية فقد فقدت بساطتها وحماستها، وابتلعتها البرهمية الثائرة الموتورة فتحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبنى الهياكل، وتنصب تماثيل بوذاً حيث حلت ونزلت ([10]).

 

وضع البرهمية:

أما البرهمية- دين الهند الأصيل – فقد امتازت بكثرة المعبودات والآلهة والإلهات، وقد بلغت الوثنية أوجها في القرن السادس فبلغ عدد الآلهة في هذا القرن إلى 330 مليون، وقد أصبح كل شيء رائع، وكل شيء هائل، وكل شيء نافع، إلها يعبد، وارتقت صناعة نحت التماثيل في هذا العهد، وتأنق فيها المتأنفون([11]). وأن النظام الطبقي السائد في المجتمع الهندوسي أو البرهمي يعد من أبشع النظم على وجه الأرض قاطبة. إنهم قسّموا المجتمع إلى أربع طبقات؛ أدناهم المنبوذين (شودر)، وكانوا يعدون أحط من البهائم. وأما المرأة فقد قضت فيها شرائع منو (منوسمرتي) بأن الوباء والموت والجحيم والسم والأفاعي والنار خير من المرأة ([12]). وكانت تحرق عندما يسبق الأجل زوجها ([13]).

وضع أوربا:

أما الأمم الأوربية – المتوغلة في الشمال والغرب – فكانت تعيش في ظلام الجهل والأمية، والحروب الدامية، وكانت بعيدة عن جادة قافلة الحضارة الإنسانية، والعلوم والآداب، لا شأن للعالم بها ولا شأن لها بالعالم ([14]).

ويشير المؤرخ الفرنسي رينو إلى وضع أوربا قبل الإسلام: طفحت أوربا في ذلك الزمان بالعيوب والآثام، وهربت من النظافة والعناية بالإنسان، والمكان، وزخرت بالجهل والفوضى والتأخر، وشيوع الظلم والاضطهاد، وفشت فيها الأمية([15]). وأما وضع المرأة فلايختلف عن جنسها في الهند. يشير البكري إلى أنهم عندما يحرقون الميت عند موته تأتي نساء الميت فيقطعن أيديهن ووجوههن بالسكاكين، وبعض النساء المحبات لأزواجهن يشنقن أنفسهن على الملأ فتحرق الجثة بعد الموت وتوضع مع زوجها الميت ([16]).

وضع الجزيرة العربية:

وحالة العرب في الجزيرة العربية قبل البعثة بئيسة جدًا. يقول العلامة أبوالحسن علي الندوي: “أما العرب فساءت أخلاقهم، فأولعوا بالخمر والقمار، وبلغت بهم القساوة والحمية المزعومة إلى وأد البنات، وشاعت فيهم الغارة وقطع الطريق على القوافل، وسقطت منزلة المرأة، فكانت تورث كما يورث المتاع أو الدابة، وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء من غير تحديد، ومنهم من كان يقتل أولاده خشية الإنفاق وخوف الفقر والاملاق. وكانت العصبية القبلية والدموية شديدة جامحة، وأعزموا بالحرب حتى صارت مسلاة لهم وملهى، وهانت عليه إراقة الدماء، فتثيرها حادثة تافهة، وتدوم الحرب أربعين سنة ويقتل فيها ألوف من الناس”([17]).

وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة، ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء ([18]). “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون”([19]).

بعثة خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم إلى بلاد العرب:

وفي هذه البيئة المعاصرة للرسالة السماوية الأخيرة، وهي رسالة الإسلام بعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كخاتم الأنبياء والرسول، فانتهت إليه الرسالة والنبوة، وقد بعثه الله تعالى في إحدى مدن الجزيرة العربية؛ مكة المكرمة. ومن المهم جدًا أنه ساد خطأ فاحش في طبقة المثقفين المعاصرين وبالأخص غير المسلمين منهم؛ بأن محمد – صلى الله عليه وسلم – هو مؤسس ديانة الإسلام، مثل البوذية والجينية والماركسية وما إلى ذلك، والصحيح أن الإسلام هو دين واحد اختاره الله تعالى للإنسانية القاطبة منذ أول نبي وهو أبونا آدم عليه السلام  إلى كائن إنساني آخر حتى يوم القيامة، وكل الرسل والأنبياء جاءوا بهذا الدين، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو مُكمل للرسول ومنته للرسالات السماوية. على كلٍ، إنه بعث في مكة المكرمة للعالمين بشيرًا ونذيرًا.

ولابد من البحث عن نقطة مهمة للغاية وهي لماذا بعث النبي في الجزيرة العربية؟

حيث ذهب بعض الناس إلى أن بلاد العرب لم تكن صالحة لدين سماوي يدعو إلى الحداثة والتقدم، كما تقول الأديبة البريطانية الشهيرة كارين أرمسترونج: ” الواقع أن بلاد العرب كانت تعتبر منطقة ذات طبيعة بالغة القسوة، ولم ينجح أي من الأديان المتقدمة التي ارتبطت بالحداثة والتقدم، في النفاذ إلى تلك المنطقة، وكانت كل قبيلة تهجم على الأخرى وتحاربها للحصول على الأموال، وكانت الفتيات يُقتلن في طفولتهن بدون شفقة أو رحمة، والنساء شأنهن شأن العبيد”([20]).

مع أن الجزيرة العربية مهد نبوات كثيرة ومبعث عدد من الأنبياء وقد جاء في القرآن: “واذكر أخاً عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف، وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه الاّ تعبدوا إلاّ الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم” ([21]).

فياليت شعري كيف يسوغ للأديبة أن يطلق على بلاد العرب بأنها لم تكن صالحة لدين يرتبط بالحداثة والتقدم؟؟ بل العكس هو الصحيح. حيث بات الدين الحنيف، وهو ملة أبينا إبراهيم، سادت في بلاد العرب، وتوحي عدة الدراسات إلى أن المؤحدين كانوا متواجدين في بلاد العرب، حتى عند مبعث الرسول، وتدل آيات القرآن على هذه الحقيقة.

وقد أشار العلامة أبي الحسن علي الندوي إلى عدة أسباب دعت إلى اختيار أرض العرب لرسالة الإسلام الأخيرة، منها:

أولاً – السذاجة والبساطة: عاش العرب حياة بسيطة خطتها يد الجهل والبداوة، وبالتعبير العلمي الحديث كانوا أصحاب “الجهل البسط” الذي تسهل مداواته، بينما كانت الأمم المتمدنة الراقية مثل الروم، والفرس، وأهل الهند، ذو أصحاب عقد نفسية وفكرية، فلم يكن من السهل حلها، وكانوا مصابين بـ “الجهل المركب” الذي تصعب مداواته وإزالته، فكان العرب على الفطرة، وأصحاب ارادة قوية، إذا التوى عليهم فهم الحق حاربوه، وإذا انكشف الغطاء عن عيونهم أحبوه واحتضنوه، كما نرى في قول سهل بن عمرو، والذي قاله حين سمع ماجاء في كتاب الصلح في الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك” ([22]). وما قاله عكرمة بن أبي جهل حين حمى الوطيس في معركة اليرموك، واشتد عليه الضغط: “قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل موطن وافر منكم اليوم؟!” ثم نادى من يبايع على الموت، مبايعه من بايعه، ثم لم يزل يقاتل حتى أثبت جراحاً وقتل شهيداً ([23]).

ثانيا- خصال طيبة وصفات كريمة: وبالرغم من وجود بعض المساوئ الاجتماعية في العرب، تمتعوا بخصال طيبة وصفات نبيلة، حيث فرضت عليهم الطبيعة الصحراوية حياة خاصة، قد انطوت نفوسهم على خصال طيبة، وصفات كريمة، وميول سامية وراءها دوافع قوية، وحيوية فائقة، فكانت منطقة الجزيرة العربية أرض خصبة لاستجابة الدعوة الربانية.

ثالثا – الشخصية المتماسكة: طبع العرب على شخصية متماسكة، متفانية للأغراض النبيلة، كما طبعوا على التضحيات للآخرين، ولأجل القضايا الاجتماعية.

ومن هنا اختارهم سبحانة وتعالى للرسالة السماوية النهائية، غير أن العرب بالرغم من ميزاتهم السائغة لاستجابة الرسالة الربانية كان ينقصهم العقلية الصالحة، التي توجههم في هذه الحياة، وتؤثر في جميع تصرفاتهم، كما كان ينقصهم النظام الحسن فما أن وجد وهما في الإسلام دين الحنيفية السمحة، والفطرة الصافية حتى كانوا خير حافظ لها، بعد أن أمنوا بها، وتجاوبوا معها، وأصبحوا أول داع إليها، ومن ثم فتحوا قلوبهم للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وأصغوا إليه، والتفوا حوله ينهلون من المعين الذي لا ينصب، ويتلقون تعاليم الإسلام من رائده، ليقوموا برودهم في هداية الناس جميعاً، وهكذا تضافر العامل الفطري الذي تميز به العرب مع العامل المكتسب الجديد (الروحي)، فظهر الرعيل الأول الذي حمل مشعل النور والحق إلى العالم، وساهم في تحرير الإنسان من عبودية النظام والجهل والفقر، وأخذ بيده إلى سبيل السداد والرشاد، ظهر ذلك الرعيل العظيم الذي نقل القرآن الكريم والسنة الطاهرة بكل أمانة وإخلاص ([24]).

مقومات المجتمع الجديد وأسسه:

وقد شهد المجتمع البشري مع انتشار هذه الرسالة تحولات جذرية في البنية الاجتماعية وهيكل المجتمع؛ وكان من مقومات المجتمع الجديد وأسسه:

  • الإيمان بالله تعالى الذي أجمع كلمتهم ووحد جمعهم على الإيمان بإله واحد بعد أن كانوا مشتتين في عبادة الأوثان.
  • التضامن: وكان الأساس الثاني لهذا المجتمع التضامن والإخاء، الذي جعلهم إخوة متعاونين متحابين، وانطلق هذا التضامن من قوله صلى الله عليه وسلم : “مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذ اشتكى منع عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”[25]. وقد تضمن التضامن القيم الاجتماعية التالية:

الف: التكافل الاجتماعي

ب: الآداب والقيم الخلقية والسلوكية وضوابطها

ج: الشورى والترابط بين أفراد المجتمع الجديد

هذه هي خلاصة النظام العائلي وأسسه ومقوماته الرئيسي، التي لعبت دورا فعّالاً في توجيه المجتمع البشري إلى ما فيه صلاحه في الدنيا والآخرة.

تأثيرات الرسالة المحمدية في بناء المجتمع الجديد:

وقد أدت الرسالة إلى تغييرات جذرية في المجتمع العربي، فانقلبت الأمور رأسا على عقب، وحل الوئام محل الخلاف، والألفة والرحمة مكان الغلظة والقسوة، وقد أوجز سفير الإسلام الأول إلى الحبشة جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قائلا: “فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقهُ وأمانته وعفافه، فدعانا الى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن واباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة”[26].

ونختم كلامنا بختام صاحب السيرة النبوية : ” وهكذا خرج العرب باعتناقهم هذا الدين الحنيف من نطاق القبيلة الضيق المغلق إلى صعيد الإنسانية الواسع، ومن اطار الصحراء إلى العالم الشاسع، وانقلبت رابطة الدم والقرابة إلى الأخوة في الدين، وانتهى نظام القبيلة وحل مكانه نظام الدولة الإسلامية في مختلف مرافق الحياة. وانتقلت جمعيتهم للقبيلة إلى نصرة الحق، والأخذ بيد المظلوم وانصافه، وأصبح اعتزازهم بالإسلام وبما يقدمونه من تضحيات و خدمات في سبيل ذلك بدلا من  اعتزازهم بالأنساب، واتجه حبهم للأمجاد والبطولات صعداً إلى تحقيق ما يرضي الله و رسوله، تحولت شجاعتهم وجرأتهم المحصورة في النطاق القبلى إلى شجاعة وجرأة في سبيل نشر الدين الجديد، وتحول كرمهم الذي بلغ حد السرف إلى إعانة الفقراء وإغاثة الملهوفين، وتزويد الجيوش للدفاع عن معتقداتهم وعن إخوانهم في الدين، وتحرير الأمم من حيز العبودية إلى الحرية وعبادة الله إله واحد… فكان الإسلام شرفاً عظيماً لهم كما قال تعالى: ” وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون” ([27]). والذكر هو الشرف العظيم، وكان العرب بحق كما قال الله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ([28]).”

 

 

 

الهوامش:

([1]) السيرة النبوية لأبي الحسن الندوى ص 23 – 34 (مطبع دار الشرق جدّة)الطبعة العاشرة عام 1415ه /1995م

([2] ) مسلم بن حجاج القشيري، صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم الحديث(2865)، وابن حبان، رقم الحديث (654).

([3]) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الحسني الندوي، ص 38. (دار القلم كويت)وص:46(من المجمع الإسلامي العلمي)الطبعة الأولى 1415ه/1994م

([4] ). شلبي، مقارنة الأديان (2/188)، وعفيف طيارة، روح الدين الإسلامي، ص 271.

([5] ). المقريزي، الخطط (4/392).

([6] ). سفر الجامعة، الإصحاح السابع، الفقرتان: 25-26.

([7])السيرة النبوية لأبي الحسن الندوى ص 54 – 54.

([8] ). ياقوت الحموي، معجم البلدان (1/43).

([9] ). السرحاني، راغب، العالم قبل الإسلام (مقال منشور على موقع طريق الإسلام، بتاريخ: 7، 4/ 2014م)، من خلال الرابط:

(https://ar.islamway.net/article/25741).

([10])  السيرة النبوية لأبي الحسن الندوى ص 54 – 54.

([11])   السيرة النبوية لأبي الحسن الندوى ص 30.

([12] ). شلبي، مقارنة الأديان – الإسلام (72-74)، د. حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام (1/179-182).

([13] ) . أبوالحسن، علي الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، 75-76.

([14]السيرة النبوية لأبي الحسن الندوى ص 39.

([15] ). جوزيف رينو، مؤرخ فرنسي اهتم بالتأريخ للفتوحات الإسلامية لفرنسا وأوروبا، توفي عام 1986م، وجوزيف رينو، تاريخ غزوات العرب، ص 295.

([16] ). أبو عبيد البكري: جغرافية الأندلس وأوروبا من كتاب المسالك والممالك ص 186،187.

([17] ). الندوي، أبوالحسن علي، السيرة النبوية، ص 41.

([18]ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الحسني الندوي، ص 72.

([19]سورة الروم 41.

([20] ) . كارين أرمسترونج، محمد، ترجمة د. فاطمة نصر، كتاب سطور ص85-95.

([21]سورة الأحقاف آية 31.

([22]) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير باب صلح الحديبية ج 2 ص 104 – 105.

([23]) السيرة النبوية لأبي الحسن الندوى ص 43.

([24]) أبو هريرة راوية الإسلام ص 13 – 17.

([25] ) . رواه أحمد (30/ 323 ) مخرج، و صحيح مسلم (4/ 1999) ، والمنتقى من منهاج الاعتدال في نقص كلام أهل الرفض والاعتوال للذهبي (1/ 433).

([26] ).  عبدالرحمن بن حسن ، المورد العذب الزلال في كشف شبه أهل الضلال (1/312) دار العاصمة، بالرياض، 1349هــــــــ، إبراهيم بن عمر بن حسن البقاعي،  نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (12/259) دار الكتاب الإسلامي، بالقاهرة، 2010م، الموسوعة القرآنية: 36- الهجرة الأولى إلى الحبشة (1/61)، مؤسسة سجل العرب، 1305هــــ، منشورة على المكتبة الوقفية للكتب المصورة.

([27]) سورة الزخرف 44.

([28]) سورة آل عمران 110.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *