الدكتور وصي الله  الندوي

هذا الكتاب صدر لأول مرة عام 1963م، وأحدث صدى كبيرا في الأوساط الأدبية والصحفية، ووزع توزيعا ضخما، حتى أصبح أكثر الكتب توزيعا بشهادة منظمة اليونيسكو حيث طبع عدة طبعات نفدت كلها. وقد أثار الكتاب إعجاب الدكتور طه حسين فكتب مقالا في صحيفة “أخبار اليوم” سجل فيه مدى متعته بقراءة هذا الكتاب، ومما قاله في هذا المقال:

“هذا كتاب ممتع حقا، تقرؤه فلا تنقص متعتك بل تزيد كلما تقدمت في قراءته، ومع أنه من الكتب الطوال جدا فميزته الكبرى هي أنك حين تقرؤه لا تحتاج إلى راحة، وإنما تود لو تستطيع أن تمضي فيه حتى تبلغ آخره في مجلس واحد، لأنك تجد فيه المتعة والراحة والسلوى وإرضاء حاجتك إلى الاستطلاع”[1].

ثم كتب طه حسين مقدمة لطبعته الثالثة بأسلوب شيق يقول فيها: “ومن المحقق أن هذه الرحلة الرائعة يمكن أن تقرن إلى الرحلات العربية القديمة، من يدري لعلها أن تمتاز عنها ببعض الخصال، فصاحب الكتاب حلو الروح، خفيف الظل، بعيد أشد البعد عن التكلف والتزيد والإدلال، بما يصل إليه من الغرائب التي يسجلها في كتابه، وإنما هو يمضي في الكتابة مع اليسر والإسماح، مرسلا نفسه على سجيتها، مطلقا لقلمه الحرية في الجد والهزل وفيما يشق وما يسهل، لا يتكلف الفصحى ولا يتعمد العامية. وإنما كتابه مزيج معتدل منسجم من اللهجتين، وهو لا يقصد إلى أن يبهرج ولا إلى أن يغرب عليك في لفظ أو معنى، وإنما يستجيب لطبعه ويظفر برضاء الطباع السمحة التي تكره التكلف والتحذلق والإسفاف”[2].

ويقول: “وقد أخذت في قراءته ذات يوم فكان أشد ما أضيق به العوارض التي تعرض فتصرفك عما أنت فيه على كرهك لهذا والضجر به والإحساس الذي لا يفارقك في أثناء القراءة هو أنك مع الكاتب تشهد ما يشهد وتسمع ما يسمع وتجد ما يجد من ألم أو لذة ومن سخط أو رضا، تسافر معه وتقيم حين يقيم مع أنك لا تبرح مكانك. وإنما هي براعة الكاتب وإسماحه يستأثران بك ويخيلان إليك أنك تلزمه في حركته وسكونه كأنك ظل له لا تفارقه”[3].

يصف أنيس منصور تجربته التي ضمنها هذا الكتاب المثير الممتع فيقول: “لقد كان العالم كتابا كريما عريضا طويلا غنيا بألفاظه ومعانيه، كنت أقرأ بعقلي وقلبي وأقلب الصفحات بيدي ورجلي، وكنت أضع حقيبتي الوحيدة في مهب الطائرات والعواصف، وأنا لا أدعي أنني ألممت بكل شيئ ولا رأيت كل شيئ ولا حتى رتبت هذا الكلام. وإنما نشرته كما كتبته بنفس الانطلاق والسرعة والمرح فقد كان المرح والسخرية هما التعويض الوحيد الذي كانت تناله نفسي من التعب والإرهاق والوحدة، فقد كنت مسافرا وحيدا، في يدي حقيبة بها ملابس قليلة جدا، وكلما بليت الملابس ألقيتها واشتريت غيرها”[4].

جاءت فصول هذا الكتاب صورة لأفكاره ومتاعبه ومشاكله، فقد كتب هذه الفصول جالسا مقرفصا في سريره هربا من البعوض وأحيانا خوفا من الأفاعي والعقارب، وكتبها تحت أشجار الموز وكتبها في ظلال جوز الهند وعلى منضدة استأجرها من حديقة الدومين في مدينة سيدني، وكتبها على مصابيح الجيشا في كيوتو وسجلها وكان مريضا وسجلها وكان خائفا من الطريق الطويل الذي لم يمش فيه أحد قبله.

ثم يقول أنيس منصور في مقدمة الطبعة الثانية: “ولو طلبت مني أيها القارئ أن ألقي قلمي الآن وأدور حول العالم من جديد، نفس الطريق ونفس الأمراض ونفس المخاوف فإنني لن أتردد، فليس في الدنيا أروع من أن يستمتع بقراءتها بعد ذلك كل الذين لم يسافروا وكل الذين يحلمون ببلاد بعيدة جديدة”[5].

ومن الأدباء الذين أعجبوا بهذا الكتاب وترك لديهم أعمق الأثر وأبلغه الأديب الكبير محمود تيمور الذي قال عنه: “لا ريب أن كتاب “حول العالم في 200 يوم” من خير ما أنتج أنيس منصور، ولعل إيثاري له يرجع إلى شغفي بالرحلات وكتب الرحلات، حتى أني أقحمت نفسي في هذا الميدان بما كتبته في وصف بعض السفرات التي قمت بها فيما وراءالبحار. وكاتب الرحلات الناجح لابد أن تتوافر له ألمعية الملاحظة ورهافة الفطنة وسرعة الالتقاط والقدرة على استبانة الملامح والمعالم، وبخاصة ما يدق منها على النظرة العابرة وما يتصل منها بالعادات والسلوك والأوضاع الاجتماعية التي لا تخلو من غرابة. وكل هذه المؤهلات تستجمع للأستاذ أنيس منصور وهو يضرب بعصاه الأرض ويشع نظراته هنا وهنالك فتخترق الزوايا والخبايا”[6].

وفي هذا الكتاب تتجلى روح الظرف والمنادمة، وفيه أوصاف شائقة للمشاهدات والانطباعات في أسلوب كثير التوابل. وفي نفس المقدمة يذكر قصته مع هذا الكتاب الممتع فيقول:

“ولي مع هذا الكتاب قصة، اشتريته، استعظمت حجمه فتهيبت أن أشرع في قراءته كما استعظمت من قبل الإلياذة والأوديسة متهيبا أن أمضي في قراءتهما بادئ بدئ، وتركت كتاب أنيس منصور على مكتبي أخالسه النظر بين يوم ويوم، لا أمد إليه يدا، رحلة طويلة عريضة استغرقت مئتين من الأيام، وأكثر من ست مائة صفحة من القطع الكبير، وساعة وجدتني أتملى بعض صحائفه وأنظر فيما صور من صور، وبغتة ألفيتني إنما تهبط بي طائرة حوامة هليكوبتر في هونج كونج. وسرعان ما طوتني زحمة الناس في أسواقها وطرقاتها، أتطلع إلى مبانيها الشواهق وأجوب دروبها الملأى بغرائب السلع، ثم أعطف على نواديها الليلية ذات الطابع البراق ووقعت عيني على هذه الفقرة:

“الصيني رجل متفوق في عمله، يفكر بيديه ويتفلسف بمعدته، لذلك الأدب هزيل عنده، والموسيقى تدل على براعة الصينيين في شيئ واحد هو أنهم استطاعوا أن يحبسوا عشرات القطط والفيران في آلاتهم الموسيقية، فالبيانو صراع دائم بين دجاجة وراءها عشرات من الكتاتيت الصغيرة ضد عرسة كاسرة. أما القيثارة فهي تشبه أفعى تكومت على صدر أحد الحواة تنتظر عصفورا أطلقه أحد المتفرجين. أما بقية الأصوات الموسيقية فهي تشبه ضرب الحلل بالملاعق ثم ضرب المستمعين بالجزم”[7].

ومضى يقرأ واندمج في القراءة، وكل جارحة في جسده تبتسم، كما هو يستطرد في نفس المقدمة قائلا: “وأقبلت على اليابان وأنست ببنات الجيشا، وهبطت أمريكا وزرت هوليوود وتركت مدينة السينما والهواة والشباب ونسيت نفسي حتى أيقظتني الصفحة الأخيرة من الكتاب فإذا بي لم أقرأ إلا شطر الكتاب الثاني فعدت إلى الشطر الآخر من أول صفحة لأستكمل قراءة الرحلة”[8]. ولقد أعادت رحلة أنيس منصور إلى ذاكرتي كتاب جول فيرن المسمى بـ”الطواف حول الأرض في ثمانين يوما”، والشيئ الباعث على الحيرة هنا كيف استطاع جول فيرن إتمام طوافه في هذه المدة القصيرة وهو يتخذ وسائل المواصلات القديمة، من بواخر بدائية إلى فيلة بطيئة الخطى، إلى نعال غليظة تعوق السير، على حين استنفدت رحلة أنيس منصور أكثر من ضعف هذه المدة، وهو الذي كان لا يترك في تنقلاته طائرة إلا ليستقل أخرى، إن هذا حقا لغز، وما أحسب أن حله بالأمر اليسير. ليس كتاب أنيس منصور المحتوي على رحلته هو كل ما كتب من هذا اللون، فالحق أن فصوله ومقالاته ليست إلا رحلات متواصلة، سواء أكانت في آفاق الأرض المحدودة، أم كانت في العوالم الفكرية التي ليس لها من حدود”[9].

“حول العالم في 200 يوم” لأنيس منصور الذي فاز به بجائزة الدولة التشجيعية سنة 1962م من الرئيس جمال عبدالناصر، كما يقول مأمون غريب:

“وأشهر كتب أنيس منصور في مجال الرحلة هي بلا شك كتابه “حول العالم في 200 يوم” الذي كان أكثر الكتب توزيعا بشهادة اليونيسكو، كما أنه الكتاب الذي نال عليه جائزة الدولة، ووصفت لجنة التحكيم كتابه الفائز بالجائزة بأنه الكتاب الذي ألف نتيجة رحلته العقلية التي سجل في أثنائها انطباعاته الشخصية إلى جانب ما انطوى عليه كتابه من معلومات جديدة تصور الحياة كما رآها، فبدت في الكتاب انطباعاته الشخصية من نواحي المعرفة العامة والفن الشخصي وأنه تحرى الصدق بحيث لم يصبح كتابه دعاية أو تشويها للحقائق أو لغاية معينة، وإنما لصاحبه أسلوبه الذاتي في التعبير والكتابة مما يدخل مؤلفه في عداد الكتب الأدبية التي ترتفع إلى مستوى الجائزة”[10].

قد أخذت هذه الرحلة من صاحبها سبعة أشهر تطوافا، وأخذت من المتلقي حوالي سبعمائة صفحة من القطع الكبير قرأة، زار فيها أنيس منصور اليابان والهند وسيلان وسنغافورة وإندونيسيا وأستراليا وهونج كونج ثم أمريكا. كما يكتب المؤلف في مقدمة الكتاب:

“والمسافر كما يقال المثل الإنجليزي يجب أن يكون له عينا صقر ليرى كل شيئ، وأن تكون له أذن حمار ليسمع كل شيئ، وأن يكون له فم خنزير ليأكل أي شيئ، وأن يكون له ظهر جمل ليتحمل أي شيئ، وأن تكون له ساقا معزة لا تتعبان من المشي، وأن يكون له –وهذا هو الأهم- حقيبتان، إحداهما امتلأت بالمال والثانية بالصبر، وقد حفظت هذا المثل جيدا، وإن كنت قد نسيت كثيرا ما الذي أفعله كالصقر، وما الذي أفعله كالحمار ولكن لم أنس أن أكون جملا وأن أصبر، فالله مع الصابرين”[11].

من الموضوعات التي اعتنى بها الكاتب عناية زائدة، من أهمها قارة آسيا وخاصة لتلك الأيام التي تحررت أرضها من استعمار الرجل الأبيض، إنه يؤمن أن آسيا هي الوجه الجديد للدنيا في الغد القريب، لذلك يأخذ أنيس منصور على وزارة الخارجية أنها تنظر إلى هذه القارة كمنفى للموظفين ومكان لا يستأهل الاهتمام كأوربا، وما أكثر ما صاح أنيس منصور في هذه الوزارة: “إلى الشرق قليلا وفي كثير من الواقعية الخطر هنا، المستقبل، الزحف، الحياة، كله هنا في آسيا”[12].

كان أدب الرحلات في المفهوم القديم يكاد ينحصر في تجميع أكبر كمية من الغرائب والعجائب، وكان السائح يحاول كل المحاولة أن يبهرنا بها ولكن لقد تغير الوضع الآن وأصبحت هذه النوادر تجئ على هامش تناول الشعب ذاته معللة مفسرة من وجهة نظر غير ضيقة لا تلتمس العيوب أو تنكر طبائع الشعوب، بل متعاطفة معها محبة لها، كما فعل أنيس منصور في رحلته حول العالم، على سبيل المثال نعرض نموذجا واحدا، إنه يعرض في حديثه عن الهند للأفاعي وحب الهند لها حبا جما. ولكنه لا يقف بنا عند الخبر التقريري الذي قرأناه في الكتب الأخرى عشرات مرات من قبل، بل يفسر ويحلل قائلا:

“إن الفيران الكثيرة في الهند تلتهم محصول الأرز والقمح، هذان الغذاء الرئيسي للشعب، وفقدانه يعرض البلاد للمجاعة، والأفاعي تطارد الفيران وتأكلها، فالناس هنا في الهند يختارون ما هو أقل ضررا فاختاروا الثعبان لأنه أهون من انتشار الفيران وضياع المحصول”[13].

لا يكتفي أنيس منصور في تحليله بذلك بل يستخلص النتائج العامة أيضا: “إنني رأيت الأصل في كل شيئ هو مدى ضرورته للإنسان، فإذا كان الشيئ ضروريا جاء الدين ووضع عليه تاج القدامة”. ويقول: “إن هذه الثعابين تأكل الفيران، والفيران إذا لم تأكلها الثعابين فإنها تأكل حقول القمح، ويصرخ الكاتب في تلك المقالة التي قرأها أنيس منصور هل عرفتم هذه الحقيقة؟ إن الفيران هي التي تأكل القمح قبل أن يتحول إلى دقيق لكم ولأولادكم، فلماذا لا تتركون الأفاعي والثعابين تدافع عنا بلا مقابل[14]“.

هكذا نرى أنيس منصور أنه لا يرتبط أساسا بذكر الأشياء النادرة بل يلتفت إلى الواقع الذي يتعلق بالحياة الشعبية العادية الخصبة التي يتنفسها الناس في بلادهم، وهذا هو أحد الفروق بين كاتب الرحلة في القديم والحديث، وكاتبنا هو يعيش التجربة، أنه لا يتحدث من خارجها، بل يحاول أن يشارك فيها ما أمكنه. ولذلك فهو يرتدي مثلا “الدوتي” هو عبارة عن فوطة تلتف حول الوسط وليس فوقها إلا القميص كما يفعل أبناء الهند وسيلان، ويسير بهذا اللباس في المطر بلا جورب وحذاء ويدفع الثمن في صورة انفلونزا الحادة كما هو يذكر:

“قد حدث عندما كنت في جنوب الهند أن استمرت الأمطار تتساقط يومين متواليين، لا أستطيع أن أخرج من غرفتي وإذا خرجت فلكي أتأكد من أن الأمطار لن تصل إلى سريري، رأيت أنها فرصة لكي أجرب الدوتي”[15].

وهكذا يفعل حينما يزور طوكيو ففي أول ليلة يطلب الطعام الياباني ويتناوله بشراهة تضطره إلى أن يلزم الفراش أسبوعا كاملا كما يبين:

“وبعد ذلك دخل المدير وانحنى ووضع أكوابا وفيها ألوان سائلة خضراء حمراء صفراء وعرفت فيما بعد أن هذه شوربة الخيزران الأخضر، وهذه قواقع بحرية وهذه أذيال ثعابين مائية، ثم هذا طبق من السمك، ولسبب غير مفهوم قررت أن آكل هذه الأشياء جميعا، وقد نسيت هذه الأكلة وتعمدت أن أنساها ولا يذكرني بها الآن إلا بعض زجاجات الفيتامين (يو) وبعض الانترفيوفورم، ولقد ظلت بطني تمغص أسبوعا كاملا ولزمت الفراش وكلما سمع أحد اليابانيين ذلك يندهش، كيف أجرؤ على هذه الأشياء مرة واحدة”[16].

حينما نرى أسلوب أنيس منصور فنجده شائقا ممتعا، وكذلك لا نجد نظيره كثيرا عند أساتذة الفلسفة الذين يكتبون في الصحف. يستخدم الأسلوب التلغرافي ولكنه في استعماله لا يهبط به إلى أن يكون جافا أو عاميا أو مبتذلا، وهو كصحفي يعرف كيف يستولي على الجماهير ويستحوذ على انتباهها بالأشياء التي تهتم بها وتبحث عنها كما يذكر علاء الدين وحيد:

“وفي بعض الأحيان يظن الأستاذ أن القارئ لا يمكن أن يكتفي بما طالع من أشياء جديدة أو طريفة، أو أن الأسلوب ليس بالطرافة أو الامتياز المعهودين فيعمد إلى المزيد من وسائل التشويق أو تغيير القالب الذي يكتب فيه كما فعل في عدة مواضع في هذا الكتاب “حول العالم في 200 يوم” الذي جمع بين الشكل المسرحي والموضوع الطريف والأسلوب الفكاهي”[17].

هكذا إذا نتحدث عن عيوب هذا الكتاب الذي نواجهه منذ الفصول الأولى، فهو التكرار ولا نعني أن أنيس منصور ينظر إلى الأشياء في مختلف البلدان بنفس النظرة بل إنه يكرر الحديث نفسه أكثر من مرة، ولقد اعترف الكاتب بهذا النقص في مقدمته التي حاول بها أن يستلب كلمات النقد بتصنعه الإشارة إلى ما في كتابه من ضعف.

يقول أنيس منصور: “وأحيانا كنت أكرر بعض المعاني تماما كالمطرب الذي يعيد ويزيد”[18] متمثلا هنا بالمطرب الذي يعيد ويزيد، ولكن بعيدا عن سلاسة أسلوب صاحبنا وخفة دمه نرى أن التكرار يمثل ظاهرة الاستهتار بكل عبثها، والاستهانة بالقارئ رغم كل تبرير ساذج، كما يقول علاء الدين وحيد في كتابه “أنيس منصور: بين بلاد الله وخلق الله”:

“إن أنيس منصور لم يحاول أن يراجع مؤلفه قبل نشره ويسقط منه ما تكرر بصورة تبلغ حد السأم أحيانا، ولو أن الأمر اقتصر على تصنع فقرات أو صفحات لهان الأمر. بل شمل أحيانا الفصول الكاملة، كما في الفصلين الافتتاحيين “غريب في دنيا غريبة” و”أتمنى أن أعود” مثلا وإلى عدم الغربلة أو مراجعة الكتاب قبل دفعه إلى المطبعة تعود أيضا أشياء غير قليلة لا صلة لها بموضوع الرحلة، إلا إذا تصنعنا هذه الصلة تصنعا وتعللنا بأنه مهما اختلفت الموضوعات فصاحبها واحد، كما في كلمات أراكم بخير، زوج الاثنين، التي يتحدث فيها أنيس منصور عن جيرانه من العامة في القاهرة وفي السطر الأخير يذكر أنه لم يسمع الجديد من أصوات جيرانه لأنه على أهبة السفر”[19].

يبدو هذا الإهمال في مراجعة “حول العالم في 200 يوم” في أقبح صورة، والمؤلف لا يجمع في اتصال سياق واحد ما كتبه في موضوع واحد، بل يترك حديثه يتطوح به يمينا وشمالا في منعرجات بعيدة، ثم يعود إلى ما أراد تناوله في البداية ثانية، ولذلك أفسد على القارئ الكثير من الموضوعات الحيوية مثل “الشأي” و”عرابي في منفى”، وإلى هذا العيب نفسه يرجع شيئ آخر مثل ما نجده في الكتاب من تناقض، مثلا يقول: “أول من عرف الشأي في العالم فهي مرة اليابان[20] ومرة الصين[21]. ويقول أنيس منصور:

“انتشار الشائ في العالم له قصص غريبة، فيقال مثلا: إن أحد الملوك كان يغلي الماء في حلة ليشربه فسقطت فيه ورقة من شجرة فلاحظ أنها أعطت الماء لونا جميلا، وكانت هذه الحلة هي أول فنجان من الشأي في العالم وكان ذلك من خمسة آلاف سنة، وبعد ذلك انتقل الشأي من اليابان إلى الصين إلى الهند إلى سيلان إلى أوربا”[22]. وهكذا نرى تناقضا في تعداد مدينة طوكيو فهو مرة خمسة عشر مليونا ومرة أخرى ثماني ملايين”[23].

لم يهتم أنيس منصور في رحلاته على تعدد الجوانب العديدة التي تناولها بالحديث عن الفكر والجانب الأدبي، ولقد تجاهل هذا الحديث تماما وكأنه من المحرمات، أو مما لا يدخل في منهج أدب الرحلات أو مما لا يليق بأديب صحفي سائح أن يذكره. نعم إن بعض الصفحات تذكر أحيانا أسماء مؤلفات أو أدباء من الشرق والغرب مثلا علي محمود طه ونزار قباني وعبد الحميد جودة السحار وتولستوي ولكن لا دلالة لأسماء هذه الكتب والكتاب لأنها تجيئ على هامش الهامش كمئات غيرها من أسماء مجهولة. على سبيل المثال في عدة مواضع ذكر أنيس منصور أديبا روسيا تولستوي ولكن من هو؟ سكت تماما. ذكر الاسم فقط. يقول في موضع: “قرأت قصة للأديب روسي تولستوي والقصة معناها عميق بل لها عشرات المعاني العميقة”[24].

ويكفي أن نقدم بما كتبه أنيس منصور في كتابه “حول العالم في 200 يوم” عن جون رسكن فيقول:

“إنه لم يأت له بذكر إلا لأنه الوارث الوحيد لثروة ملك اللؤلؤ ميكوموتو الياباني الذي كان يهتم بهذا الأديب الإنجليزي ويجمع كل مخطوطاته، ومن الطريف أن يقف صاحبنا هذا الموقف بينما هو يهتم بالسينما بالذات، والوارث الوحيد لكل ثروة ملك اللؤلؤ هو شاب لا يهتم أبدا باللؤلؤ أو بتجاربه وإنما يهتم باللؤلؤ الحقيقي، وهو يفرق بين ثلاثة أنواع من اللؤلؤ، اللؤلؤ الحقيقي واللؤلؤ الطبيعي واللؤلؤ المزروع، أما اللؤلؤ الحقيقي فهو الفكر، هو الأدب والفن. ولذلك فهو مشغول جدا بدراسة الأدب وخصوصا الأديب الإنجليزي جون رسكن، وقد جمع كل مخطوطاته وكل كتبه وكل ما كتب عنه حتى أصبحت مكتبته تتألف من ثلاثة آلاف كتاب عن هذا الأديب بالذات”[25]. ووجه الطرافة أن هذا يحدث من واحد كأنيس منصور الذي كتب عن نفسه أكثر من مرة أنه لم يدخل دارا سينمائية في حياته إلا بعد الخروج من الجامعة، فهو يتحدث عن أفلام شاهدوها في اليابان وأخرى في هوليود مثلا.

في مقدمة الكتاب “حول العالم في 200 يوم” يقول أنيس منصور: “إنه حذف عشرات من الفصول السياسية لدرجة أن القارئ سيجد فصلا واحدا فقط عن دولة أقام بها أسابيع”[26].

قد بعث “حول العالم في 200 يوم” فن الرحلات والكتابة من جديد. بعد خمس سنوات من ظهوره ظهرت في المكتبة العربية كتب رحلات عديدة تحاول أن تقلد أسلوبه في الكتابة. قد أثر “حول العالم في 200 يوم” في تفكير آلاف الشبان المصريين ودفعهم نحو الهجرة واكتشاف عالم جديد، وأثرى حياتهم بمنظور جديد نحو العالم من حولهم. وجاء في حيثيات اللجنة التي منحت الجائزة القيمة عن هذا الكتاب:

“لأول مرة في تاريخ أدب الرحلات نجد فنا جديدا في الرواية والعرض والأداء، فعبارته جميلة قوية ونظرته نافذة عميقة واحتضانه لموضوعاته دافئة ساخرة، ولم نعرف كاتبا قبله في كل الأدب العربي حديثه وقديمه قد توفرت لديه الدراية الواسعة بالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والأدب والتشويق والإثارة في أسرع عبارة وأدق وصف، وفي الكتاب صفحات من الجمال والفتنة والرقة والقوة والجاذبية والسخرية التي تشدك وتبهرك، وفي النهاية لا تملك إلا أن تعجب وتتعجب لهذه القدرات الفريدة التي عرضها هذا المؤلف، فكتاب “حول العالم في 200 يوم” هو من أمتع وأبدع وأعمق وأشمل ما عرف الأدب العربي من حكايات ونوادر وحقائق في كثير من دول العالم، لا يقدر عليها إلا كاتب ذكي تمرس في التجربة تجربة المشاهدة والمعايشة والأدب الجميل بعد ذلك”[27].

لعل نجاح رحلات أنيس منصور يرجع في المقام الأول إلى أنه لا يتصنع، يعيش زياراته فيكتبها، يتنفسها أولا بلا قيود ثم يسجلها، إنه لا يخطط هندسيا لرحلته قبل البدء فيها، لا يلتزم بأشياء يضطر إلى تغطيتها، فقد جعل أنيس منصور الكرة الأرضية مسرحا للتعبير عن آرائه وأفكاره وغسل الحزن والقلق الذي كان يعانيه في طفولته وشبابه وكهولته، فصنع قرية صغيرة من العالم يبثها تلك المشاعر الغامضة وهكذا يلون عواطفه بمختلف ثقافات الشعوب والتقاليد والعادات ليظهر لنا في النهاية كإنسان كوني عادته الحب والانفتاح على الآخر.

أنيس منصور له مساهمات جليلة وقيمة في أدب الرحلة مع أنه قد ضرب بسهم وافر في فنون الكلام المختلفة من صحافة وقصة ومسرحية وترجمة وكتابة السيرة إلا أنه اشتهر بين القراء ككاتب رحلات خبير بارع. ومع أن جميع فصوله ومقالاته “ليست إلا رحلات متواصلة سواء أكانت في آفاق الأرض المحددة أم كانت في العوالم الفكرية التي ليس لها من حدود”[28].

يقول الدكتور سيد حامد النساج مشيرا إلى دور وأسلوب أنيس منصور في أدب الرحلات: “الكاتب المصري الذي جعل الرحلة همه بالليل والنهار، وحقق عن طريقها انتصارات صحفية، نال بسببها جائزة الدولة التشجيعية هو أنيس منصور، ألف عددا من الكتب تدور حول رحلاته الكثيرة وقدم من خلالها معلومات وشخصيات وطرائف متنوعة، أداته في ذلك لغة سريعة خاطفة وجمل قصيرة جدا وعبارات خفيفة لا عمق فيها ولا تحليل يرههقها. ومع أنه كتب كثيرا من المقالات والقصص والدراسات والمسرحيات والتراجم الذاتية فإنه اشتهر عند الجمهور القارئ محليا وعربيا بأنه كاتب رحلات وصاحب خبرة في نقلها”[29].

ظهر الكاتب “حول العالم في 200 يوم” عام 1963م فتناولته الأيدي بشوق شديد ونفدت له طبعات شتى في مدة قليلة، وترجمت عدة فصول منه إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية وترجمة كاملة باللغة الصينية، وكما نال الكتاب من عامة القراء حفاوة بالغة نال من كبار الكتاب والأدباء تقديرا كبيرا أمثال طه حسين ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم وكامل شناوي، لم ينل التقدير فقط بل يتجمل الكتاب بكلمات ضافية جميلة من طه حسين ومحمود تيمور وهكذا طه حسين.

ظهرت فصول الكتاب أولا في صورة مقالات في الصحف المصرية المختلفة ثم جمعت في كتاب لأنه الأستاذ آنذاك (نعني لدى دورانه حول العالم) كان يعمل لصحيفة “أخبار اليوم” وكانت زيارته للهند بصفته مراسلا للصحيفة المذكورة لتغطية الأزمة السياسية الناشئة بولاية كيرالا عام 1959م كما يصرح بذلك في مقابلته مع نامبودريباد. وفي مقدمة الكتاب يقول: “كنت أكتب ليلا ونهارا وكنت أبعث بمقالاتي لـ”أخبار اليوم” و”آخر ساعة” و”الجيل”[30]. وبعد انتهاء هذه الرحلة الطويلة جمع الكاتب المقالات من الصحف ورتبها في صورة كتاب بعد أن حذف كثيرا منها التي كانت من النوع السياسي كما ذكرنا سابقا. فاز أنيس منصور في تصوير ملاحم الترحال والسفر حول العالم، وكأن القراء يطوفون معه البقاع المختلفة يحملون همومهم لتندثر ويستبدلونها بقلمه بصور باهرة وتصويره الملحق بمؤلفه لتبدو الرحلات كأن القراء هم الذين يقومون بها في مشارق الأرض ومغاربها، وأنيس منصور ربان السفينة الحائر يظل يقوم بعادات وتقاليد شرقية وغربية وأوربية بين المدن، بعضها تقليدي بالنسبة للشعوب وبعضها غريب عن القراء بل عجيب، لكي تصل ذروة التفاعلات مع كلمات أنيس منصور عن لذة الترحال بالقراءة بين البلدان والشعوب ليجوب الأرجاء المعمورة في خضم البحث عن كل ما هوغريب وبديع، ليكون السفر عابرا بالقراءة لحدود العقل بصور ينقلها الكاتب فيما تعد فرصة لمعايشة الشعوب دون مشقة الترحال بتقليب وقراءة الصفحات ليرى العقل في تصورات البقاع السحرية بوحي الخيال، حتى لقب أنيس منصور بالسندباد العصري بهذا المؤلف الإبداعي. جاب أنيس منصور المعمورة ليلخص الحياة الاجتماعية والثقافية بقلمهه الرائع لشعوب الأرض في صفحات يقلبها المثقفون والعامة أيضا عبر الأزمنة.

كتابه “حول العالم في 200 يوم” كما يصف حسام محمود: “هو عنوان كتاب شهير يحمل معه إشارات من الكاتب أنيس منصور عن فحوى الترحال العابر للحدود بالسطور المصورة، عرض في هذا الكتاب معلومات عن الدول المختلفة خصوصا دول جنوب شرق آسيا مثل الهند وسيلان وسنغافورة وأستراليا واليابان والفلبين وهونج كونج ثم زار أيضا الولايات المتحدة الأمريكية وجزيرة هاواي فيتضح من خلال صفحات الكتاب أسلوب أنيس منصور في وصف الأحداث والأماكن حتى السخرية مما حوله”[31].

أنيس منصور كان دائم الترحل والتنقل من صباه إلى آخر يومه، لقد زار بيت أحمد عرابي خلال رحلته إلى سيلان الذي قد أصبح بعد وفاته متحفا، وهكذا كتب كثيرا عن الأشياء المختلفة التي رآها وشاهدها في رحلاته الطويلة فكتابه “حول العالم في 200 يوم” كتاب رائع بشهادة الكثيرين الذن جذبهم بقراءته مئات المرات فأعادوا قراءته من جديد، كما هو رأي حسام محمود:

“هذا الكتاب ليس مجرد وصف لتلك البلاد التي سافر إليها أنيس منصور فقط بل وصف البشر وأفكارهم وسلوكهم وتاريخهم، وهكذا وصف اللحظات أيضا عاشها أنيس منصور في تلك البلاد لكي يقرأ المتابع بعد ذلك الكتاب ليجد نفسه مع أنيس منصور يعيش في تلك البلاد ويتنقل في كل مكان حاملا ظهر صغيرة وكاميرا فوتوغرافية فقط وعقل كبير يستوعب كل ذلك العالم”[32].

كذا يقول مأمون غريب حول كتب أنيس منصور في أدب الرحلة: “يمكنك أن تجلس إلى مكتبك مع هذه الكتب يعني الكتب التي ألفها أنيس منصور كـ”حول العالم في 200 يوم” و”بلاد الله خلق الله” و”أعجب الرحلات في التاريخ” وغيرها أو تستلقي على سريرك أو تغلق نافذة القطار ثم تصطحب هذه الكتب بعدها تجد نفسك في الهند أو في هوليود، على هضاب التبت أو في أدغال أفريقيا، أو تحت صقيع سيبريا أو حرارة خط الاستواء مع جمال مارلين مونرو أو قداسة إله التبت، رحلات متعددة ممتعة فيها كل ألوان الطيف”[33].

ويضيف قائلا في موضع آخر ثناءا على كتبه في الرحلة: “وإذا كنت قد قرأت عن كرامة بعض أولياء الله الصالحين الذين يستطيعون أن يأكلوا فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فأنت في هذه الكتب تتناوب عليك الفصول الأربعة وتتداخل فاكهة الصيف مع فاكهة الشتاء وترى الدنيا كلها وأنت جالس مستريح أمام نافذة القطار أو على مكتبك أو أنت مستلق على سرير”[34].

هذا الكتاب ليس في صورة مذكرات يلتزم فيها الكاتب بقيد اليوم والشهر والسنة بل هو في صورة أي كتاب آخر، وهذا على هوى المؤلف إن شاء ذكر التاريخ أو لم يذكر، فعلى سبيل المثال إنه لا يذكر اليوم الذي بدأ رحلته حول العالم الطويلة وغادر مصر ومتى وصل إلى الهند أو إلى سيلان بينما يثبت في مكان تحت عنوان “قبلة في النهاية” اليوم أول يناير سنة 1960م وكل الناس ينصحونني بالبقاء بضعة أيام”[35]. وربما لم يحس المؤلف ضرورة ذلك لأنه ليس كتاب رحلة في المعنى التقليدي القديم فقط بل هو يجمع إلى جانب الرحلة الأدب والفن والفلسفة، ولا حاجة للأدب والفن والفلسفة أن تبقى رهينة الزمان والمكان هي في طبيعتها حرة تحب الحرية.

(الحلقة الأولى)

الهوامش

[1] أخبار اليوم، طه حسين، أغسطس، 1966م

[2] حول العالم في 200 يوم، مقدمة الطبعة الثالثة بقلم الدكتور طه حسين، ص 25

[3] نفس المصدر، ص 25

[4] حول العالم في 200 يوم، مقدمة الطبعة الأولى، بقلم المؤلف أنيس منصور، ص 9

[5] نفس المصدر، ص23

[6] حول العالم في 200 يوم، مقدمة الطبعة التاسعة، بقلم محمود تيمور، ص30

[7] حول العالم في 200 يوم ، أنيس منصور، ص 394

[8] نفس المصدر، ص 424

[9] حول العالم في 200 يوم، مقدمة الطبعة التاسعة، بقلم محمود تيمور، ص 31

[10] أنيس منصور حياته وأدبه، مأمون غريب، ص 27

[11] حول العالم في 200 يوم، أنيس منصور، ص 16

[12] نفس المصدر ، ص 246

[13] نفس المصدر، ص 96

[14] نفس المصدر، ص 96

[15] نفس المصدر، ص 141

[16] نفس المصدر، ص 411

[17] أنيس منصور بين بلاد الله وخلق الله، علاء الدين وحيد، دار سنابل للطبع والنشر والتوزيع، مصر، 1995م،  ص 21

[18]حول العالم في 200 يوم، أنيس منصور، ص 15

[19] أنيس منصور بين بلاد الله وخلق الله، ص 23

[20] حول العالم في 200 يوم، أنيس منصور، ص 132

[21] نفس المصدر، ص 143

[22] نفس المصدر، ص 159

[23] نفس المصدر، ص 494

[24] نفس المصدر، ص 458

[25] نفس المصدر ، ص 498

[26] نفس المصدر ، ص 15

[27] الاثنينية، حفل تكريم أنيس منصور، عبد المقصود خوجه،  23-11-1998م

[28] حول العالم في 200 يوم، ص 26

[29] مشوار كتب الرحلة قديما وحديثا، د. سيد حامد النساج، ص 113

[30] نفس المصدر، ص 37 و 116

[31] أنيس منصور يبرع في وصف بلدان وشعوب المعمورة في حول العالم في 200 يوم، حسام محمود، الوطن،20-يوليو- 2015م

[32] نفس المصدر، حسام محمود، الوطن،20-يوليو- 2015م

[33] أنيس منصور حياته وأدبه، مأمون غريب، ص 25

[34] نفس المصدر، ص 26

[35] حول العالم في 200 يوم، أنيس منصور، ص 596

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *