الدكتورة عائشة شهناز فاطمة، نيو دلهي

Fatma.shahnaz@gmail.com

((“إن من البيان لسحرا”رواه البخاري “إن من الشعر حكمة”رواه البخاري))

كان الشعر ديوان العرب ولا نكاد نعرف أمة من الأمم القديمة اهتمت بالشعر واحتفلت له كما اهتم العرب، ولذا لم يكن من الغريب أن يؤظف الشعر في الصراع الدائر بين دعوة الاسلام والمشركين، وكان من الطبيعي أن يتضمن الشعر المناصر للاسلام مديحاً للرسول، ويعدّ هذا المديح هو البذرة الأولى لفن المدائح النبوية الذي قدّر له بعد قرون أن يستقل بذاته ويصبح من أكثر موضوعات الشعر حظاً من القبول والذيوع.

كان أجدادنا شعراء العصر الجاهلي بارعين في المديح، ولكنه كان مقصوراً على القبيلة أو العشيرة، و كان يقابله الهجاء على الصفة الأخرى. ومع دخول شعراء كثيرين في دين الله تجولوا بكامل وجدانهم إلى اعلاء كلمة الحق، والدفاع عن دينهم، وصدّ غارات الشعراء الكفار الذين كانوا يهجون النبي الكريم. و بدأت المعاني القرآنية تشيع في الأشعار، وأصبحت هناك لغة جديدة تتسم بالإنسانية و الرقة وكل ما جاءت به أوامر الدين ونواهيه.

وقد امتدح الشعراء الأنبياء كلهم فقالوا في آدم و نوح وابراهيم و يعقوب ويوسف وداؤد وسليمان وعيسى عليهم السلام، مما نجده في كتب الأدب ومختارات الشعر كالثعالبي وغيره. ولكن هذا المديح كان يعرض لبعض الشعراء في بعض الأحيان لم يتتابع على العصور. ولم يتطور كما تطور الشعر في مديح المصطفى خاتم الأنبياء، وفي الثناء على رسالته التي جاء بها والاعتزاز بفضيلته وبيان آياديه على الاسلام والاشادة بمحامده.[1]

لا نستطيع تحديد التاريخ الفعلي لبداية الأغنية الدينية، ولكن لنتفق مجازاً على أن الحروف الأولى لهذا اللون من المديح والغناء الديني كانت أنشودة ((طلع البدر علينا)) التي قابل بها أهل المدينة رسولنا الكريم ابتهاجاً بهجرته إليها.

فشكلت شخصية النبي محمدمنذ بدايات الدعوة الاسلامية محوراً هاما للشعر العربي، أعرق الفنون العربية، وكانت شخصية الرسول دائماً موضوعاً أساسياً لأحد أهم الأنواع الشعرية، وهو الشعر الديني الذي يتناول موضوعات مثل الوحدانية والحب الإلهي ومدح النبي وآل بيته، وكانت بدايات المديح تعود إلى أوائل سنوات الهجرة. فإن هذا الفن تطور على يد عدد من الشعراء على مرالعصور الإسلامية حتى أصبح اليوم فناً قائماً بذاته. له خصائصه وطرقه وغدا المديح النبوي يشكل أحد أهم الفنون في المجتمعات الاسلامية الحديثة.

وتعود بدايات المديح النبوي على الأصل إلى الجدال التاريخي الذي نشأ بين شعراء من قريش الذين تجندواللدفاع عن الزعامة القرشية المناهضة لدعوة الاسلام من جهة والنبي وصحابته من جهة ثانية. وفي هذا السياق تطور فن المديح النبوي في الشعر العربي.

عملت شخصية الرسول وتعاليمه وتوجيهاته للشعراء على تثبيت القيم الدينية الجديدة في شعرهم إضافة إلى المثل الأخلاقية المألوفة من العصر الجاهلي التي أقرها الاسلام في القرآن وسنة النبي. فخفت واختفت لهجة الهجاء والمديح والفخر القبلي في الشعر الاسلامي الجديد إلى حد كبير، ولكن يبدوا أن الشعراء وجدوا في شخصية الرسول وتسامحه وفي هدايته الروحية متنفساً جديداً لطاقة المديح المتأصلة فيهم. فأتى مديحهم للنبي تعويضاً عن مديحهم في الجاهلية واستمراراً له. إن لم يكن في منحاه الديني فعلى الأقل في بنائه الفني والكثير من موضوعاته.

منذ أرسل النبي يرى كل مسلم فيه المثل الأعلى للانسان الكامل ومثلاً أعلى في رسالته الربانية وما تقدم للناس من سعادة في الدارين. وكان طبيعياً أن يتعلق المسلمون برسولهم وأن يجدوا في هذا التعلق فرحتهم وسعادتهم الغامرة. فالعلماء يجمعون الحديث النبوي و السيرة العاطرة، والناس من حولهم في كل بقاع العالم الاسلامي يستمعون إلى ما يروون عن شخصية الرسول حتى يقتدوا به حياتهم، ولم يتركوا شيئاً من أقواله و أفعاله وصفاته إلا وضعوه تحت أبصارهم. وبذلك ظلت شخصيته ماثلة أمام الأجيال المتعاقبة. وأهم من ذلك أنه ظلّ لها في النفوسالتعلق الشديد، وظل المسلمون يبهرون بها وبفضائلها التي بهرت جيلهم الأول وجعلته يتغنى يشمائلها يتقدمه حسان بن ثابت وكعب بن زهير في قصيدته المشهورة باسم البردة.[2]

أنشد كعب بن الزهيرقصيدة طويلة في مدح الرسول سارت على الزمان. وقلّدها الشعراء على العصور، بدأها:

أنبئت أن رسول الله أوعدني                 والعفو عند رسول الله مأمول

مهلاً هداك الذي اعطاك نافلة               القرآن فيها مواعيظ وتفصيل

وقال:

إن الرسول لنور يستضاء به                مهنّد من سيوف الله مسلول[3]

وكذلك امتدح حسان بن ثابت النبي لصفاته الفاضلة، ورسم الدين الاسلامي رسماً موفقاً. فقال:

وجبريل امين الله فينا                         وروح القدس ليس له كفاء

وقال الله قد أرسلت عبداً                     يقول الحق إن نفع البلاء

وقال:

نبي أتانا بعد يأسٍ وفترة                      من الرسل والأوثان في الأرض تعبد

فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً               يلوح كما لاح الصيقل المهنّد[4]

وقد ازدادإقبال الشعراء على المدائح النبوية في العصور التالية. فنجد في عصربني أمية وفي العصر العباسي كثيرا من الشعراء الذين يتغنون بشمائل الرسول وفضائله حتى في القرن السادس للهجرة حين أقبلت أوربا بقضها وقضيضها من أقصى شماليها إلى أقصى جنوبيها تحاد الله ورسوله. ومضت الأمة العربية تجاهدهم جهاداً عنيفاً. فعلماء الدين يحمسون الشباب في دروسهم ومواعظهم. وكانوا يردون أقوى ردّ على ما يكتبه شياطينهم ضد الاسلام ورسوله ناقضين له نقضاً. كما كانوا يكتبون رسائل كثيرة في فريضة الجهاد تتلى على المجهادين في صفوف القتال. ونظم الشعراء ما لايحصى من القصائد حاثين على الجهاد محرضين واتخذوا من مديح المصطفى أداة لهذا التحريض. فأطالوا في بيان سيرته العطرة التي تعد بنفسها معجزة المعجزات عارضين ما تخللها من آياته الكبرى كالاسراء والمعراج. ويدّون المديح النبوي في كلّ مكان. ويتكاثر في كلّ بيئة وخاصة في بيئة المتوصفة الذين جعلوا محبة الرسول جزءاً من محبة الذات الإلهية.[5]

وفي العصر الحديث اتجه البوصيري وهو شاعر مصري له دواوين مطبوعة إلى مديح الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرد المفحم على النصارى واليهود. وما يزال في هذا الرد شعراً ونثراً حتى وفاته. مضى يتحدث عن صفات الرسول وسيرته ونهوضه بالدعوة. ونظم قصيدة طويلة قصيدة “البردة”في مدح النبي. حيث قال:

إلى متى أنت باللذات مشغول                وأنت عن كل ما قدمت مسؤول

في كل يوم ترجي أن تتوب غدا             وعقد عزمك بالتسويف محلول

أمن تذكر جيران بذي سلم                   مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة              وأو مض البرق في الظلماء من إضم[6]

وقد بقيت “بردة البوصيري” هى النموذج الأعلى للمديح النبوي وظلّ تألق هذه القصيدة مثيراً للشعراء وحفظتها الأجيال الاسلامية في أقطارها. حتى جاء محمود سامي البارودي وأنشأ قصيدة دينية “كشف الغمة في مدح سيد الأمة” جعل فيها سيرة النبي من مولده إلى وفاته وبعد ذلك جاء أحمد شوقي ونظم أكثر من قصيدة مدح النبي والاسلام والمسلمين.

احمد شوقي.

ولد هذا الشاعر البارع في مصر عام 1869م، إنه يصعد في سماء الشعر إلى أفق لم يصعد إليه شاعر عربي قبله وهو أفق الشعر التمثيلي. وقد امتاز شوقي بشاعرية خارقة إذ كانت ربّة شعره تفيض عليه دائماً بوحيها. كما قال شوقي ضيف في كتابه:

” وأول ما يروعنا من خصال شاعريته صياغته البارعة التي تترد بين الجزالة الرصينة والرقة السلسلة فإذا قصائده تشبه تارة الأهرامات في ضخامتها ومتانتها وتارة تشبه النسيم المترقرق في لينه ونعومته. ولا نبالغ إذا قلنا إن كل بيت عنده يدل على احساس فذّ بالبناء الصوتي للشعر العربي، وهو احساس كان يقيس به قياساً دقيقياً ذبذبات الحروف والحركات في الكلمات، فتارة يرتفع صوته حتى يشبه زئير البحار، وتارة ينخفض حتى يشبه تغنى البلابل وما سخر لحناجرها من الأصوات الملحنة والأنغام الموقعة. والأداء الموسيقي الباهر حقا هو أروع الخصال في شاعريته، إذاستطاع أن يستخرج من قيثارة الشعر العربي أرصن وأرق ما تحمل في باطنها من أنغام وألحان. وقد خلف شوقي في الشعر الغنائي ديوانا سماه “الشوقيات” وهو في أربعة أجزاء، كثرتها قصائد طويلة  ومع أن شوقي درس في مصر ثم أتم دراسته في أوربا وتأثر بالوسط الأوربي وبالحياة الأوربية وبالشعر الأوربي تأثراً كبيراً فقد ظل تأثره بالبيئة التي وصفناها ظاهراً في حياته وفي شعره كما ظل تاثره بالبيئة الأوربية ظاهراً فيها كذلك.[7]

إلى جانب مقام العاطفة الوطنية قوية متسلطة على نفسشوقي تقوم عاطفة أخرى لا تقل عنها قوة وربما كانت أشدّ آخذا بهذه النفس وإثارة لشاعريتها. تلك هى العاطفة الاسلامية. فشوقي شاعر الاسلام والمسلمين كما أنه شاعر مصر و شاعر الشرق. لذلك كان العرب و مكة والوحي والقرآن والاسلام والرسول كلها معان لها من الأثر في نفس شوقي ما ليس لسواها من آثار الماضي. ولذلك لم يكن شوقي يشيد بذكر المسلمين وبخلافتهم لغاية سياسية بل إنه ليؤمن بهذه المعاني ايماناً يتجلى في الكثير من قصائده على صورة تتركنا في حيرة كيف يبلغ الايمان في نفس هذا المحب للحياة كل هذا المبلغ. وبحسب أن نقرأ الهمزية النبوية ونهج البردة وقصيدته في ذكرى المولد لنرى في غير ابهام أنه إنما أملت هذه القصائد قوة غلبت طبع الشاعر هى قوة الايمان.[8]

عاصراحمد شوقي فترة مهمة من فترات تطور العالم الاسلامي، فاندمج فيها بالاعجاب وحاول أن يعبر عن همومه الوطنية في إطار اسلامي خالص. ونستطيع أن نطلق على الفترة التي عاش فيها أحمد شوقي عصر التحديات، إذ كانت التحديات التي واجهت المنطقة الاسلامية من الجسامة بحيث راح الفكر الاسلامي يستعيد فنونه مرة أخرى للرد عليها.

ونستطيع أن نلتمس أحمد شوقي كشاعر اسلامي مجيد حين خص قصيدته الطويلة العصماء “كبارالحوادثفي وادى النيل” ليؤرخ المجد الاسلامي، ثم بدأ يتغنى بمجد الخلافة العثمانية على اعتبار أنها رمز للحضارة الاسلامية قبل أن تسقط هذه الخلافة فيرثيها خير رثاء. كما لم ينقطع شعر شوقي عن الأغراض الدينية. فله العديد من القصائد في الايمان بالله وفي التذكير بفضل الرسول. وأكثر ما كان يميز شعر شوقي أنه لم يكن نظماً باهتاً أو مقلداً. وإنما كان داعياً للصحوة واليقظة إلى مجد الاسلام ولم يكن ليترك مناسبة أو حادثاً دون أن يستفيد منه لتأكيد هذا الجانب.

واسلاميات أحمد شوقي تتنوع وتتعدد إذ إن أغلب شعره يغلب عليه الجانب الاسلامي وحتى حين كان يتحدث في الوطنيات، أو يهاجم المستعمر، كان ينطق من العقيدة الاسلامية ايماناً منه أن دعوة المسلمين لاسلامهم هو السبيل الوحيد لتحرير البلاد. وعند استعراض أشعار أحمد شوقي نجد أنها تتوزع بين عدد من الجهات فالاسلامية ضمت العبادات والشعائر وأيضاً شملت المدائح النبوية.

وتعود أهمية المدائح بوجه خاص إلى أنها كانت تتجه إلى الرسول بكل ما في شخصية من عظة وقدوة حسنة ورجاء منشود. لذلك لم تكن المدائح تركز على الجانب الديني وحده. وإنما على الجانب الآخر السياسي على اعتبار أن الرسول ممثل الدنيا والدين وعلى ذلك. فإن مديح الرسول فضلا عن تعظيمه كان يحتوي على كثير من أمور الحياة والحكم. وإن شوقي كان موفقاً كل التوفيق في قصائده النبوية. فهى ليست معارضة تقليدية بل إنما هى نظرة متألمة لشخصية الرسول ومكانه من التاريخ باعتباره مبعوثاً مبلغاً لرسالة السماء وباعتباره قائداً وانساناً ثم ترى فيها عرضاً لشريعة الاسلام وقيمه وتقويما لحضارته دفاعاً عنه إزاء مهاجميه، وتصويراً لواقع الأمة الاسلامية.

الهمزية النبوية

تثير شخصية النبي في شعر شوقي الكثير من المعاني المستمدة من النص القرآني والسيرة النبوية ويتراوح أسلوبه في التعبير عن هذه المعاني القديمة بين الرد المباشر والتلميح الشعر بحسب قصر القصيدة أو طولها. فقد افتتح القصيدة بذكر ما كان لمولده في تبسم الزمان استنارة الكائنات وبيت النبوة وخلائق الرسول وعلمه وكلامه. وأشار إلى البشارة التي تضمنتها الكتب المقدسة وذكرأنه هو الهدى الذي جاء من الرب ضياء للكائنات وليخرج الناس من الظلمات إلى النور:

ولد الهدى فالكائنات ضياء                   وفم الزمان تبسّم وثناء

الروح والملأ الملائك حوله                 للدين والدنيا به بشراء

والعرش يزهو والخطيرة تزدهي           والمنتهى و السدرة العصماء[9]

وبعد أن ينتهي من رسم لوحة الميلاد و الابتهاج بها يلتفت من الغائب إلى المخاطب ليوجه التحية إلى الرسول الكريم:

يا خير من جاء الوجود تحية                من مرسلين إلى الهدى بك جاءوا

بيت النبيين الذي لا يلتقي                    إلاّ الحنائف فيه والحنفاء[10]

هو بشارة الله للدين والدنيا بعث بها رسله إلى الأرض. فذكرأن بمجرد ميلاد النبي الكريم أضاء الكون بما فيه من ثابت ومتحرك وتثير شخصية النبي في شعره الكثير في المعاني المستمدة من النص القرآني، فقال:

بك بشّر الله السماء فزينت                   وتضوعت مسكاً بك الغبراء[11]

وإن شوقي هو شاعر الانسانية بمعناها الشامل الواسع، ونكاد لا نبالغ إذا قررنا في هذا الصدد أن الانسانية والأخلاق في عرف شوقي توأمان لا يفترقان، وأن الدنيا إذا شاعت الأخلاق فيها أصبحت في مثل غني عن الأنظمة والقوانين والشرائع. فهو يشير إلى كمال الصفات النبوية والصفات الانسانية في شخصية محمد الذي كمل الانسانية بالعناية الربانية، فهو الكريم الذي بلغ المدى جوده. وهو القادر الذي لا يستهان بعفوه لأنه مقدر من الله، وهو الرحيم رحمة الوالدين في الدنيا، هو الخطيب الذي تهزّ المنابر وتبكي القلوب فصاحته. وفي قصيدته قال يخاطب محمد الذي قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

يا من له الأخلاق ما تهوى العلا            منها وما يتعشق الكبراء

زانتك في الخلق العظيم شمائل              يغرى بهن و يولع الكرماء

والحسن من كرم الوجوه وخيره                        ما أوتى القواد والزعماء

فإذا سخوت بلغت بالجود المدى             وفعلت ما لا تفعل الانواء

وإذا رحمت فانت أم وأب                    هذان في الدنيا هما الرحماء

وإذا خطبت فللمنابرهزة                     تعروالندى وللقلوب بكاء[12]

هكذا تتبابع المعاني النورانية والصور البديعة التي تصف شمائل النبي الكريم وتتبع خطاه. من المولد إلى الوحي إلى بناء الدين الجديد آية آية حتى يعلو البناء ليطاول الزمن دين لبنائه الأولى هى الآيات المضيئة وأساسه الحق والعدل، وكيف لا والله جلّ جلاله البناء، والتي تدل على عمق الايمان له:

يوحى إليك الفوز في ظلماته                متتابعاً تجلى به الظلماء

دين يشيّد آية في آية                          لبناته السورات والأضواء

الحق فيه هو الأساس وكيف لا              والله جلّ جلاله البناء[13]

وقال:

يا من له عزّ الشفاعة وحده                 وهو المنزه ما له شفعاء

عرش القيامة أنت تحت لوائه               والحوض أنت حياله السّقاء[14]

وختم قصيدته بالدعاء لقوله:

ما جئت بابك مادحاً بل داعياً                ومن المديح تضرّع ودعاء

أدعوك عن قومى الضّعاف لأزمةٍ          في مثلها يلقي عليك رجاء

صلى عليك الله ما صحب الدجى            حادٍ وحنت بالفلا وجناء

واستقبل الرضوان في غرفاتهم             بجنان عدن آلك السمحاء

خير الوسائل من يقع منهم على             سبب إليك فحسبي الزهراء[15]

نهج البردة

في نهج البردة تعدد الأغراض ويسترسل الشاعر في الحديث عن صفات الرسول النبوية والانسانية بنفس شعري يكاد يكون ملحمياً. فإنه كتبها في 1909 تذكاراً لحج الخديو عباس. فإنها تقع في مأة وتسعين بيتاً بالتمام والكمال. وبالرغم من أنها كانت تذكاراً لحج الخديو إلا أننا لا نلمح أثراً للمذكور أو سواه من أصحاب السلطة في أي بيت من هذه المطولة التي انصرف فيها شوقي إلى غرض أساسي هو مدح الرسول الكريم.

فإن نهج البردة يتفق مع البردة للبوصيري في الموضوع وفي الوزن والقافية، بل في طابع الاسلوب أيضاً وكلتاهما في مدح الرسول، وكلتاهما على وزن البسيط الأول، متراكمة القافية ميمية الروى ومضمومة المجرى، وكلتاهما تصطنع البديع ما وجدت السبيل إليه.[16]

ولا شك فيه أن شوقي قد تأثر بكل هذه القصائد….لكنه تأثر بدرجة أكبر بقصيدة البوصيري. فقد جاراه شوقي مستلهماً نفس العناصر الفكرية التي صورها سواء من حيث الغزل الصوفي وبيان أن حب الرسول أفضل من أي حب جسدي. ثم تحذير النفس من غرور الدنيا وتصويربعض مواقف سيرة الرسول ومعجزاته…….والختام بالتوسل والمناجاة لكى يزيل الله عن الأمة ما بها من هموم وآلام[17]

فمطلع قصيدة البردة للبوصيري:

أمن تذكر جيران بذي سلم                   مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة              وأمضى البرق في الظلماء من أضم[18]

وقد عارض شوقي البوصيري بقصيدته ومطلعها:

ريم على القاع بين البان والعلم             أحلّ سفك دمي في الاشهر الحرم

رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً             يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم[19]

يقول شوقي في نهاية قصيدته:

يا رب أحسنت بدء المسلمين به             فتمم الفضل وامنح حسن مختتم[20]

أما خاتمة البوصيري فتختلف في أنه يتوسل بالله رجاء أن يزيل كربته الخاصة حين يدعوه قائلاً:

يا رب واجعل رجائي غير منعكس         لديك واجعل حسابي غير منخزم

وقد علق أحمد زكي أبو شادي على قصيدة “نهج البردة” تعليقاً يؤكد أن أحمد شوقي في معارضاته لقصائد السابقين من الشعراء لم يكن مجرد ناقل أو مقلد، وإنما كان يتخذ من القصائد المذكورة وبكلمة أدق من أوزان القصائد المذكورة ورويها، مرتكز النظم قصائده الجديدة الملأي بالألوان العاطفة، الصادقة والمفعمة بالمعاني المبتكرة بحيث تكاد قصيدة شوقي أن تعطي على سائر ما عارضه من قصائد.[21]

تبدأ القصيدة بالنسيب تقليداً للشعراء السابقين في أربعة وعشرين بيتاً ثم تثنى بشئ من الحكمة وفلسفة الزهد والنفس. ويخاطب نفسه ويندم ما فرط من ذنوبه في ثمانية عشر بيتاً. ثم تصير إلى الموضوع الرئيسي أى المدح أو إلى غرض أساسي. وتحفل بلوحات شعرية متعددة بلمحات كثيرة من قصة حياة سيد الخلق ووصف شمائله ومآثره وأفضاله، فيقول:

محمد صفوة الباري ورحمته                   وبغية الله من خلق ومن نسم

وصاحب الحوض يوم الرسل سائله        متى الورود وجبريل الأمين ظمي

سناؤه وسناه الشمس طالعة                  فالجرم في فلك والضوء في علم[22]

وجاء بذكر عن نزول الوحي ومعجزات القرآن في أسلوب جيد. فيقول:

ونودي إقرأتعالى الله قائلها                   لم تتصل قبل من قيلت له بفم

هناك أذن للرحمن فامتلأت                  أسماع مكة من قدسية النغم

جاء النبيون بالآيات فانصرمت              وجئتنا بحكيم غير منصرم

آياته كلما طال المدى جدد                   يزينهن جلال العتق والقدم[23]

ثم يشير إلى الفوضى التي كانت تسود حياة الناس، ويبين كيف ضلت أحلامهم، فاتخذوا الأصنام آلهة من دون الله. وكذلك القوي يأكل الضعيف حتى أتى النبي بتعليماته فقال:

أتيت والناس فوضى لا تمرّ بهم             إلاً على صنم قد هام في صنم

يعذبان عباد الله في شبه                      ويذبحان كما ضحيت بالغنم[24]

وقد ذكر الاسراء والمعراج وبعض معجزات الرسول وشمائله من حسن وشرف وجود:

أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه                 والرسل في المسجد الأقصى على قدم

البدر دونك في حسن وفي شرف           والبحر دونك في خير وفي كرم[25]

وفي حديث طويل يشيد شوقي بشريعة الاسلام ويفتخر بآبائهم من الخلفاء الراشدين فيتذكر عمرالفاروق وعثمان الغني وأبي بكر وعمر بن عبد العزيز بغير ترتيب. ثم يتوسل بالرسول ويتضرع إلى الله لا يطلب لنفسه شيئاً وإنما يطلب لأمته من المسلمين بأن الله يلطف بهم من أجل الرسول الذي أحسن البدء به ويتتم الفضل بمحنهم حسن مختتم:

يا رب هبت شعوب من منيتها               واستيقظت أمم من رقدة العدم

رأى قضاؤك فينا رأى حكمته               أكرم بوجهك من قاض ومنتقم

فالطف لأجل رسول العالمين بنا            ولا تزد قومه خسفا ولا تسم

يا رب أحسنت بدء المسلمين به             فتمم الفضل وامنح حسن مختتم[26]

ذكرى المولد

هذه القصيدة تقع في واحد وسبعين بيتاً. وامتدح شوقي فيها الدين والنبي ونظر فيها نظرة قومية. وفي بدايته يصف الشاعر قلبه فيقول إن هذاالقلب الضعيف قد تحمل من العذاب والآلام ما لا يمكن أن تتحمله القلوب المخلوقة من الحديد. فمطلع قصيدته:

سلوا قلبي غداة سلا وتابا                    لعلّ على الجمال له عتابا

ويسأل في الحوادث ذو صواب             فهل ترك الجمال له صوابا[27]

ثم يقول:

تسرب في الدموع فقلت ولى                وصفق في الضلوع فقلت ثابا

ولوخلقت قلوب من حديد                    لما حملت كما حمل العذابا[28]

ثم ينصرف الشاعر إلى الحكم والمواعظ في متتاليات طويلة للتمهيد للمديح حتى يقول:

نبي البر بيّنه سبيلاً                           وسنّ خلا له وهدى الشعابا[29]

إنما يقول أن البر هو الأصلح في الدنيا والآخرة وقد جاء محمد ليبين للناس سبيل الرشاد ويخرجهم من الظلمات إلى النور. ويبين لهم القوانين والتشريعات ويهدي طرقهم لتكون شعباً.

وقد حرّض شعوباً كثيرة كانت مقهورة ومغلوبة في أمرها لكى تفيق، وتستيقظ من رقده العدم وتأخذ حقوقها وتناول حريتها، فيقول:

وكان بنيانه للهدى سبلاً                      وكانت خيله للحق غابا

وعلمنا بناء المجد حتى                       أخذنا إمرة الأرض اغتصاباً

وما نيل المطالب بالتمني                     ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

وما استعصى على قوم منال                إذا الاقدام كان لهم ركابا[30]

ثم جاء بذكر مولد النبي ومن معجزاته ويرى في النبي إماماً في الفصاحة ومثالاً للخلق الرفيع وقائداً عظيماً وزعيماً كريماً. قاد المسلمين إلى مرابع الظفروامتلاك المجد والخلود والأخلاق. وكذلك رأى حالة المسلمين وذكر أنهم يحتاجون إلى زعيم ويفتقرون إلى كتاب وأنهم سيفرون إلى اتباعمذهب سياسي فأشار على قومه والأمة الاسلامية أن تعود إلى زعيمها القديم. وتؤمن بدينه ففي ذلك الفلاح وفي اقتفائه النجاح.[31]

وهو دائماً ما يعيب على المسلمين سوء مسالكهم وانحرافاتهم وخياناتهم وابتعادهم عن الطريق القويم. ويتوسل إلى الله برسوله الكريم ليرفع عنا المقت والغضب.

وما للمسلمين سواك حصن                  إذا ما الضرّ مسهم ونابا

كان النحس حين جرى عليهم               أطار بكل مملكة غرابا

ولو حفظوا سبيلك كان نوراً                 وكان من النحوس لهم حجابا

بنيت لهم من الأخلاق ركنا                  فخانوا الركن فانهدم اضطرابا

وكان جنابهم فيها مهيباً                       وللأخلاق أجدر أن تهابا

فإن قرنت مكارمها بعلم                      تزللت العلا بهما صعابا

وفي هذاالزمان مسيح علم                   يرد على بني الأمم الشبابا[32]

المراجع والمصادر

  1. الشوقيات لأمير الشعراء أحمد شوقي، المجلد الأول، 1925، دار الكتاب العربي: لبنان.
  2. وادي، طه، 1985، شعر شوقي الغنائي….والمسرحي، دار المعارف: القاهرة.
  3. الدهان، سامي،1968 ،فنون الأدب العربي-الفن الغنائي- المديح، دار المعارف: القاهرة.
  4. ضيف، شوقي. 1998، فصول في الشعر ونقده. ص: 229-230
  5. دعبيس، الدكتور سعد، 1982، التيار التراثي في الشعر العربي الحديث، دار الفكر العربي، القاهرة.
  6. عطوي، فوزي، 1973، احمد شوقي، أمير الشعراء: دراسة ونصوص، دار صعب: بيروت.
  7. ناصف، علي النجدي، 1964، الدين والأخلاق في شعر شوقي، مطبعة الرسالة: مصر.

[1]الدهان، سامي، فنون الأدب العربي-الفن الغنائي- المديح، ص: 71

[2]ضيف، شوقي. فصول في الشعر ونقده. ص: 229-230

[3]ديوان كعب بن زهير

[4]ديوان حسان بن ثابت

[5]ضيف، شوقي. فصول في الشعر والنقد. ص: 231-232

[6]ديوان البوصيري

[7]ضيف، شوقي. فصول في الشعر ونقده. ص: 238-239

[8]الشوقيات مقدمة محمد حسين هيكل، ص: 3

[9]الشوقيات، ج، 1، ص: 30

[10]الشوقيات، ج، 1، ص: 31

[11]الشوقيات، ج، 1، ص: 31

[12]الشوقيات، ج، 1، ص: 32

[13]الشوقيات، ج، 1، ص: 33

[14]الشوقيات، ج: 1، ص: 37

[15]الشوقيات، ج، 1، ص: 37

[16]ناصف، على النجدي، الدين والأخلاق في شعر شوقي، ص: 34

[17]وادي، طه وادي، شعر شوقي الغنائي- والمسرحي، ص: 47-48

[18]ديوان البوصيري

[19]الشوقيات، ج:1، ص: 178

[20]الشوقيات، ج:1، ص: 195

[21]احمد شوقي، أمير الشعراء، دراسة ونصوص، ص: 130

[22]الشوقيات، ج:1، ص:183

[23]الشوقيات، ج:1، ص:185

[24]الشوقيات، ج:1، ص: 185

[25]الشوقيات، ج:1، ص:187

[26]الشوقيات، ج:1، ص: 195

[27]الشوقيات، ج:1، ص: 63

[28]الشوقيات، ج:1، ص: 63

[29]الشوقيات، ج:1، ص: 65

[30]الشوقيات، ج:1، ص: 66

[31]فنون الادب العربي- الفن الغنائي-المديح

[32]الشوقيات، ج:1، ص: 66

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *