سلوى الطريفي*
في غرفة لا تتعدى المتر والنصف عرضاً وطولاً، أقيم ليلي ونهاري، أسهر مع نفسي التي اشتاقت أن تحدث أحداً غيرها، قضيت سنواتٍ في العزلة، تعرضت للقهر والحرمان، تتوق روحي إلى لقاء أراوح غيرها، أن تسمع أذني أصواتاً غير الهمس، أن تشاهد عيوني الأشجار الخلابة، أن يتذوق لساني ماءً عذباً ويلامس ضوء الشمس شعري.
مرت أيام، أسابيع، أعوام وأنا أرقد على فراش الشفاء في المشافي دون جدوى مما أستدعى الأمر نقلي الى البيت وعزلي عن أفراد الأسرة لكي لا يصاب أحدهم بعدوى المرض، لا أحد يزورني، لا صديق يفقدني، لا عزيز يسأل عني.
كم صعب أن تقبع خلف القضبان، لا تدري ليلك من نهارك، تشاركك الفئران والجرذان طعامك الذي لا يكاد يسد رمق الجوع، تتسلل أفواهها الى كأس الماء.
انهالت علي بالضرب لا أدري لماذا؟!وما سر القسوة التي تحملها في قلبها، سوى أنني أستفيق على صوتٍ كالرعد يزلزل الأرض من تحتي عليكِ أن تنظفي البيت، لا تنسي تنظيف الأواني، طي الملابس، إعداد الطعام، رعاية الأطفال.
تاهت حروفي بين الذكريات، تشعبت أفكاري كالأخطبوط، بل كالعنكبوت، امتزج الماضي بالحاضر، أصبح الأمل آيلاً للسقوط.
الفشل الذي يسرق أحلامي يقف حاجزاً منيعاً أمام إرادتي، إن لم أكن صلباً كالحديد سأكسر كالكأس الزجاجي، أتساقط على الأرض كالفتات هشيماً تذروه الرياح.
أمشي في الطرقات بملابسي الممزقة، وحذائي المتهرئ، عيون تنهال علي بشفقة، أنا لم أكن لأتسول في الشوارع لو كان والدي معي وأمي تحضنني، لم أكن لأبيت في العراء ولا أجد كسرة الخبز، أمد يدي للمارة بانتظار نزول الرحمة على قلوبهم.
الخطر الذي يهدد حياتي، يقلب موازينها، يعيث فيها الفساد ليصنع أجواء من الكآبة والحزن لا يولد يأساً كما يعتقدون، إنما يولد إصرارا للبقاء والتشبث في الأرض.
تعبث بالدمى التي خلفها الدمار، تناثرت عليها أشلاء الأجساد الممزقة من جراء الحروب وصراعات الأجيال عبر العصور والأزمان، تتسابق على الأرجوحة لحاقا بالزمن، كالحمل الوديع، تطير كالعصافير.
تسير صوب أمواج البحر المتلاطمة بالصخور، تتعثر أقدامها الصغيرة، تبلل أناملها الرقيقة ليسرق منها بهجة الحياة.
ظلامُ دامس يخيم على غرفتي التي لا تعدو أن تكون قفصاً يولد خيبات الأمل مزيجا من أحلام اليقظة ورؤى الليل المفزعة، أقلب الذكريات التي تمر عبر الخيال، يصيبني ألم في الرأس، احتاج للمسكنات رغم إدماني على الدواء، احتسي فنجان القهوة ربما يمحو ما يعكر صفو المزاج، أعود للغرفة أطبق الباب يمر سجال التاريخ عبر ذاكرتي.
بعد وفاة والدي تكفلتى والدتي برعايتنا، تكبدت تكاليف العيش، إيجار السكن، ثمن الطعام، أقساط المدارس والجامعات، حتى نفد مخزون المال المدخر، الميراث المتبقي بعد رحيل والدي، يلزمنا العمل عوضاً عن والدتي التي أرهقتها ضغوط الحياة.
في سفري قاصدُ الرحيل ربما بلا عودة، حبست أنفاسي، استجمعت قواي، لملمت جراحي، في حقيبة يدي التي أحملها لا احتواء إلا لهوية أوطان.
* (اديبة واعلامية فلسطينية)جنح الظلام من كتابها هواجس الروح