د.صغير أحمد

 ولد عبد العزيز بن صالح بن محمد مشري في قرية محضرة، بمنطقة الباحة قرب الطائف عام 1956. توفي في 7/5/2000م في مستشفى الملك فهد بجدة. هو كاتب غزير الإنتاج قام بكتابة المقالات في الصحف، وكذلك له مجموعات قصصية أيضاً. أما في مجال الرواية فقام بكتابة سبع روايات وهي: “الوسمية” الصادرة عام 1984م، “الغيوم ومنابت الشجر” الصادرة عام 1989م، “الحصون” الصادرة عام 1992م، “ريح الكادي” الصادرة عام 1992م، “صالحة” الصادرة عام 1996م، “في عشق حتى” الصادرة عام 1996م، و “المغزول” الصادرة عام 2005 م (بعد وفاة الكاتب).

يركز البحث على روايته “الغيوم ومنابت الشجر”. في هذه الرواية صور لنا الكاتب تصوير المجتمع الريفي. القصة حكيت علي لسان راوي المعنى، والقصة تدور حول حياة الريف والأشخاص الذين يعيشون فيها. قد بين لنا الكاتب أن حياة الريفيين حياة قاسية وكان الرجل يضطر أن يذهب بعيداً من وطنه لأجل كسب المعاش حيث يشير “تقول أمي: إن لأبي عشرة أشهر لم نره، وتقول: إنه يعمل سائقا بالأجرة في تكسي، فأحلم بروية السيارات في الشوارع المضائة، كذلك التي نراها في الصور.” [1]

وبعد ذلك يصور لنا تصوير دقيقا للحياة الريفية وأهلها، ويذكر لنا القهوة والراديو وكذلك الخبز الذي يجئ به الولد إلى المدرسة. ثم يأتي ذكر المدرسة والمادات فيقول الراوي “كنت متخلفا غبيا كسولا مملا في حصة (الرياضة) ولا أفلح في هذه الحصة التي هي لعبة كرة قدم … (إلا متفرجا) وقد ذقت الويلات والشتائم عندما أكون في موضع (حارس مرمي)

أما في (الرسم) فكنت معروفاً بالتفوق، لكنني أوبّح بدعوى أن الرسم مهزلة، وتضييع للوقت.. أسأل نفسي: لماذا لا يقولون هذا عن حصة الرياضة؟”[2] وبعد ذلك يذكر عن الفرّاش الذي كان يضرب الطلاب وكان الطلاب يخافون منه مخافة معلم الحساب. ثم يجئ ذكر مادتي التجويد والحساب. فكان المطلوب في مادة التجويد الحفظ فحسب، لا داعي للفهم، أما مادة الحساب،. فكان مدرسها رجلا قاسيا، وكان يقوم بضرب الطلاب ضربا مبرحاً. أم رد فعل من أهل القرية فكان “يا سلام هذه التربية .. هذا التعليم”!! أذكر أن أبا زميل لنا، قال لمدرس الحساب: “هذا ولدي.. من يدي إلى يدك.. خذه لحماً، ورده لي عظما بلا لحم”[3] . يقول الراوي عن حياة المدرسة المضجرة والقراءة “تقول أمي بعد العشاء الذي نأكله بلهفة خلف صلاة المغرب مباشرة:

أنت.. تأخذ دفاترك وتقعد تقرأ، بكرة عندك مدرسة. أنا لا أحب هذا الأمر.. أدعوالله أن يجعل في صباحاً ممطرا، وأجلس مع إخوتي مع جدي نسمع حكاوي جدتي. تدهشنا الحكاوي.. فنكثر الأسئلة، وتشح الأجوبة.. أما الأستاذ فيقول: (كلام عجائز) [4]

وبعد ذلك يقول الراوي عن المدرسة وصلاة الاستسقاء الذي صلى الطلاب  مع أهل القرية ثم يذكر عن أمه التي تقوم بتوفير الماء لأهل البيت وتجيء الأم بالماء من مسافة بعيدة وتمر بطريق متعرج طويل. هكذا المرأة تواجه المشاكل والمصائب في الحياة الريفية.

جاء الأب راجعا من السفر ودخل البيت وسلم على أهل البيت. سأل عن الدراسة وخاصة عن دراسة الابن الأكبر. وبعد ذلك سأل عن الأم، فأجاب ابنه الكبير بأنها مريضة منذ سفره. ذهب الأب إلى الأم ووضع يديه على جبينه وقال “الحمد لله وإن شاء الله تكون العواقب سليمة.” [5]

أراد الأب أن يقوم بذهاب بالأم إلى الطبيب ولكن الأم قالت إنها ستشفى قريباً ولا حاجة للذهاب بها إلى الطبيب. ولعل السبب وراء إنكار الأم كان البعد بين بيتها وبيت طبيب، وكذلك كانت تتمنى وتحرص على طمأنة زوجها. أصر الأب علي الذهاب بها إلى الطبيب، لأنه كان يعرف كل المعرفة بأن الطبيب لن يأتي إلى بيته، لأنه ما جاء في الماضي قط إلى بيت أحد، فلذلك توكل على الله وجهز حمارته. كانت القرية تستقبل السيارات ولكن ما كان يمتلك أحد من القرية السيارة.

ذهب الزوج بزوجته إلى الطبيب على الحمارة ولما وصلا إلى الطبيب، انتظرا حتى أذن لهما بالدخول. قال الزوج للطبيب “أن يتكرم بوصف العلاج المدمر للمرض، وراح يشكوله حال الأطفال في البيت، وحاجة عائد من البيت إلى زوجة العمر والولد.. وردد كثيرا من التأكيدات بأنه سيبذل الغالى والنفيس، فكّر وقتها في بيع البقرة الحلوب، وفكر في الاستدانة قبل البيع، وفكر في رهن ممتلكات صغيرة.. وقال الطبيب: تأخرت يا زوج الحميلة، فالمرض تمكن، والشفاء بيد الله، وعلينا فعل ما نطيق، وعلى الله تنفيذ ما يريد. [6]

ولكن المرض كان خطيراً وبالنتيجة قضت الزوجة نحبها. حضر الأولاد الكثيرون للصلاة على الجنازة ولكي يحصلوا على التمرات وفناجين الشاي في بيت الميت وبعد ذلك يذكر الكاتب حقيقة واضحة لكي يظهر لنا التخلف في القرية فيما يتعلق بالأمراض والأدوية والمتشفيات حيث يقول “ماتت بمرض (البلهارسيا) الذي لا يعرف الكثير نطقه أومعرفة أسبابه وقت فتكه، وها هو يقضي على أناس غيرها من الأهالي، والكل يؤكد أن عمرها انتهى، وأن القضاء إذا جاء لا يؤخر ساعة ولا يتقدم ساعة.” [7]

بعد وفاة الزوجة فكر الزوج في تربية الأولاد وفكر في المستقبل. كان لديه سؤال واضح وهو أيقوم بتربية الأولاد ويهتم بأمور البيت أم يذهب إلى الخارج للعمل، في الصورة الأولي سيواجه مشكلة مالية وفي الصورة الثانية لا يوجد أحد يقوم بتربية الأولاد لذلك أراد أن يقوم بالزواج مع بنت الحلال. فاز في مرامه وفي غضون السنة قام مطر بالزواج مع فضة وكانت فضة معروفة في القرية بسبب رجولتها ولذلك قال الناس “مطر رجل طيب، فضة رجل في صورة حرمة.” [8]

ولكن فضة كانت تختلف كل الاختلاف من حليمة زوجة مطر التي ماتت. أخذت فضة زمام الأمور كلها في يدها وبدأت تتخذ القرار في كل الأمر يقول الراوي عن هذه الحالة “فقد تولت (فضة) على كل صغيرة وكبيرة، وأصبحت هي الآمرة الناهية، وتحوّل بيت (مطر) بقدرة قادر إلى بيت (فضة) حتي الذاهب إلى بيت مطر، إن سئل يقول، (رائح بيت فضة)، وعندما تكون المرأة في القرية آخذة في صفة الآمر الناهي قيل (فضة)”. [9] ضجر مطر من هذه الحالة نفسيا ولذلك نحن نجد أنه يعبر عن مشاعره وأحاسيسه في هذا الصدد ويقول “خسرت كلمتي ودفنت (فضة) رأيي ومشورتي وأصبحت أمشي على رأسي وذهبت كالمعيرة في لسان الناس.” [10]. كان مطر يمر بهذه الحالة النفسية ويعاني من تصرفات فضة حتى ثارت من فمه كلمة الطلاق في يوم من الأيام.

وبعد ذلك ذكر الكاتب عن معيشة أهل القرية. فمعظم أهل القرية يعتمدون على الزراعة وتربية المواشي، ولكن الزراعة وتربية المواشي لا تسدان حاجاتهم، ولذلك هؤلاء الناس مضطرون أن يذهبوا إلى خارج القرية للعمل. وفي ذلك الأحيان، وجد أهل القرية موردا جديدا وهو السفر في أيام الحج لكي يقوموا بخدمات الحجاج ويحصلوا على مال مرض. وكذلك كانوا يقومون ببيع الحبل والوتد ومحارم وإزارات وحقائب صغيرة وماعدا إليها. أما مطر فكانت له خبرة في هذا المجال “حتي غدا معتمدا عليها كوظيفة حرة كل سنة. اكتسب معها، كما اكتسب البعض كلمات من عدة لغات، تمكنه من التخاطب مع الحاج الهنود، والإندونيسين والإيرانين والأتراك. [11]

جاء في هذه الرواية أيضاً ذكر ظافر الذي كان جار مطر وهو رجل طيب وكثير التحفظ وقليل الكلام. لا يزور ظافر بيت مطر إلا قليلا. أما صداقته مع بن زايد جاره السابع فهي وطيدة. أما زوجة ظافر فهي عفراء وكان ابنها الأكبر يسكن في المدينة ويأتي إلى القرية وقت عطلة السنة وفي الأعياد “لكنه يأتي لأهله بالريالات والكسوة وما يحتاجه البيت من مؤنة.” [12] أما علاقة عفراء مع فضة فيقول الراوي “لم يكن لعفراء رابطة مودة ولا قبول بفضة، وكانت تكره سابق ذي بدء أي زوجة لمطر من بعد وفاة (حليمة).”[13]

ظافر كان رجلا دينيا ويمتاز بحسن السمعة في القرية. أما ولده الذي ذهب إلى المدينة فكان  يخالف أباه في العادات فهو ما كان يحب الزراعة ولا الزواج في أول الشباب وكذلك لا يهتم بالفرائض والواجبات، وكان الأب “يري أن المدينة زادته عصياناً وعلّمته التمرد والغواء، (هذه عادة المدن في تخريب فطرة أبناء القري).”[14] عفراء تقوم بواجبات البيت وكذلك هاهي المسؤولة عن الدجاجات وإحضار العلف. يقول السارد عن مهمة عفراء “في الصباح ستخرج العجل، والحمارة، والفراريج إلى الساحة، لتنظف كل روث في المرابط وتصبه في كل مكان تجمعه بالخارج، ولما تقضي هذا الواجب اليومي، تغسل الكفين الصغيرين والقدمين الملوثتين وتوقظ العيال.” [15]

وبعد ذلك يذكر الراوي بأنه كان فرحا جداً في اليوم الذي أخذ شهادة لآخر العام وفي نفس اليوم كانت تبدأ عطلة السنة الطويلة. فأصبح حرا من ضرب الأساتذة وكذلك من عذاب الفرّاش الذي كان يقوم بالضرب. فرحت الأم والجدة والجد بعد سماع هذه النبأ، سأل الجد من الطالب أن يكتب رسالة إلى أبيه وقالت الجدة أن يكتب سلامها الكثير. وجري الحوار الآتي:

قال جدي:كتبت

قلت كتبت باسم الله

قال: اكتب… السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ورضاه ومرضاته… إن سألتم عنا فلله الحمد، لا ينقصنا سوى أنوار وجوهكم الطاهرة… ربنا يجمعنا بكم عن قريب. [16]

ذكر الكاتب قصة بتر ساق مطر المريضة. ثم يذكر عن التغيرات التي شاهدتها القرية “افتقد مطر طعم القادم الذي ينادي باسمه من الساحة قبل الدخول، وجاء مكانه ضاغط للجرس بالكهرباء، لو حك حمار جلده عليه لصاح.” [17] ثم يذكر عن الراديو الذي كان يحتمل مكانا مرموقا في الماضي، الآن هو”يقع في كساء من الغبار مع مخلفات البيت القديم، والتي كان مما فيها نعالا مطر القديمان.” [18]

يذكر مطر أيامه الماضية التي ما كان فيها التلفزيون وكان اللعب ضربا من العيب. أما الصغار فكانوا يساعدون آباءهم في الزراعة وغيرها. وأخيراً يقول الراوي “كانت القرية القديمة على سفح الجبل، تتكئ شبه خالية من الساكنين، بينما تناثرت بيوت حديثة استبدل بناؤها بالأسمنت، ووقفت إلى جانبها، سيارات ملونة، وكان بداخل هذه البيوت، أناس أحبوا أنفسهم كثيراً فانعزلوا وتركوا البقية، وتركوا أراضيهم خاوية الزرع، وقد تهدمت جوانبها النضرة، وغزتها النباتات الغريبة، فتراها إلى جانب الأخريات النضرة، يابسة كجواعد الخراف البيضاء.” [19]

إن عبد العزيز مشري له الفضل والكمال في ذكر القرية وأهلها في الرواية العربية. لا نبالغ عندما نقول أن عبد العزيز مشري هو رائد من الرواد الذين ذكروا القرية في رواياتهم في الأدب العربي السعودي، و أول من جسد القرية الجنوبية في رواياته. إن عبد العزيز مشري قام بوصف القرية وأهلها وأشياءها وصفا دقيقا. قد وضح لنا مشري خلال كتاباته التغيرات التي تشهدها القرية.

            مشري أيضا يوضح لنا بأن الطفرة المالية أدت إلى نتائج وخيمة أيضاً، مثلاً هو يفكر في ابنه الذي ذهب إلى المدينة وتغير إلى حد كبير. أما التغيرات والتحولات التي شهدتها القرية بسبب الطفرة المالية فيفندها مشري عندما يقول عن الجرس  ” لو حك حمار جلده عليه لصاح.” [20].

أما القضايا الاجتماعية فذكرها مشري في روايته مثلا هجرة “مطر” إلى المدينة للمعاش وكان مطر مضطرا أن يقضي أحد عشر شهرا خارج القرية. أما زوجة مطر فهي مريضة ولا تجد الدواء والطبيب. عندما يرجع مطر من المدينة يذهب بها إلى الطبيب للعلاج ولكن بدون جدوى. أما القضايا الأخرى التي جاءت في هذه الرواية، فهي التعليم أو مستوى التعليم في القرية، وقضية ا لمرأة و معاناتها وسلوك الرجل مع المرأة.

يمتاز مشري بوصف القرية وصفا دقيقا ويستغرق مشري في وصف القرية إلى حد كبير. لغته سهلة، وجذابة وبسيطة ويمتاز بذكر الألفاظ التي تستخدم في منطقة الجنوب. ويقول الناقد د. محمد شنطي في مشري واصفا فن مشري:

“وحين تقرأ للمشري، فأنت أمام إشراقات إبداعية منهمرة من ثقوب التربة في احتكاكها بلحم الواقع في شراسته وخشونته وتوليفته العجيبة، أنت أمام عمل يتمرد على مواضعات الهيكلة والقولبة والتقنين والتنظير، فهو يقيم هندسته الخاصة من شظايا الشروخ التي عصفت بكيانه الإنساني على المستوى الذاتي والعام معاً.” [21]

أما عبد الله الجفري فقد قام بذكر القضايا الاجتماعية وخصوصا قضية المرأة. كلا الروائيان يحتلان مكانا مرموقا في الأدب العربي حيث قاما بإبراز هموم الشعب ومطلعاته. ولكنهما يختلفان فيما يتعلق بالمكان حيث يذكر الجفري في روايته المدينة ويذكر مشري القرية في روايته. من ناحية الوصف يفوق مشري على عبدالله الجفري.

 

 

 

 

[1]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 198

[2]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 202

[3]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 205

[4]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 207

[5]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 234

[6]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 237

[7]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 241

[8]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 242

[9]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 243

[10]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 243-244

[11]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 245

[12]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 259

[13]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 259

[14]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 260

[15]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 265

[16]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 285-286

[17]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 291

[18]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 291

[19]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 297-298

[20]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر ص 291

[21]  الآثار الكاملة، ج 2، الغيوم ومنابت الشجر نقلا عن غلاف الرواية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *