د. ذاكر حسين جمشيد

“السنة ” اصطلاحًا هي “ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خُلقية أو سيرة، سواء أكان قبل البعثة أم بعدها”[1]. والحديث مرادف لهذا المفهوم لدى معظم المحدثين. وقد ورد مفاهيم مختلفة حسب اختلاف المحدثين، والأصوليين، والفقهاء، واللغويين، والمستشرقين. يقول الدكتور محمد مصطفى الأعظمي ملخصا قوله في تعريفها:

“إن السنة معناها في اللغة “الطريقة”، و”العادة”، و “السيرة” سواء كانت سيئة أو حسنة، وقداستعملها الإسلام في معناها اللغوي ثم خصصها بطريقة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بقي الاستعمال القديم للكلمة ولكن في نطاق ضيق”[2].

إن السنة النبوية تحتل مكانة مرموقة عند كافة المسلمين، وهي من المصادر المهمة للتشريع الإسلامي، حيث كان من وظيفة الرسول أن يبين للناس ما نزل إليهم من  القرآن، كما يقول “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون”(النحل: 44). وكل ما صدر من الرسول من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أم خلقي كله تفسير للقرآن، ووحي الله غير المتلو، إذ لايقول الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ما يأمر به الله تعالى، كما يقول جلّ وعلّ “وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى”(النجم 3- 4). والرسول مطاع يطاع في كل شيء، يقول سبحانه وتعالى “وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا”(النجم: 3-4)، وبالإضافة إلى هذه الآيات هناك آيات أخرى كثيرة تدل على أنه لايمكن الاستغناء عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولايمكن فصل الكتاب عن حامل الكتاب إلا بإنكار الكتاب نفسه[3]، وأن الشريعة تستقي مادتها من مصدر واحد، مما جاء به الرسول أو آتاه أمته سواء أكان ذلك قرآنا أو سنة، وأن الرسول ليس مجرد واعظ وإنما جاء ليطاع في حياة الإنسان كلها. وقد أجمعت الأمة الإسلامية قديما وحديثا على الأخذ بالسنة والعمل بها، وعلى أنها مصدر التشريع الإسلامي والمسلمون ملزمون بها، وأنهم مسئولون بالعمل بها والحفاظ عليها، ومن ثم قام العلماء المسلمون بالذود عن حياض السنة ونفي الأباطيل والأكاذيب من وجهها. ومنهم العلماء الهنود سواء قاموا بها من داخل البلاد أو مقيمين في البلدان الأخرى.

فمن له أدنى إلمام بتأريخ المسلمين الهنود لايلبث إلا ويعرف ما لهم من جهود في مجال السنة النبوية قديمًا وحديثًا. ولهم أياد بيضاء وجهود متضافرة في خدمة الكتاب والسنة المطهرة.  وأهم نقطة في هذا المجال، أنهم قاموا بنشر علم الحديث والدراسات حول السنة النبوية في فترة لم يكن فيها من يلتفت إلى هذا العلم، سواء كان من العرب أو العجم وغيرهم. وقد سبق من قبل أن العرب هم الذين حملوا هذا اللواء في الماضي، ولكن في القرن الثامن والتاسع عشر قام العلماء الهنود بخدمة السنة المطهرة بشكل لايوجد له المثيل حتى في العرب. فقد قال تعالى “وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لايكونوا أمثالكم” (محمد: 38)، يقول الأستاذ حماد بن محمد الأنصاري رحمه الله البروفيسور السابق بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بعد نقل الآية المذكورة:

“ولقد صدقت هذه الآية على علماء الهند سواء كانوا سلفيين، أو حنفيين، فقد قاموا بحركة عظيمة ونهضة شاملة لنشر الحديث تأليفا وطبعا وتدريسا، لاسيما في أيام النواب صديق حسن القنوجي البوفالي والمحدث الكبير السيد نذير حسين الدهلوي، والمحدث حسين بن محسن الأنصاري الذين أسسوا مدارس الحديث في الهند على منهج المحدثين، وتلاهم تلاميذهم وأصحابهم المخلصون الذين اقتفوا أثرهم لاستمرار هذه الخدمة الجليلة التي فقدت في أكثر البلدان. أمثال العلامة المحدث محمد بشير السهسواني، والمحدث شمس الحق العظيم آبادي، والمحدث عبدالرحمن المباركفوري ثم تلاميذهم وهلم جرا…”[4].

هناك قائمة طويلة لهولاء العلماء الذين قاموا بخدمة السنة المطهرة ودافعوا عنها وتوجد تراجمهم في كتب عديدة. نكتفي هنا بذكر جهود الأستاذ محمد مصطفى الأعظمي في مجال السنة والدفاع عنها خاصة فيما يخص بدحض أباطيل المستشرقين.

نبذة عن الأستاذ محمد مصطفى الأعظمي وأعماله:

هو الشيخ أبو عقيل محمد مصطفى الأعظمي، ولد بمدينة مئو سنة 1930م / 1350 هـــــــــــ في أسرة ميسورة، ونشأ في بيئة محافظة دينية، وقد اعتنى والده بتربيته وتنشئته نشأة إسلامية، تلقى دراسته الابتدائية في دار العلوم مئو، ثم سافر إلى مدرسة شاهي بمدينة مرادآباد حتى التحق بدار العلوم ديوبند وتخرج منها في العلوم الشرعية عام 1952م. كما سنحت له الفرصة لمدة سنة في جامعة عليكره الإسلامية إلى أن رحل إلى مصر والتحق بجامعة الأزهر عام 1955م وحصل على شهادة العالمية مع الإجازة بالتدريس، ومن مصر سافر إلى بريطانية عام 1964م ووجد القبول في جامعة كمبردج وقدم رسالته للدكتوراه بإشراف البروفيسور آرثر جون آربري، والبروفيسور روبرت سارجنت[5] حول “دراسات في الحديث النبوي (Studies in Early Hadith Literature). وبعد تخرجه من جامعةالأزهر رجع إلى الهند والتحق بالسلك التعليمي ثم أعظم كراه بالهند، ولكن سرعان ما رجع إلى دولة قطر عام 1955م، حيث عمل مدرسا للغة العربية بمرحلة الثانوية، ثم أصبح مديرا لــــ “دار الكتب القطرية” عام 1966م، ومن هنا رحل إلى بريطانية للدكتوراه، ومن بريطانية جاء إلى المملكة العربية وأصبح أستاذا مساعدًا في كلية الشريعة بمكة المكرمة ثم انتقل إلى جامعة الملك سعود بالرياض وأصبح أستاذا لمادة الحديث النبوي وظل يدّرس لفترة طويلة نحو 18 سنة إلى أن أُحيل إلى المعاش عام 1991م.

نال جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية سنة 1400ه ، ومن مآثره الحميدة إعلانه عن تبرّعه بهاتيك الجائزة السخية للطلبة النابهين من فقراء المسلمين. غفر الله  وكثّر من أمثاله.كان عالماً مغمورا ولم يرغب بالظهور ولم يُستفَد منه كما ينبغي إلا قليل من طلاب العلم.

يقول محمود حمدان[6] في تغريداته لدى وفاته قبيل أيام[7] :

“أفلَ بالأمس نجمُ شيخِنا العلامة، المُنافح عن القرآن والسُّنة د. أبي عقيل محمد مصطفى الأعظمي بعد حياةٍ حافلة بخدمة السُّنة، خدمةً تميزَ بها؛ بتحقيق كرائم المخطوطات، والكشف عن نفائسها، وفي الرّد على عُتاة الاستشراق، ونقض عُرَى شبهاتهم، فرحمه الله وأسبغ عليه رضوانه”[8].

شهدَ له برسوخ القَدم وعُلو الكعب في العلوم؛ لا سيّما الحديث علماءُ عصرِه وأشادوا به وبخدمته، وبعدما أشرقت شمسُه في دُنيا العِلم وخدمة السُّنة؛ نالَ جائزة الملك فيصل لخدمة السنة عام (1412هـ) فما كان منه إلا أنْ جادَ بها على فقراء طلبة العلم!

أعمال الأعظمي في مجال الحديث النبوي الشريف:

له مؤلفات علمية في مجال الحديث النبوي من خلال الدراسة والتحقيق والتأليف، وكان خبيرا في مجال السنة وتاريخ تدوينه، والقضايا المعنية بها. ومن أشهر تصانيفه في مجال السنة المطهرة مايلي:

دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه: هذا الكتاب مهم للغاية، وهو أصله رسالته للدكتوراه حوله إلى العربية من الإنجليزية، وهو يحتوي على قسمين وثلاثة ملاحق؛ القسم الأول يحتوي على تسعة أبواب، والقسم الثاني يبحث عن بعض المخطوطات الحديثية التي انتخبها من أكثر من عشر مخطوطات. والقسم الثالث أي قسم الملاحق يتكون من ثلاثة ملاحق. طبع هذا الكتاب لأول مرة عام 1396هــــــ ضمن مطبوعات جامعة الرياض ثم أعيدت طباعته في المكتب الإسلامي ببيروت ثم صدرت له عدة طبعات. هذا الكتاب يعتبر من أهم مؤلفات الأستاذ مصطفى الأعظمي، ومن أوثق الكتب المؤلفة في باب خدمة السنة النبوية من ناحية تاريخها، وتدوينها، وتصنيفها، وقد تتبع المؤلف كثيرًا من الدراسات الاستشراقية حول الحديث النبوي والتأريخ الإسلامي، ورد على أباطيلهم ومزاعمهم الباطلة.

ومؤلفه الثاني في هذا الباب يعنون بــــ “كُتّاب النبي صلى الله عليه وسلم”: يبحث هذا الكتاب عن كُتاب النبي الذين كتبوا عنه الحديث. ويحتوي الكتاب على ثلاثة أقسام: القسم الأول؛ يبحث عن فئة مشهورة من الكتاب الذين كثرت كتابتهم منهم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم. والقسم الثاني يحتوي على الفئة التي ثبتت الكتابة عنهم ولكنهم مقلين من الفئة الأولى. ومنهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأبي أيوب الأنصاري، والقسم الثالث يبحث عن الكتاب الآخرين من الصحابة مثل جعفر بن أبي طالب، والعباس بن عبدالمطلب، وعبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهم.

وطبع هذا الكتاب لأول مرة 1974م من المكتب الإسلامي ببيروت، ثم صدرت له الطبعة الثانية في 1978م.

منهج النقد عندالمحدثين: نشأته وتاريخه: هذا الكتاب مهم جداوقد أله لأجل نفي شوائب الشك والريبة عن وجه السنة، ويحتوي الكتاب على سبعة أبواب، ويبحث عن مفهوم النقد وتعريفه، وتاريخه، وعدالة الراوي ضبطه، واستعمال العقل في نقد الأحاديث ومكانة العقل عند المحدثين في نقد الأحاديث الشريفة، والمقارنة بين منهجي نقد الحديث ونقد التاريخ، كما يبحث الكتاب عن بعض الطعون الموجهة إلى منهج المحدثين، وفي نهاية الكتاب تكلم عن بعض المستشرقين ومنهج نقدهم للحديث. وصدر الكتاب لأول مرة من مدينة الرياض عام 1395هــــــــ.

المحدثون من اليمامة إلى 250 هـــــ تقريبًا:  يبحث الكتاب عن علماء ومحدثي منطقة اليمامة، ومكانتها العلمية في السنة المطهرة من خلال كتاباتهم وأبحاثهم، والكتاب يعتبر دراسةً حديثية جديدة عن تلك المنطقة.

دراسات منهجية في علم الحديث: وهو من أوائل الكتب المؤلفة في هذا الموضوع باللغة الإنجليزية. وقد حاول الدكتور أن يزيل تلك الشبهات التي أثارها المستشرقون في تدوين السنة النبوية وحجيتها في أسلوب علمي رصين. وموضوعات الكتاب تدور حول أهمية الحديث، وتعريف ألفاظ وصيغ التحمل والأداء، ومصطلحات الحديث في قسمه الأول وأما القسم الثاني فهو يبحث عن أمهات كتب الرواية. طبع الكتاب أولا من أمريكا ترست ببليكيشنس في الولايات المتحدة عام 1977م،ثم صدر له عدة طبعات أخرى.

أصول الفقه المحمدي للمستشرق “شاخت”: دراسة نقدية: في هذا الكتاب رد مفعم على المستشرق “شاخت” الذي ألف كتابا وسماه  (Origins of The Muhammadan Jurisprudence) أي أصول الفقه الإسلامي، وادعي فيه: “أن معظم الأحاديث النبوية تم وضعها مع نهاية القرن الثاني الهجري، وشكك بصحة عدد كبير من الأحاديث بزعم منه أنها وُضعت لدعم حِجَج وآراء الفقهاء في ذلك الوقت”[9]. وفي هذا الكتاب استعرض الدكتور الأعظمي جميع آراء المستشرق “شاخت”، وردّ على كل منها ردًا علميا قويا في ضوء الأدلة القاطعة والحجج الساطعة. وطبع الكتاب من نيويارك عام 1985م، ومن بريطانية عام 1996م.

وبالإضافة إلى هذه المؤلفات العلمية في مجال الحديث إنه حقق بعض التراث للسنة النبوية، ومن هذه التحققيات العلمية: المؤطأ للإمام مالك، وصحيح ابن خزيمة، وسنن ابن ماجه، والعلل للإمام علي بن المديني، وكتاب التمييز، ومغازي رسول الله صلى الله عليه لعروة بن الزبير برواية أبي الأسود عنه. كما قام الدكتور مصطفى الأعظمي بتطويع الكمبيوتر لكتابة الحديث النبوي. وبه أسدى خدمة عظيمة للسنة المطهرة وأتى بالرد المفعم على أباطيل المستشرقين وناعقيهم.

كما نجد من أحسن كتبه: كتابه الذي صنفه في تاريخ تدوين القرآن الكريم، نسف فيه دعوى تحريف القرآن، كتبه باللغة الإنجليزية. آخر ما صدرَ من كتبه: “النصّ القرآني الخالد عبر العصور -دراسة مقارنة مصورة لسورة اﻹسراء بين 19 مصحفًا مخطوطًا من منتصف القرن الأول إلى الخامس عشر” وهو كتاب فمِن الأهمية بمكان، وتُوفي الشيخ بعد صدوره بأيّام فقط!

 دحضه لأباطيل المستشرقين في مجال السنة النبوية:

اشتهر الأستاذ محمد مصطفى الأعظمي بنقضه لشُبهات المستشرقين مِن أساسها، ولا أدلّ على ذلك من كتابه الشهير: «دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه» أطروحته للدكتوراه، الذي ألجمَ به عُتاة المستشرقين في أكسفورد! عُقْر دار التشكيك، وعاصمة الشبهات، وردّ على دهاقنتهم كـ(تسيهر، وشاخت، ونولدكه). وقد أثار المستشرقون عدة شبهات، ومن أخطر هذه الشبهات ما يلي:

  • أن السنة يفيد “الأمر المجتمع عليه في الأوساط العلمية” وأنه ليس معناها سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
  • وقد شك في حجية السنة وقيمتها في التشريع الإسلامي.
  • وبادعاء تأخر كتابة الأحاديث إلى قرن أو قرون، ثم استنتج من ذلك أنه لايمكن الاعتماد عليها، لأن الذاكرة – بضعفها الطبيعي – لابد أن تكون قد خانت في نقلها الأحاديث شفاها، وقصرت في الحفاظ عليها خلال هذه المدة الطويلة.
  • ومنهم من أثار الارتياب في الأسانيد وقيمتها العلمية.
  • ومنهم من قال كيف نقبل الأحاديث ونعتبرها صحيحة، وقد بلغ عددها سبعمائة ألف، ألم يكن للنبي صلى الله عليه شغل شاغل إلا الكلام فقط؟

هكذا كثرت تخبطاتهم وتشكيكاتهم وأباطيلهم واعتراضاتهم حول السنة المطهرة، ولدحضها اختار الدكتور مصطفى الأعظمي بدراسة متأنية معنونة بــ “دراسات في الحديث النبوي” كما يقوم في مقدمة الكتاب:

“ولأجل الوصول إلى الحقيقة قمت بهذا البحث، لمعرفة قيمة السنة النبوية، وطريقة الحفاظ عليها، ومدى إمكانية الوثوق بها والاعتماد عليها من الناحية العلمية”[10].

نماذج من دحضه لأباطيل المستشرقين:

في كتابه المعروف “دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه” رفع الدكتور مصطفى الأعظمي اللثام عن عديد من شبهات المستشرقين المعروفين ودحض أباطيلهم المكذوبة على الحقائق الثابتة من الكتاب والسنة، وردّ الدكتور الأعظمي متبعًا الأسلوب  والمنهج العلمي، وهنا نورد بعض النماذج منها:

دحض شبهاتهم حول مفهوم السنة:

أثار بعض المستشرقين شبهات واختلقوا الأكاذيب حول مفهوم السنة. ومن هولاء المستشرقين المستشرق جولتسيهر، ومارغوليوث وشاخت. فقد فصل الدكتور الأعظمي قوله واستدل باللغة، والشعر، والقرآن، والحديث النبوي، وأقوال من الصحابه والتابعين وأعلام المسلمين، ثم بحث عن مفهوم السنة لدى المستشرقين؛ فمنهم من ادعى بأن السنة “مصطلح وثني” مثل جولستيهر[11]، ومنهم من قال بأن المصدر الثاني للتشريع الإسلامي في العهد الأول من الإسلام لم يكن شيئا محددًا، بل هو ماكان عرفًا مألوفًا (merely what customary) مثل مارغليوث[12]، ومنهم من توصل إلى أن معناها “تقاليد المجتمع” أو “الأعراف السائدة” مثل شاخت[13].

وقد ردّ الدكتور عليهم بكل بسط وتفصيل، كما يقول في موضع: “ولقد استعملت الكلمة في المعنى ذاته في القرآن الكريم ودواوين الأحاديث وقصائد الشعراء ولذا فإن ما قاله جولتسيهر بأنها مصطلح وثني استخدمه الإسلام ادعاء لايستند إلى دليل، ومعارض للأدلة الملموسة. ثم إن استعمال الجاهليين أو الوثنيين من العرب لكلمة ما في مفهومها اللغوي لايلبسها ثوبًا معينا ولايحيلها إلى مصطلح وثني وخصوصا إذا لاحظنا استعمالاتهم المختلفة لهذه الكلمة وإلا أصبحت اللغة العربية بكاملها مصطلحا وثنيا، وهذا لايقول به عاقل”[14].

 ويرد على مارغليوث قائلا:

” أما ما استنتجه مارغوليوث بأنه كان معنى السنة في صدر الإسلام ” ماكان عرفا مألوفا” فهو استنتاج تابع للهوى مع مخالفة كافة النصوص التي أوردها ليبرهن على ما يراه من استنتاج”[15].

وبعد تقصي الدلائل والرد على المستشرقين من كل الأوجه يلخص قوله قائلا:

“ولذا فلايمكن أن تقبل تلك الادعاءات ما لم تستند إلى حجج معقولة، سواء في ذلك ما ادعاه جولتسهير في تفسير “السنة” بأنها “مصطلح وثني” استعملها الإسلام أو ماذهب إليه مارغوليوث من أن معناها في العهد الأول ما كان “عرفيًا” أو ما توصل إليه شاخت في دراسته من أن معناها “تقاليد المجتمع” أو “الأعراف السائدة”، لأن تلك الادعاءات تخالف مخالفة جذرية ما دلت عليه النصوص القطعية والتي تفسر بعضها بعضًا “[16].

ويجب أن لايغيب عن البال بأنه يوجد ترداد لهذه الشبهات عند بعض المثقفين العرب، كما ذهب إليه علي حسن عبدالقادر في كتابه “نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي”[17]. ويقول الدكتور معلقًا على رأي علي حسن عبدالقادر: “وغني عن البيان أن ما كتبه علي حسن عبدالقادر هو ترداد لما ذكره جولتسيهر وشاخت، لاغير”[18].

نموذج الرد على المستشرق “شاخت” بخصوص الإسناد:  بحث المستشرق “شاخت” في كتابه “الفقه المحمدي” عن الإسناد، ووصل إلى نتيجة مفادها أن الأحاديث المنسوبة للصحابة والتابعين سبقت في وجودها الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو بذلك يسعى إلى قلع جذور الشريعة الإسلامية، والقضاء على تاريخ التشريع الإسلامي كُليا؛ ولهذا فقد وصف العلماء المسلمين خلال القرون الأولى بأنهم كانوا كذابين وملفقين وغير أمنا”[19].

وقد ردّ  الدكتور مصطفى الأعظمي ردا باتًا، وأثبت بأن أدلة شاخت في أغلبها تعتمد على مغالطات فكرية، أو فهم خاطئ لغوي، أو الاعتماد على حالات شاذة تمّ تعميمها على كل الأحاديث، أو إصدار أحكام عامة على كل الأحاديث بناء على بعض الأحاديث، وليس بناء على استقرائها كلها[20].

ولدى الاستجابة عن بعض تساؤلات شاخت قام الدكتور بدراسة تفصيلية لبعض الأسانيد، وإيضاح الحقيقة التي التبست عليه، وأثبت بأن الأحاديث التي وصلت إلينا قد خضعت لمنهج نقدي دقيق شامل في كل مراحل نقلها إلينا، ولذلك فإن ما لدى المسلمين الآن من الأحاديث هي أحاديث يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها[21].

وبجانب هذه النماذج هناك مواقف عديدة حاسمة تجاه المستشرقين وأباطيلهم شائعة في مؤلفاته الحديثية والقرآنية والمؤلفات الأخرى أيضا، لايمكننا البحث عن الجميع في هذه الأوراق القليلة الضيقة. يمكن لبعض الباحثين أن يجمع كل ردوده على المستشرقين في بحث مستقل، والتي شائعة في بطون تأليفاته.

وبالجملة يُعدّ الشيخ مصطفى الأعظمي من أكابر العلماء في العصر الحديث، وله جهود ضخمة في مجال السنة النبوية؛ فهو أول من كشف عن مخطوط “صحيح ابن خزيمة” وحققه وعلق عليه ثم نشره، كما هو أول من طوّع الكمبيوتر لخدمة السنة المطهرة، وتفرّغ لأجله ولم يزل يتعب في سبيلها حتى تكللت جهوده بالنجاح. كما ألفت كتب قيمة في الدفاع عن السنة وإزالة الغبار عن وجهها ونفي الزغل والدغل عنها، كما يرجع إليه قصب الأسبقية في الرد على أباطيل وأكاذيب وتشكيكات المستشرقين حول السنة، فربما لانبالغ عندما نطلق على بحثه “دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه” الذي قدمه في جامعة كمبردج ـــــــــــــــــــــــــــ حملة في عقر دار المستشرقين في لغتهم الإنجليزية ومنهجهم العلمي وأسلوبهم المتحايد.

 

 

 

 

 

 

 

الهوامش:

[1]. كشاف اصطلاحات الفنون، ص 703.

[2]. الأعظمي، محمد مصطفى، دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، المكتب الإسلامي، بيروت، طبعة 1980م، ص 11.

[3]. نفس المصدر، ص14.

[4]. الأستاذ عبدالرحمن عبدالجبار الفريوائي، جهود مخلصة في خدمة السنة المطهرة، (تقديم) ص 11،  الطبعة الثانية، إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنارس، 1986م.

[5]. كلاهما مستشرقان مشهوران.

[6]. وهو باحث متميز ذو نشاط علمي، من أصدقائنا الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد تعرفت عليه من خلال إحدى مجموعات واتس اب.

[7]. إنه توفي في 20 ديسمبر عام 2017م بعد قضاء 84 أو 85 عاما من عمره.

[8]. #فقد_العلماء:[23/12, 11:42 AM] +972 59-957-0016: *2*

[9]. سيد عبدالماجد الغوري، الشيخ محمد مصطفى الأعظمي ومساهماته العلمية في مجال الحديث النبوي: دراسة اتسقرائية، ص 223، الحديث: مجدلة علمية محكمة، نصف سنوية، السنة الرابعة ، العدد الثامن، صفر 1436 هــــــــــ/ ديسمبر 2014م.

[10]. د/ محمد مصطفى الأعظمي، دراسات في الحديث النبوي، مقدمة البحث، م.

[11] . Schacht, The Origins of Muhammadan Jurisprudence, p. 58.

[12]. Margoliouth, The Early Development of Muhammedanism, pp. 69-70.

[13] . The Origins of Muhammadan Jurisprudence, p. 58.

[14]. الأعظمي، دراسات في الحديث النبوي، ص 6-7.

[15]. نفس المصدر، ص 7.

[16]. نفس المصدر، ص 10.

[17]. علي حسن عبدالقادر، نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي، ص 122- 123.

[18]. دراسات في الحديث النبوي، ص 6.

[19] . Schacht, The Origins of Muhammadan Jurisprudence, (Oxford, 1950) p 138-176

[20]. سيد عبدالماجد الغوري، الشيخ محمد مصطفى الأعظمي ومساهماته العلمية في مجال الحديث النبوي: دراسة استقرائية، ص 201.

[21]. سيد عبدالماجد الغوري، الشيخ محمد مصطفى الأعظمي ومساهماته العلمية في مجال الحديث النبوي: دراسة اتسقرائية، ص 207.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *