بقلم: البروفيسور اشتياق أحمد ظلي
تعريب: راشد حسن المباركفوري

لقد تلقَّت الأمةُ الإسلاميةُ الهنديةُ ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة العالم المعروف، صاحب يراع سيَّال، والأستاذ في مدرسة الإصلاح أعظم كره: الشيخ محمد أيوب الإصلاحي، لفظ الشيخ أنفاس وداع بعد قضاء تسعين ربيعًا من عمره في هذه الدار الفانية في 30 من شهر يونيو سنة 2018م في مستشفى “سنجيوني” بدهلي. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 كان الأستاذ مريضًا منذ زمنٍ مديدٍ، مقيمًا بدهلي مع ولده الأستاذ أبي طلحة الإصلاحي للعلاج، بوفاته انقضى عهدٌ ذهبيٌ من البذل والعطاء لمدرسة الإصلاح، وكان رحمه الله من التَّـذكاريات العريقة الأخيرة لذك العهد الذهبي، الذين نذروا حياتهم لرقيِّ المدرسة ودفع عجلتها إلى الإمام، وكان نموذجًا مثاليًا لتلك الميزات التي تميزت بها المدرسة، والأفكار والمواصفات التي عُـرفت بها، ولاشك أنه كان أستاذًا محنَّـكًا ضليعًا، ومتمكنًا من التربية والإعداد، وكان قد اجتمعت فيه من الفضائل الجمة من التواضع والحلم والتوكل والبساطة والقناعة واللطافة والرقة والتحنان بحيث قلَّما تجتمع لأحد.

فتح الأستاذ عينيه في قرية “كونره كهني” من أعمال أعظم كره عام 1928م، والتحق بسلك الطلب بمدرسة الإصلاح أعظم كره سنة 1940م، وتخرج فيها سنة 1951م، وأبواه قد تُوُفيـا من قبل، فاتخذ المدرسة حجر الأم ومهد الوالد، وكرَّس كل كفاءاته وقدراته لها، فُوضت إليه مسئولية عمادة شئون الطلبة الصغار مع القيام ببعض الأعمال في مكتبها لمدة لابأس بها، فقام بها بكل جهد ولأي، ثم انتقل إلى قسم التدريس عام 1965م، الذي كان شغفه به أكثر، وإلمامه به أحب وأوفر، وكان في الأصل معلمِّا، وتفتحت أزهار كفاءاته في إعداد النشء الحديث وتربيتهم في مجالات الفكر والعلم وصقل مواهبهم، فالأستاذ هو المربي، ولابد لكل أستاذ ناجح من أن يكون مربيًا، يعتني بطلبته ويُعدهم ليتأهلوا تجاه مسئولياتهم التي تقع على كواهلهم تجاه دينهم وعقيدتهم وبلدهم الذي يعيشون فيه، ليس من مسئولية الأستاذ الناجح أن ينقل كل ما ناله من العلوم على أيدي أساتذته، أوحصل له بجهده المرهق ومطالعته المضنية إلى تلاميذه فحسب؛ وإنما هي النفخ في لهيب التحصيل، وخلق الشعور بإفراغ الجهود في بلوغ المعالي، وإنماء ملكة التدبر في المسائل العويصات بالجدية والموضوعية مبعتدًا عن الموقف الحيادي فيها، وتشجيعهم على محاسن الأمور، وتنبيههم على سفاسفها بحلم وحكمة، كان الأستاذ يُعدُّ من الأستاتذة الذين يسُـرُّهم نقاشُ الطلبة معه، ويشجِّع الطلبة الذين يتدبَّرون المسائل بدون تحزُّب لأحد دون آخر، والذين لايُحجمون عن التساؤلات خلال الدروس إذ لم يفهموها أو لم يستطيعوا استيعاب تقريرات الأستاذ. وهذه هي القدرات التي تعين الطالب على تغلُّب المشاكل في معترك الحياة وميدان العمل.

كان الأستاذ محمد أيوب الإصلاحي أستاذًا مثاليـًا، متضلعًا بالموادِّ التي كان يقوم بتدريسـها، واسع الاطلاع، كثير المطالعة، مستمرًا فيه حتى نهاية عمره، يدَّخــر الكتب عند رأسه حتى أيام المرض، كلما أفاق من مرضه اشتغل بالقراءة والمطالعة، كان قادرًا بجميع معانيه على إقناع الطلبة بأسلوبه الجذاب وبطريقته المؤثرة، يصور تصويرًا دقيقًا لقصص واردة في كتاب “أمثال آصف الحكيم” و “كليلة ودمنة”، كأنهم شاهدوا شهودَ عِيان، مع مراعاة الأمور التي عليها بناء منهاج التدريس في المدرسة، مهتمًا غايةَ الاهتمام بالقرآن الكريم، كان رحمه الله من طليعة الأستاتذة الذين غرسوا منهج التدبر في آيات الذكر الحكيم في قلوب الطلبة وأذهان الناشئين منذ نصف قرن، المنهج الذي نهجه وسار عليه الشيخ حميد الدين الفراهي، درَّس القرآن الكريم لمدة طويلة، وكان كثير الاهتمام في هذا الخصوص، يرشد الأساتذة الجدد في المدرسة بكل لهف وشوق ورغبة بأنه كيف يقام بهذا الأمر على أحسن مايرام.

كان ذا ذوق عال وأدب رفيع بلغة أردو، صقلته كثرة القراءة، ومدرسة الإصلاح كانت منذ البداية ذات الأخذ بحظ وافر من مدرسة شبلي، وخريجوا هذه المدرسة يستقون من نبع الفكر للعلامة الفراهي إلى جانب، وينهلون من نبع الأدب والثقافة لحديقة شبلي إلى جانب آخر، كان الأستاذ يكتب ويتكلم بلغة سلسة رائقة فصيحة، ينكر على الذي يكتب أو يتكلم بلغة عامية لاتؤمن بسليقة ولاتخضع لأدب، لم يكن كثير الكتابة، وليس كل ماكتب في كثرة كاثرة كمًّا، لكن ثراته الموجود كثيرُ الفوائد زاخرٌ بعباب العلم، وقد طُبع مجموع مقالاته العلمية والأدبية باسم “متاع قلم”، وأخرز القبول العامَّ، ثم طُبع له طبعة ثانية قبل بضعة أشهر مضت في حلَّة جيدة، يحتوي على 462 صفحة، نُشـرت له مقالاته الابتدائية في مجلة “دوام”، التي كانت تصدر تحت رئاسة الأستاذ عبد الباري شبنم سبحاني، كما طُبعت له عدة مقالات جامعية قيمة مترجمة من العربية إلى الأردية السلسة السائغة في مجلة “معارف”، ولما بدأ صدور مجلة سنوية لطلبة المدرسة سنة 1988م، يشرف عليها، ويكتب انطباعه بعنوان “سخن هاي كفتني” في كل إصدارها، وسطر يراعه بهذا العنوان بعض الانطباعات الجميلة التي استقطبت الأنظار وأثَّرت في النفوس. ولما بدأ صدور مجلة “نظام القرآن” الفصلية سنة 2000م من المدرسة، كان يكتب على الاستمرار افتتاحيتها، وامتدت هذه السلسلة إلى أن تقاعد عام 2011م، وإن كان اسمه يطبع كمديرها، لكنه لم يستطع الاستمرار في كتابة الافتتاحية، وهذه الافتتاحيات تشتمل على خصائص مدرسة الإصلاح وميزاتها، وتأريخها، وأساسياته الفكرية، والقضايا المهمة ذات الصلة بالمسلمين والبلد الذي يعيشون فيه، وله عدة خطب الرئاسة، وللمناسبات المختلفة في المحافل العلمية، ومقالات عن الذين تُوفُّوا، وإن كان قليل النظم والشعر لكنه ينمُّ عن الشاعر المختفي في جسده وفي روحه، ولو اهتم بالشعر لكان من الشعراء المعدودين على الأصابع، ومجموع مقالاته الثمينة ليس يحمل الأدب في طياته فحسب، وإنما الفكر العالي المستوى، وسعة الاطلاع، وبعد النظر في القضايا، وفيه المسائل العلمية المهمة المتصلة بالقرآن الكريم.

إنه ـ رحمه الله ـ لزم المدرسة ستين عامًا من عمره يخدمها ويؤدي واجبها، التحق بها سنة 1940م، وأفنى جُلَّ كفاءاته ومجهوداته في خدمتها، وامتدتْ هذه السلسلة إلى أن تقاعد سنة 2011م، أما صلته القلبية بها فبقيت بكل حيويتها والتوادد الجمِّ إلى آخر لمحة من حياته، حتى في أيام المرض الأخيرة لو زاره أحد منتسبيها أو ذكرها لتهلل وجهه بشـرًا، كان يتمتع بسجايا كريمة مثالية تحذى بحذوها، إذا جلس بمجلس تعطرت روح من حوله بما ينثر من كلام شيق لطيف، وبما يتصف بمواصفات فاضلة وآداب سامية، مـرَّ بكل من اليسر والعسر، والبهجة والشجن، والكرب والفرج، وكابد الشدائد لمدة لابأس بها، فلم يَـنْبِس بِبِنْتِ شَـفَـةٍ، ولم يَشْكُ قطُّ، حتى لم تعرفها أقاربه، ولعل أفراد عائلته لم تروه يئوسًا قنوطًا، وفي مثل هذه الظروف المحرجة القاسية حافظ على النفس الأبية مما يُغتبط، وعلى رغمها يقابل الضيوف بكل حفاوة ويؤدي واجبهم تسايره المحبة والتوادد مما يُذكر فيُثنى، يصنع الشائي بيده، ويمزج فيه الحب والإخلاص، يشعر بهما شاربُه، وكلُّ من جاء المدرسةَ كان ضيفًا للأستاذ أختر أحسن الإصلاحي، ثم تولَّى هذه المسئولية بعده الشيخ أيوب الإصلاحي، يكرمه بشأيه الخاص هذا.

وقد أُكـرم من الله سبحانه وتعالى بنِعمٍ لا تُعدُّ ولا تُحصىَ، تمسَّـك بذيول الصبر والمثابرة في المرحلة الأولى من حياته، ثم أُنعم بوافر الإنعام، لكن لم يغير طبعه الساذج البسيط، زوجته كانت بنت تلميذ الشيخ حميد الدين الفراهي: الشيخ أختر أحسن الإصلاحي، خلَّف وراءه ذريةً طيبةً صالحةً إن شاء الله، وهم: الدكتور محمد أجمل الإصلاحي (المحقق المعروف)، والدكتور محمد راشد الإصلاحي، وأبوطلحة الإصلاحي، وأبو هريرة الإصلاحي، وبنته نيرة أختر. وكل هؤلاء ولاسيما أبو طلحة وعائلته بذلت كل ما في وسعها من العلاج والخدمة، والشيخ مـرَّ بأيام المرض وشدائده بكل صبر واستقامة وأناة دون أن يبوح لسانه بشكوى أو أي لفظ لايتناسب لمقامه، وهذه ثمرةٌ من ثمار الإيمان واليقين وما روَّض نفسه عليه طيلة حياته، وهذه فاجعةٌ كبرى لكاتب هذه السطور، فإنَّ علاقتي به تمتدُّ لنصف قرن، من طرفه لي الشفَقَةُ والعنايةُ الكريمةُ، والرحمة، والتحنانُ، ومني له الحبُّ والتواددُ والاحترامُ، أين نجد أمثال هؤلاء.

اللهم اغفر له وارحمه وأدخله فسيح جناتك. آمين.

{مجلة “معارف” أعظم كرة، شهر أغسطس 2018م}

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *