وصي ميان خان

  المدخل:

 يعدّ زكي نجيب محمود من أعلام الفكر والثقافة الذين استنفدوا أقصى جهودهم في توجيه مسار الحياة الثقافية والفكرية في العالم العربي وخاصة في مصر إبّان القرن العشرين. قضى الدكتور زكي حياته الثقافية التي طال أمدها حتى بلغ ما يزيد قليلا على ستين عاما، حريصا على إصلاح ما فسد في العالم العربي وإقامة اعوجاجه مما دفعه إلى مؤخرة الركب الحضاري في العصر الحديث بعد أن كانت له ذات حين، قيادة ورياد؛ فالفكر عند ليس ترفا يلهو به أصحابه، بل الفكر مرتبط بالمشكلات التي يحياها الناس حياة يكتنفها العناء، فيريدون لها حلا يبين لهم معالم الطريق، فتأتي مهمة المفكر المثقف المخلص لنفسه ولوطنه المسؤول أمام ضميره وأمام ربه أن يستعرض المشكلات والقضايا التي تهم الناس في وطنه وأمته، فيقف وقفة متمهلة ومتأملة ليرجع ناكصا على عقبيه واصلا إلى جذور ضاربة وراء تلك المشكلات تتمثل في الأسباب الكامنة التي تفعل فعلها في خلق الظروف الصعبة .

 فجاءت اهتمامات مفكرنا تنصب على استخراج محاور ونقاط أساسية تدور حولها رحى الحياة العربية، دون أن يكون لأهلها شعور بتلك المبادئ والأسس، يزعم المفكر الفيلسوف أن تجديد الفكر العربي لا يتحقق على أرض الواقع وسمائه إلا أن نراعى بعض الجوانب المهمة التي تضطلع بدور ملموس في تشكيل بنياننا الثقافي والفكري، وهي بختصار شديد كما يلي :

 

الأصالة والمعاصرة :

 إن من أهم القضايا التي شغلت حياة الدكتور زكي نجيب محمود الفكرية في سبيل جهوده لتجديد الفكر العربي هي قضية الأصالة والمعاصرة، أو بعبارة أخرى الجمع بين العقل والوجدان، والبحث عن التوفيق بين التراث القديم والعلم والجديد، حاول فيه إعطاء فكرة لحل مشكلة الموائمة بين الفكر الوافد والتراث الثقافي الأصيل، فانتهت به محاولاته المضنية إلى إيجاد صيغة متكاملة للعربي بأن يعيش في العالم الجديد مع الاحتفاظ بما وصل إليه من آبائه الأقدمين من التراث؛ لكن المفكر بحكم نشأته لم يكن لديه إلمام واف بالتراث مما يؤهله أن يحكم بالرفض والاختيار منه، فوجد الفرصة سانحة في دعوة جامعة الكويت عام 1968، لتحقيق مرامه .

  بعد دراسة متماسكة للتراث وصل إلى نتيجة أن هناك جزء من التراث لا بد من إبقائه كما هو، هذا الجانب الذي يتمثل في العقيدة الدينية والتقاليد الأسرية وملامح الذوق في مجال الأدب والفن، يميز الإنسان العربي من سائر الثقافات في العالم الراهن، فيمنحه فردية قومية خاصة. وأما سائر التراث فللجزء المقبول منه يقترح الدكتور مبدأ جديدا، مؤداه ترجمة التراث ترجمة حضارية عن طريق تحول النصوص والمعاني الواردة في الثقافة القديمة إلى صورة جديدة مع الاحتفاظ بإطارها العام، فنستعير القوالب من الأسلاف ثم نملأها بمضمونات جديدة ” نحافظ الهيكل العام الذي بنيت عليه ثقافتنا الأصيلة لكننا نملأ الإطار بمضمون حي حسب تغيرات الظروف”.[1]

” ولو جاء الولد صورة لأبويه، لكان إلى نتاج المصانع والمطابع أقرب منه إلى غرس الحياة ونبتها”.[2] وذلك لأن المشكلات التي واجهت أسلافنا لم تكن هي بدورها المشكلات التي نتعرض لها نحن أبناء العصر الحديث، مثل مشكلة استحقاق الإمامة، ومشكلة الكبيرة، وخلق القرآن وغيرها، وعلاقة الإنسان بالله . نعم نجد كثيرا من الكلمات والمصطلحات التي وردت على ألسنة وأقلام السلف نجدها في عصرنا الراهن، لكن المعاني قد تغيرت من أساسها، فالحرية والعلم والعمل والسعادة والتضحية في سبيل الحق، والتمييز بين الخبيث والطيب، والمنزلة بين المنزلتين. فالتراث يؤخذ صورته لا مادته .

 فالدكتور زكي نصب نفسه حاكماً على التراث، رافضاً لأكثره وقابلاً لقليل منه، كما أن التراث الذي كان مجال اهتمامه وقبوله هو كتابات الفلاسفة خاصة ابن سينا والنظّام وابن رشد والغزالي، وكتب الفرق التي تعظم العقل خاصة المعتزلة وجماعة إخوان الصفا([3]).

العناية البالغة بتعيين معاني الكلمات واستخدام لغة سليمة :

  من أهم الأمراض العقلية التي أصابت الأمة العربية في رأي زكي نجيب محمود هو الغموض والخلط بين المعاني لا سيما إذا كان بين الشيئين شبه قريب أو بعيد، فالدكتور طول حياته الثقافية والفكرية قد أخذ على نفسه إبراز الفروق بين المعاني المخلوطة وتحديد مفاهيم الكلمات التي تجري على ألسنة الناس حتى المثقفين منهم بدون أي مبالاة بمحاملها في الحياة العملية.

 يشكو زكي نجيب محمود من هذه الظاهرة السائدة في العالم العربي” فقد اعتادت الألسنة والأقلام أن ترسل القول إرسالا، غير مسؤول، دون أن يطوف ببال المتكلم أو الكاتب أدنى شعور بأنه مطالب أمام نفسه وأمام الناس، أن يجعل لقوله سندا من الواقع الذي تراه الأبصار وتمسه الأيدي”[4] فاللغة ليست عنده وعاء مجردا يمتلأ بالأفكار كما هو مألوف بين الناس بل هي فكرة بعينها[5].

ويحدث كثير من الضجة والغوغاء حول آراء ومذاهب من جراء الاختلاف في الكلمات لعدم تحديدها وتحليلها، وإذا وضعنا تلك الكلمات تحت المجهر يدخل الناس والدول كثيرا في القتال والحروب نتيجة حدوث الخلط بين المعاني، فنرى الاختلاف في معاني الحرية، والاستبداد، والعدوان والإرهاب والروحانية والمادية بين الأمم والجماعات[6].

وهذا الغموض الذي أحاط مجال الأفكار ومعاني الكلمات بضبابه دفع العالم العربي في رأي مفكرنا إلى الفقر في مجال الإبداع وإحداث الجديد ومواصلة السير في طريق التقدم، لأنه يرى أن الاهتمام بالتدقيق في استخدام اللغة هو الذي لعب دورا مهما في نهوض الأمم وقيام الحضارات.

ضرورة توضيح حدود مجالات العلم والدين والفن، وتقسيم ميادينها:

 إن مقومات الحضارة في رأي زكي نجيب محمود ترجع في عددها إلى ثلاث : العلم، والدين، والفن[7]. ولكل حدوده ومعالمه الخاصة دون سواه، فلا بد من رعاية هذه الفروق التي تميز بعضها عن بعض، فلا نقع في الخلط عند التعامل مع المواقف في الحياة العملية مما ينتج عن نشوب خلافات ومعارك في حياتنا الثقافية دون العلم بحقيقة كل من هذه الجوانب الثلاثة، فهذه الثلاثة بمثابة أعضاء جسم واحد، كل منها له وظيفته غير الوظيفة التي يؤديها الآخر، لكن كل منها مرتبط بالآخر والكل ضروري .

  إن العلم بأقسامه الثلاثة من الرياضة والطبيعة والإنسانية يعتمد على منطق العقل، ومنطق العقل هو حركة استدلالية انتقالية يتحرك بها الفكر من مقدمات أو شواهد إلى نتائج تكون هي نظريات العلم وقوانينه،[8] فالعقل ينتهي إلى هدفه عن طريق غير مباشر لأنه يركن إلى حركة انتقالية تتوسط بين المعطيات الأولية من جهة والنتائج التي تولدت عنها من جهة أخرى . أما العقيدة الدينية فأساسها “إيمان ” والإيمان طريق مباشر، ينزل الوحي على نبي أو رسول فيعلنه أمام الناس فمن يقبله يصبح مؤمنا، وهذه العملية شبيهة بعملية التذوق، أنت تضع الطعام على لسانك فتشعر بمرارته أوحلوه مباشرا بدون أي وسيط بين الطاعم والمطعوم .

  والأمر لا يحتلف بالنسبة إلى النشوة الفنية، إذا استمعنا إلى رائعة من روائع اللغة التي تجذب قلوبنا إليها كقصيدة الشعر أو إذا شاهدنا منظرا خلابا في الطبيعة أو قطعة جميلة من بدائع الفن مثل اللوحة . “هكذا ينزل الوحي – على حد قول مفكرنا- على القلوب فتنبض بالقبول فيكون إيمانا”. [9]

 الفرق الآخر بين الدين والعلم : إن الإيمان يرشد المؤمنين في تصرفاتهم وسلوكياتهم من خلال مجموعة من القوانين والقيم الخلقية التي تميز صواب السلوك من خطائه، فتأمربما يجب فعله وتنهى عما لا يجوز فعله، لكن هذه الأوامر والنواهي عند زكي نجيب محمود تأتي قبل السلوك ذاته الذي يهتدي بهديها، بينما قوانين العلم تأتي بعد وجود الظواهر الكونية التي يستخلص منها قوانينها .

 أما الأدب والفن فالفرق بينه وبين العلم أن اهتمامات الأديب تدور –ليندرج عمله في زمرة الأدب –حول الإنسان لا من حيث أن تجعله ظاهرة من ظواهر الطبيعة كما يدرسه دارس العلوم الإنسانية من علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد، بل على جوانب الفرد البشري الخاصة، بينما دارس العلم في الإنسان يطرح من حسابه خصائص الفرد لينصرف ببحثه إلى ما هو مشترك بين الناس جميعا أو مجموعة من الناس اختارها موضوعا لبحثه، نجد صاحب الإبداع الأدبي يتوجه إلى التخصيص والتفريد فيطرح من حسابه كل ما هو عام ومشترك بين الناس، فالعلم يعتمد على التجريد والتعميم، والأدب يقوم على التخصيص والتفريد، فظهر أن الأديب غير مسؤل عن إقامة البرهان على إثبات التوفيق بين كلامه من القصيدة أو المسرحية أو الرواية وبين حقائق الأشياء كما هي واقعة في عالم الوقائع، بينما يكون من حق كل مختص في ميدان علمي أن يطالب العالم الطبيعي أو الباحث الذي وصل في بحثه العلمي إلى نتيجة معينة بتبين كيفية الوصول إلى تلك النتيجة إلى جانب تطبيقها على الواقع الخارجي.[10]

 العلم يبحث عن الحق – حسب قول زكي نجيب محمود- أي يمكن لكل من أراد تحقيق حصيلة العلم أن يجد التطابق الدقيق بين القوانين والظواهر الطبيعية، أما الدين فهو يهدينا عند الدكتور إلى قيمة الخير بمعنى أن يقيم لنا قواعد السلوك التي تضبط الحياة الأخلاقية للإنسان فتنفعه في الدنيا والآخرة، وفيما يتعلق بالفن فهو ينشد قيمة الجمال التي تتجسد في البناء الفني من الصوت في الموسيقى، والكلمات في الأدب والألوان والخطوط في التصوير والحجر في النحت والعمارة، فهذا البناء يحدث حالة معنية في نفس الإنسان المتلقي.

 إن من أهم ميزات الدين والفن عند زكي نجيب محمود أنه لا يطرأ عليهما تغير جذري يقتضي أن يكون أصحاب الفنون من الشعراء والأدباء والفنانين والعاملين والعلماء بالدين من العباد والزهاد من السابقين الأسلاف أدنى درجة وأقل أهمية منهم في العصر الراهن، بل يمكن أن تكون الفضيلة للسابق ويعتبر الماضي أكثر رقيا وفضلا من الحاضر، إنما العلم هو الذي يقبل هذا التغير الناتج عن التقدم نحو الأمام، وكل خطوة من العلم يخلف السابقة لها[11] .

التقدم هو أسمى وأعلى سمات يتميز بها هذا العصر من سابقاته :

  من أهم الأفكار التي دعا الدكتور زكي نجيب محمود بكل قوة لتجديد الفكر العربي هي فكرة التقدم، إذ أنها من أبرز ما يميز العصر الحديث كله لثلاثة قرون مضين وإلى يومنا هذا[12]، وكل من يؤمن بتقدم هذا العصر فلا بد أن يعتقد أن العالم يسير من نقص إلى كمال، لا أن السير يجري من كمال إلى نقص، فمعنى ذلك أن الماضي أقل صلاحية من الحاضر في كل الظروف، وإلا فكرة التقدم تفقد معناها، فإذا اتخذنا فكرة التقدم كمحور تدور حوله جميع نشاطاتنا في الحياة العملية صار المعيار الذي تقاس إليه تصرفاتنا وسلوكياتنا هو المستقبل بعد أن كان الماضي قد احتل هذه المكانة، عندئذ نزن مدى نجاح الأعمال بما ترجع إلينا بأكبر قدر ممكن من المنافع التي تدفعنا نحو الأفضل والأسمى من الأوضاع السابقة في العلم والمعرفة والصحة والحرية، فالمعول سيكون الغد لا الأمس .

فكرة التقدم وليدة عصرنا في رأي الدكتور، لأنها تعتبر كل مرحلة لاحقة من حياة الإنسان أفضل من أي مرحلة سابقة، ولم تكن وقفة السابقين في مقارنتهم بين الماضي والحاضر هكذا، فالعصر الذهبي عندهم في كل الميادين ما انقضى .[13]

لكن قبول فكرة التقدم لا يعني أن الإنسان يشرح صدره لقبول النتائج التي تترتب على هذه الفكرة، وهذه الظاهرة تسود العالم العربي في رأي الدكتور حيث أنهم يرفعون شعار التقدم لكنهم يرفضون ترجمتها في حياتهم وأفكارهم .

 لكن ينشأ هنا سؤال كيفية فكرة التقدم وليدة عصرنا، وما صحة هذه الدعوى أن التقدم من ميزات هذا العصر، يجيب الدكتور زكي بأننا نتحدث عن التقدم في مجال الدين فحسب، لأنه هو العنصر الوحيد من عناصر العناصر الحضارية الذي يتقدم، فالعلماء (علماء الطبيعة) اليوم أكثر علما وأدق منهجا من السابقين، فلا يمكن أن يحتقق التقدم في الماضي بالنسبة إلى العلم، وأما سائر المجالات فلا مانع أن تكون الأفضلية لمن مضى .[14]

الانتهاج بمنهج علمي :

إن العلم قد استخدم في تاريخه ثلاثة مناهج، كل منهج منها جاء في عصره ليسد نقصا في المنهج الأسبق كان المنهج عند اليونان هو منهج القياس بمعنى استخراج النتائج من مقدمات لفظية واتخذ العرب نفس المنهج، بينما في عصر النهضة الأوروبية التي ظهرت في القرن السادس عشر تولد منهج جديد كان يدور حول الكشف عن مواضع مشتركة بين الظواهر الكونية مما ينتج عن صياغة قوانين الطبيعة، ثم دخل العصر في القرن التاسع عشر، فتبدل المنهج القديم بجديد يعتمد على الأجهزة الحديثة المتطورة، فأصبح التكنولجيا منهجا علميا يسود عصرنا.[15]

فلا بد للعرب من المشاركة في العصر الجديد باتخاذ منهج علمي، ولا يتأتى ذلك بمجرد طريقة الحفظ والسمع التطبيق لما يبتكره الآخرون لنا، حيث أن يكتفوا بالنقل عن الغرب أجهزتهم وتقنياتهم دون الخوض في غمارها

فقد كانت هناك ثقافة تفضل العاطفة على العقل، وترجح الكلام على العمل، تأكل الكلمات وتشرب الكلمات، يسودها جو كله كلام في كلام، وشرح في شرح، وتفصيلُ مجملٍ، وإجمال مفصل، فهذا نص وذلك تحليله، وهذا شرح لتحليله، وذلك هو الشرح على الشرح، والتحليل للتحليل، فينتقل القارئ من فقرة في كتاب إلى فقرة أخرى في كتاب، ثم من مقدمة على صفحة إلى نتيجة تلزم عنها على صفحة أخرى، فرحلة الدارسين تبدأ على الورق، وتنتهي على الورق، كلام يسبقه كلام ويلحقه كلام، ثم يقال عن أصحابه أنهم “علماء”[16]

فيرى الأستاذ زكي ضرورة تبنى ثقافة تحض على العمل، وتؤثر العقل على الوجدان، تجعل من العلم أداة وقوة لتغيير البئية المحيطة بالإنسان على النحو الذي يحقق أغراضه، دون أن يبقى معلومات في معلومات وإحصاءات فوق إحصاءات مما لا يزيد من الدنيا شيئا ولا ينقص منها، يقول المفكر الفيلسوف: ” إذا كنت قد حصلت على ما تسميه علما، ثم لا تعرف كيف تستخدمه أداة للتغيير والخلق، فاعلم أنك لم تحصل من ” العلم ” شيئا.[17]

تشكيل نظام تربوي للجيل الناشي ما يمكّنه من المشاركة الفعّالة في عصره بمتطلباته:

 التخطيط السليم لتربية الجيل الناشئ من الأمور التي لفتت انتباه الدكتور زكي نجيب محمود، فشدّ اهتمامات القائمين على التربية والتعليم إلى جوانب تستدعي عنايتهم في هذا الصدد، ومن أهمّ النقاط التي وجه الدكتور أنظار رجال التربية إليها ما يلي.

  • لا بد من إقامة نظام تربوي مشترك لجميع المتعلمين لتحقيق الوحدة الثقافية وذلك لا يتأتى إلا عن طريق إزالة الازدواجية في الاتجاه والرؤية، الأمر الذي قسم الشعب بين الاتجاه السلفي والاتجاه الغربي، ولتسديد الفجوات المتعمقة بين أبناء جيل واحد يجب ضم ما يجري من الخطين الدراسين للأزهر والجامعات العصرية، لكي يكون التعليم واحدا إلى سن الخامسة عشرة، ثم تتفرع الدراسة حسب ميول الطلاب[18].
  • إن الشباب بحكم نشأته في أسرة ومجتمع عربيين حيث يغرس أولياؤه مجموعة من القيم السائدة لكي لا يخرج على التقاليد الموروثة، لكن هذه القيم والأفكار كثيرا ما يشكل عائقا دون تقدمه إلى الأمام، فلا بد من المدربين والمعلمين الذين لهم قدرات على التنفيد إلى تلك الثقافة الكامنة في دخائل التلاميذ، فيبدلونها بأفكار وثقافة تدفعهم نحو حياة عصرية، وعندئذ يتجه الشباب إلى الابتكار وعلمية النظر [19].

يفقد العرب حرية فكرية بعد أن تحرروا من قبضة المستعمر الطاغية، وذلك أنهم مازالوا لا يدركون كيفية استخدام هذه الحرية السياسية في مجالات يريدون مواكبة العصر فيها، الحرية في رأي زكي نجيب محمود هي “القدرة على العمل في الميدان الذي نريد أن نكون أحرارا فيه “[20] فالحرية تدور مع العلم وجودا وعدما كما قال أفلاطون[21] ولما كان العالم العربي – على التحرر من أغلال الالغرب- لم يكتسب قدرة على الإنتاج والابتكار والتصنيع، وليس له غناء عن مستعمره السابق في الحرب والسلم، إذا شاء استجاب له وإذا شاء امتنع.  فلا يعني هذا إلا بقاء سيادة الغرب، كل ما هنالك هو فرق بين السلطان الظاهر بالأمس، والسلطان الخفي العلمي اليوم، فالنجاة تكمن من هذه الحالة السيئة في التربية، فالشعوب التي تحكم العالم تربي أبنائها تربية تعدهم لحمل تبعة الحرية، ما يشمل الكشف عن أسرار الكون المجهولة واقتحام وُدْيان العلم لكي تتحقق له القدرة على إمساك عنان الطبيعة. يرى الدكتور قصورا في تربية الأبناء عند العرب، فهي ترسخ في قلوب الناشيئن خوفا من الحرية وتحمل تبعاتها، فلا مناص إذن من الاستبدال بتربية تفتح أمامهم طريق الحياة المغامرة .

فكرة عربية جديدة تتسق مع الفلسفات والنظريات الحديثة في روحها و تضيف إليها ما ينقصها:

 يدعى الدكتور زكي نجيب محمود أن العربي لا مندوحة له من مواكبة روح العصر الحديث في همومه ومشكلاته، إلى الاحتفاظ بميزاته الثقافية، والمشاركة تكون في المسائل الرئيسية التي أنشأتها ظروف العصر وحوادثه أمام الإنسان، لأن وحدة عصر فكري لا تتحقق إلا إذا كانت الأسئلة المطروحة يتفق عليها أبناء عصر واحد، فلا حرج بعدئذ أن تأتي الإجابات لنفس المشكلات مختلفة .

 الأسئلة والمشكلات التي يطالب العصر بحلولها، تدور حول ثلاث نقط رئيسية عند الدكتور زكي نجيب محمود، وهي الله والإنسان والكون وحقائقها[22]، وما هي العلاقة التي تربط كلا منها بالآخر؟ فماذا تكون إجابات المفكرين والمثقفين عن هذه الأسئلة بحيث تلائم روح العصر ومقتضياته ؟

العلاقة بين الله والإنسان :  إن الإنسان في الثقافات الأخرى يحرص على إثبات نوع من التوحيد بين الخالق والمخلوق، لأن التفرقة بينهما أقلقته، فاليونانيون قد تصوروا آلهة تنزل إلى الأرض لتلهو مع البشر حينا ثم تعود إلى رفعتها من جديد، بينما الديانة الهندية حلت الإنسان في الإله ليكونا متحدين، فالإنسان فيها بمثابة جزء من الكل الذي يحتويه، الفكرة المسيحية ليست ببعيدة عنها حيث تدعو إلى عقيدة من شأنها تحول الإله إلى الإنسان، والفلاسفة قد انقسموا على أنفسهم إلى الثنائيين والموحدين والمحايدين بالنسبة إلى الروح والمادة، لكن الفريق الثنائي عندهم يجعل كلا من الروح والمادة على مستوى واحد، فهما معا أزليان عندهم.

 فماذا للعربي من موقف حيال هذه القضية، ينفرد به ؟ فالعربي في رأي زكي نجيب محمود مائل إلى مبدأ الثنائية في الوجود الذي يشكل طابعا متميزا يجعل من الفكر العربي مختلفا عن سائر الأفكار والمذاهب والثقافات، فالثقافة العربية الإسلامية تطالب الإنسان في العصر الحاضر بأن يفرق بين الأرض والسماء بين عالم الأزل وعالم الزوال، بين الفكرة المطلقة وعالم التحول، بين الله و خلقه، فالأول جوهر لا يتبدل والثاني عرض يظهر ويختفي.

 نعم كان للحياة الوجدانية – وفيها الإيمان الديني – نوع من الأولوية يجعلها أسبق لحد ما.[23] على أن أولوية الشطر الروحاني لا يعنى ذلك طمس الفرد الجزئي من النوع الإنساني وإلغاؤه كما فعل أفلاطون في نظرته الثنائية[24]، بل تقرّ للفرد هويته ووجوده المتميز حيث تثبت للإنسان نوعا من الإرادة الحرة المسؤلة وتلقي عليه تبعات عن أعماله، لكن ما يثير استغرابنا هو تغير موقف الدكتور في الفصل اللاحق من نفس الكتاب، فهو يعود ويزعم لنا أن هذه وقفة الثنائية عند العربي وقفة أفلاطونية [25].

 وينتج عن هذه النظرة الثنائية أن العربي المسلم لا يتطلع في أعماله الخلقية إلى منفعة تعود عليه، إنما يكون الفعل عنده فاضلا بدون النظر إلى النتائج، فتصدر عنه الفضيلة والأخلاق على أساس الواجب لا على أساس الفائدة، نعم قد تتحقق له منافع مصحوبة بالأعمال[26] .

وهذه النظرة الكونية تتمثل أيضا في موقف العربي حيال الجمال في الفن، فإن كان الجمال يكمن عند غيره في تشكيل اللون أوالصوت أوالحجر في مختلف حالات الفن مما لا تتجاوز نشوته خارج دائرة الحواس، فهو ينعكس عند العربي في البناء الهندسي من أشكال المربعات والدوائر والمثلثات مما يتيح للخيال أن يطير بها إلى عالم فسيح لا نهائي، هنا تتجلى رؤية عربية تبحث عن الغيب والمطلق وراء الظاهر المقيد[27]. لكن الدكتور يتقدم بموقف معارض تماما في الصفحات اللاحقة من نفس الكتاب، فالبناء الهندسي الذي هو يعده من ميزات الفكر العربي الرائعة، فهو يجعله سببا للتخلف وعيبا في الثقافة العربية التي ترجح الشكل على المضمون والحقيقة .[28]

 على صعيد ذي صلة لم يكن الأدب العربي قليل الحظ من تشرب هذه النظرة، فنراه يدور حول الحكمة العامة التي لا تتقيد بمكان وزمان محدودين، فيهدف إلى رسم النماذج المطلقة المثلى عن طريق تصويره صورة كاملة للموقف، فإذا وصف الشاعر جوادا أو ناقة أو ما شاء أن يصف ما ينبغي أن يكون لا كما هو كائن بالفعل .[29]

 فهذه الثنائية المقترحة تفتح آفاقا مغلقة في رأي الدكتور، فالغرب يستمد علمه وقيمه هنا من الأرض على أساس القوة والمنفعة، أما العربي فيستخرج العلم من الأرض ويفوض القيم إلى السماء، فالعلم عنده نسبي يتغير مع التقدم، والقيم ثابتة لا تتغير، فهذه الثنائية تعطي كلا من كرامة الإنسان وأهمية العلم حقه. هنا يطالب الدكتور زكي –وهو يطرح هذه النظرة العربية – عالم الفكر أن يأخذوا بهذه الوفقة العربية ما ينقصهم، فلما كان إنجلترا وأمريكا يسودهما فلسفة علمية لا تعبأ للإنسان فالمطلوب منهم أن يضافوا فلسفة الإنسان الحي من العرب، بينما نطالب فرنسا وألمانيا بتغيير وقفتهما تجاه الإنسان الذي بلغ لديهما مكان الإله، فالعربي الذي يوافقهم على الاهتمام بالإنسان الفرد يدعوهم إلى جعل الإنسان رسولا بدلا من الإله، ثم يقدم العربي موقفه على شرقي أوروبا الذي يصر على النظم والجماعة بحيث يفقد الفرد حريته، فيطالب العربي بإضافة الحرية المسؤلة، وهكذا يمضي العربي في سيره ليذهب إلى الهند فيطالبها بإعادة الفرد مكانته كجوهر مستقل بعد أن دمجتها الفلسفة الهندية في الكون العظيم[30] .

علاقة الإنسان بالطبيعة أو الكون عند العربي :

 الغرب بعلومه وأجهزته ينظر إلى الكون من منظور معرفي، فالعلاقة التي تربط الكون بالإنسان هي علاقة العارف مع موضوع معرفته، بينما العربي يرى أن العلاقة بين الطبيعة والإنسان هي علاقة الفاعل بما ينصب عليه فعله، بعبارة أخرى هي علاقة الإرادة بالفعل المراد لا علاقة العارف والعاقل بموضوع معرفته أو بالمعقول كما يراه زميله الغربي بحكم ثقافته، فالأولية تتمتع بها الإرادة في حياة العربي، وذلك الفكر منبثق من ينبوعه الثقافي من القرآن الكريم الذي يحث أتباعه على ترجمة قوانينه التشريعية في حياتهم العملية وليست هذه القوانين من قبيل الأفكار المجردة إنما ترتبط كلها بالحياة الفعلية.

 فمدار الاهتمام عند العرب بالنسبة إلى مواجهة الإنسان الطبيعة هو الأخلاق، بينما الغرب يتخذ من العلم محورا أساسيا له في التعامل مع ظواهر الكون، فالعربي يضيف –مستمدا من عقيدته الدينية – إلى العصر مشاركا في مشكلاته وهمومه أخلاقية الفعل المنضبطة، بعد أن كانت الأخلاقية منحصرة في النية والضمير، فأخلاقية الفعل تنقل النية أو الضمير إلى فعل يؤدي، ودرجة صحة الفعل تقاس بالنسبة إلى غير الفاعل من الناس في المجتمع.

يقول زكي نجيب محمود :” الفعل وديناميته لا العلم المجرد وسكونه، هو حجر الزاوية من البناء الإنساني من وجهة النظر العربية”[31] وهذه الميزة للثقافة العربية تتمثل في اللغة العربية وطرائق بنائها، فهي تبدأ الجملة بالفعل على عكس اللغات الأوروبية التي تبدأ جملتها بالفاعل .

فهذه بعض المحاور التي ركز عليها الدكتور زكي محاولاته المستميتة في تغيير مسار الحياة الثقافية العربية، وتلقى قبولا واسعا في الأوساط العلمية والفكرية لا سيما في السبعينيات، لكنه تضاءل تأثيره مع مرور الزمن، وشغلت الناس الجوانب الأخرى من الثقافة نتيجة الثورة التكنولوجية ووسائل الاتصال، لكنه لا يقلل من أهمية جهود الدكتور في تجديد الفكر العربي، كما كان الدور الذي اضطلع به في هذا الصدد لا يزال خالدا في دنيا الفكر والثقافة.

الهوامش

[1]) محمود : زكي نجيب ،  قصة عقل ، ص 191

[2]) نفس المصدر ، ص 190

([3]): أبو زيد : د. منى الفكر الديني عند زكي نجيب محمود ، ، ص 113

[4] ) محمود : زكي نجيب ، مقدمة موقف من الميتافيزيقا

[5] ) محمود : زكي نجيب ، قشور ولباب : 171-172

[6] )محمود: زكي نجيب،  رؤية إسلامية : ص 52

[7] ) محمود: زكي نجيب، حصاد السنين ، ص 128

[8] ) نفس المصدر، ص 206

[9] )نفس المصدر ، ص 207

[10] ) نفس المصدر 215-216

[11] ) نفس المصدر : ص 128

[12] ) محمود: زكي نجيب ، افذة على فلسفة العصر ، الجزء الأول : خلاصة ص 25- 30

[13] ) نفس المصدر : ص 39

[14] ) حصاد السنين : ص 127-128

[15] ) محمود: زكي نجيب ، في مفترق الطرق 182-184

[16] ) محمود: زمي نجيب ، نافذة على فلسفة العصر الجزء الأول: ص 12-22  و الكوميديا الأرضية ، ص 196-206

[17] ) نفس المصدر ، ص 16

[18] ) في مفترق الطرق 126

[19] ) نفس المصدر : ص 197

[20] ) حصاد السنين : ص 105

[21] ) نفس المصدر : ص 106

[22] ) تجديد الفكر العربي ، ص 365 حصاد السنين ، ص 152

[23] ) قصة عقل : الفصل السابع “عقل ووجدان معا” ص 175-200

[24] ) تجديد الفكر العربي : ص 275

[25] ) نفس المصدر 294

[26] ) نفس المصدر : ص 277

[27] ) نفس المصدر : ص 278

[28] ) نفس المصدر : ص 298

[29] ) نفس المصدر : ص 280

[30] ) نفس المصدر : ص 286

[31] ): نافذة على فلسفة العصر ، الجزء الأول ، ص 58

المصادر والمراجع :

محمود، زكي نجيب : تجديد الفكر العربي : دار الشروق، القاهرة، الطبعة  التاسعة، سنة 1993م.

محمود، زكي نجيب : حصاد السنين : دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، سنة 2005.

محمود، زكي نجيب : رؤية إسلامية : دارالشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، سنة1993

محمود، زكي نجيب : في مفترق الطرق : دارالشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، سنة 1993م

محمود، زكي نجيب : قشور ولباب : دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، سنة 1981م

 محمود، زكي نجيب : قصة عقل : دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1982.

 محمود، زكي نجيب : الكوميديا الأرضية دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، سنة 1983م

محمود، زكي نجيب : موقف من الميتافيزيقا : دار الشروق، القاهرة، الطبعة  الرابعة، سنة 1993م

محمود، زكي نجيب : نافذة على فلسفة العصر الجزء الأول : وزارة الإعلام – مجلة العربي، الكويت، الطبعة الأولى، سنة 1990م.

أبو زيد، د. منى أحمد: الفكر الديني عند زكي نجيب محمود، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1996

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *