عبد الحكيم*
المدخل إلى الموضوع:
يعد المؤرخ الهندي الكبير العلامة عبد الحي الحسني الندوي من أكبر العلماء والأدباء الممتازين في شمال الهند الذين خدموا اللغة العربية وآدابها كثيرا في منتصف القرن التاسع عشر وفي أوائل القرن العشرين. وكان عالما كبيرا، وأديبا عبقريا، ومفكرا عظيما، له جولة وصولة، ومهارات فائقة في اللغات الأربعة: العربية، والأردية، والفارسية، والهندية. وكان ماهرا في البحث والتحقيق والتحليل العلمي والأدبي. كانت شخصيته الفذة تمتاز بقدرات متنوعة ومميزات مختلفة في الكتابة، والصحافة، والخطابة، والدعوة الإسلامية، وتنظيم الجمعيات الدينية، وتدريس العلوم الإسلامية والأدبية. وكان له دور هام في توطيد العلاقات الودية والأخوية بين الهند والعرب بتأليفاته وتصنيفاته القيمة وبحوثه الأكاديمية. ولا مراء فيه أنه كان عالما كبيرا، وأديبا فذا خلف ورائه عددا ضخما لا بأس به من الكتب والمقالات والبحوث العلمية في الفنون الأدبية والدراسات الإسلامية والقضايا العالمية. ومن أهم انتاجات العلامة التي ألفها وصنفها بعد تجربة علمية وخبرات واسعة في مجال العلم، والمعرفة، والأدب، والشعر، والتاريخ، والسير، والعلوم العقلية، والنقلية هي ” الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام” المسمى بـ” نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” ونحن الحديث بصدده الآن.
فإن هذا الكتاب المسمى بـ”نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” يعد مرجع كبير في موضوعه، حيث جمع العلامة عبد الحي الحسني الندوي أحوال الشعراء، والأدباء، والكتاب، والأمراء، والحكام، والفقهاء، والمحدثين، والمفسرين، والزعماء، والقادة الهنود من القرن الإسلامي الأول حتى وفاتهم. يتضمن الجزء الأول من هذا الكتاب تراجم الشعراء والعلماء والكتاب والفقهاء والأولياء من القرن الإسلامي الأول إلى القرن السابع للهجرة بالحروف الأبجدية، وبعد ذلك كل جزء من هذا الكتاب يتضمن تراجم الشعراء والأدباء والمحدثين والمفسرين والفقهاء الآخرين حتى ينتهي الجزء الثامن بتراجم أعيان الهند من القرن الرابع عشر الهجري، وأول ما طبع من هذا الكتاب هو الجزء الثاني حيث طبعت دائرة المعارف العثمانية في حيدرآباد كتاب : ” الدرر الكامنة ” للحافظ ابن حجر العسقلاني، ثم صدر الجزء الأول في سنة 1350هـ- 1931م، لملأ هذا الفراغ الواقع في كتاب ” الدرر الكامنة ” وكان ذلك في عهد إدارة الأستاذ السيد هاشم الندوي وتحت إشرافه، ثم ظهرت الأجزاء الأخرى عن دائرة المعارف نفسها، وكلما توقف الطبع فيحث عليه مولانا أبي الكلام آزاد وزير المعارف في الجمهورية الهندية آنذاك، حتى ظهر الجزء السابع في سنة 1078هـ- 1959م بإشارته، وبعد عدة سنوات جاء الجزء الثامن من هذا الكتاب وطبع في سنة 1390هـ- 1970م. فنظرا إلى أهمية الموضوع قد قمت بتقسيم المقالة إلى محورين، في المحور الأول سألقي الضوء على حياة العلامة عبد الحي الحسني ومساهمته الجليلة التي قام بها في ترويج الدراسات العربية في الهند، وفي المحور الثاني ساقوم بدراسة تحليلية ونقدية واعية لكتاب ” الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام” المسمى بـ” نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر”.
المحور الأول: نظرة عابرة على حياة العلامة عبد الحي الحسني الندوي وخدماته في الدراسات العربية
أولًا: ولادته ونسبه
هو مؤرخ الهند الكبير العلامة عبد الحي الحسني، الذي استحق بجدارة لقب” ابن خلكان الهند” لمؤلفه القيم ” نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” في ثماني مجلدات عن أعلام المسلمين في الهند وعمالقتهم، طبع أخيرا باسم “الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام.[1] انحدر العلامة من سلسلة النسب الكريم الذي ينتهي إلى أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه، ونسبه الكريم كما يلي:
السيد عبد الحي بن السيد فخر الدين الراى البريلوي بن عبدالعلي بن علي محمد بن أكبر شاه بن محمد تقي بن عبدالرحيم بن هداية الله بن إسحاق بن محمد معظم بن القاضي أحمد بن القاضي محمود القاضي علاء الدين بن قطب الدين محمد الثاني بن صدر الدين بن زين الدين بن أحمد بن علي بن قيام الدين بن صدر الدين بن القاضي ركن الدين بن الأمير نظام الدين بن شيخ الإسلام الأميرقطب الدين محمد المدني بن رشيد الدين أحمد بن يوسف بن عيسى بن السيد أبي الحسن علي بن أبي جعفر محمد بن قاسم بن أبي محمد عبد الله بن سيد حسن الأعور الجواد نقيب الكوفة بن السعيد بن الثاني بن أبي محمد عبد الله الأشتر بن السيد محمد صاحب النفس الزكية بن المحض بن الحسن المثنى الإمام الحسن بن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب رضي الله تعالى عنهم[2]. ولد في سنة 18رمضان المبارك عام 1286 هـ الموافق 22 ديسمبر عام 1869م في زاوية السيد شاه علم الله، كان اسمه السيد أحمد لكنه معروف بعبد الحي الحسني[3].
ثانيًا: نشأته وتعليمه
نشأ منذ نعومة أظفاره في طاعة الله، وفطم نفسه منذ حداثتها على تقواه، فكانت جدته لأمه صالحة تقية، وكانت ممن يابع السيد الإمام أحمد بن عرفان وكانت تحبه ويلازمها، وكان أبوه السيد فخر الدين فاضلا عارفا ذا مسكنة وتواضع وقناعة، وكذلك كثير من أعمامه وأخواله، فنشأ العلامة على الخير والصلاح، وتربى في حجر الدين والعلم[4]. تلقى دراسته الابتدائية ومباديء اللغة الفارسية والعربية والإنجليزية على علماء وشيوخ بلده، ثم قرأ الفقه والأصول والتفسير على كبار علماء مدينة لكناؤ، واستفاد في الحديث وعلومه من محدث الهند الكبير العلامة الإمام عبد الحي اللكهنوي، ثم سافر إلى بوفال وقرأ الحديث على العلامة المحدث الشيخ حسين بن محسن الأنصاري، وقرأ الطب على أحد الأطباء الحذاق، وزار في الهند المراكز العلمية والدينية، واجتمع بكبار العلماء والشيوخ واستفاد منهم[5].
ثالثًا: نشاطاته العلمية والأدبية
إن العلامة عبد الحي الحسني كان واحدا من عمالقة الهند وأعلامها، كان مولعا بالعلم والمعرفة، والبحث والاستقصاء، ومغرما بالتاريخ، وهاويا للتصنيف والتأليف فيه، قدرت الهند فيما بعد علمه وجهده، وآثاره العلمية العظيمة، التي قدمها عنها(عن الهند) إلى العرب بلسانهم المبين.[6] قضى العلامة معظم حياته مساهما في العلم والأدب بقلمه ولسانه وخادما الدين الخالد إلى يوم القيامة، وقد قام بمساهمات جبارة مشكورة في مجالات عديدة، وكان شغله الشاغل الدراسة والمطالعة والقراءة والكتابة والتأليف والتصنيف للكتب المختلفة من التفسير والحديث والفقه والسير والرجال والتاريخ والأدب والشعر والبلاغة وغيرها من العلوم والفنون، يذكر ابنه الصغير العلامة أبو الحسن علي الندوي قائلا ” ” لقد كانت بيئة الوالد بيئة علمية تأليفية محضة، فكان يشتري كثيرا من الكتب، وكان المؤلفون والكتاب يبعثون بمؤلفاتهم إليه أيضا، فكان ينظر في كثير من هذه الكتب والرسائل والمجلات نظرة، ثم يضعها في جانب، ويستغني عن بعضها “[7]. ويقول في موضع آخر” ذوق الوالد وانهماكه في الكتب كغاشية أوسحابة تغشى المحيط المنزلي، وتظلِّل على الأسرة كلها، وقد تجاوز هذا التذوق إلى الحب الشديد للقراءة وإدمانها، بل إلى حد أن أصبح هواية، فما أن وقع بصرنا على كتاب مطبوع إلا تلقفناه وأتينا عليه قراءة ومطالعة “[8].
رابعًا: إسهاماته في خدمة ندوة العلماء في لكناؤ
كان الشيخ عبد الحي عالماً كبيراً ومفكراً عظيماً هو المعتمد في أمور ” الندوة ” من أول الأمر، وعليه المعول فيها، وحاز ثقة أصحابه فجعلوه ناظما لندوة العلماء، أي مديرا لشؤونها في سنة 1333هـ، فاستقام على هذا العمل إلى آخر عمره باجتهاد وإخلاص ونصح للمسلمين، ولما أسس أعضاء الجميعة مدرسة سموها ” دار العلوم”، فاعتنى في زمن إدارته بأمورها اعتناء تاماً، حتى تخرجت منها جماعات من العلماء، وغالبها مكبون على الدرس والتصنيف وخدمة المسلمين[9].
خامسًا: مآثره العلمية الخالدة
ترك الشيخ وراءه كتباً عديدةً منها: نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر، والهند في العهد الإسلامي، وتهذيب الأخلاق، وكتاب الغناء، وشرح المعلقات السبع، وكان له كتب أخرى في الأدب مثلاً ريحانة الأدب، والثقافة الإسلامية في الهند، والهند في الهند الإسلامي وله كتب في الحديث والفقه مثلا تهذيب الأخلاق، وقانون في انتفاع المرتهن بالمرهون، والغناء وحكمه في الشرع، وله كتاب ياد أيام في تاريخ إقليم غوجرات، وله كتاب قيم في الشعر الأردي باسم كل رعنا وما إلى ذلك.
سادسًا: وفاته
وقد توفي العلامة عبد الحي الحسني في جمادى الآخر1341 هـ الموافق 1923م، ودفن في مدينة راي بريلي، تغمده الله بواسع رحمته وأدخله في فسيح جناته النعيم.
المحور الثاني: دراسة تحليلية ونقدية لكتاب ” الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام المسمى بـ نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” للعلامة عبد الحي الحسني الندوي
أولًا: كلمات تعريفية حول الكتاب
يعد الكتاب القيم المسمى بـ” نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” للعلامة عبد الحي الحسني الندوي من أهم الكتب التي كتبها وصنفها بعد تجربة علمية أدبية وخبرات موسعة في العلوم الدينية من التفسير والحديث النبوي الشريف والفقه وأسرار الشريعة الإسلامية، والعلوم العقلية والنقلية من الفلسفة والمنطق وعلم الكلام والرجال، والعلوم اللغوية من النحو والصرف والبلاغة وفقه اللغة والمعاجم والقواميس العربية.
يعتبر هذا الكتاب من أهم كتبه النافعة المؤثرة في نفوس القراء والدارسين الباحثين المحققين ممن يريدون الإلمام بتاريخ السير والتراجم والأنساب عبر العصور. جمع العلامة في هذا الكتاب أحوال الشعراء، والعلماء، والفضلاء، والكتاب، والمحدثين، والمفسرين، والزعماء، والقادة، والمشائخ، والأولياء، والصوفياء، والحكام، والوزراء، والملوك، والسلاطين، والحكماء، والأطباء، والأمراء الذين ولدوا وماتوا في داخل الهند وخارجها من القرن الإسلامي الأول إلى سنة وفاتهم، وألقى الضوء على أحوالهم، وصفاتهم، وفضائلهم، وعلو باعهم، ووسعة نظرهم، وغزارة إطلاعهم على العلوم والفنون بالحروف الأبجدية. كما سلط الضوء على تراجم كثيرة للنساء العالمات الفاضلات المسلمات الهندية التي لها صيت ذائع في حقول مختلفة من العلوم الفنون.
يحتوي الكتاب الموسوم بـ” نزهة الخواطر وبهجة المسامع النواظر” على ترجمة أكثر من أربعة آلاف وخمس مئة شخص فقط، حيث ذكر العلامة عن أنسابهم، وألقابهم، وكناهم، وتعلمهم، وأعمالهم العلمية والفكرية، وسنة مواليدهم، ووفياتهم ومآثرهم الخالدة، يذكر العلامة في مستهل الكتاب قائلا ” أما بعد فإنا صنفنا كتابنا “نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” في ثماني مجلدات، وذكرنا فيه من كان في كل عصر من حملة الأخبار ونقلة السير والآثار، ومن فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار وغيرهم من ذوي الآراء والنحل والمذاهب والجدل بين فرق أهل الإسلام، من ولد أو مات في أرض الهند”[10].
رتب العلامة الندوي في الجزء الأول تراجم الشعراء والعلماء والكتاب البازرين الممتازين من القرن الإسلامي الأول إلى القرن السابع للهجرة بالحروف الأبجدية. كما رتب الجزء الثاني في أعيان القرن الثامن بالحروف الأبجدية. والجزء الثالث في تراجم علماء الهند في القرن التاسع. وكذلك جمع في الجزء الرابع أعيان الهند في القرن العاشر. وفي الجزء الخامس أعيان الهند في القرن الحادي عشر والجزء السادس أعيان الهند من القرن الثاني عشر والجزء السابع الشعراء والكتاب والحكماء والأطباء في الهند في القرن الثالث عشر. وكذلك رتب الجزء الثامن بالحروف الأبجدية تراجم العلماء والشعراء والكتاب والمؤرخين المحققين الهنود في القرن الرابع عشر.
لقد طبعت دائرة المعارف العثمانية في حيدرآباد كتاب: ” الدرر الكامنة” للحافظ ابن حجر العسقلاني، واقترح بعض من لهم اطلاع على هذا الكنز الدفين أن يكمل هذا الكتاب بطبع الجزء الثاني من ” نزهة الخواطر” وهو الجزء الذي يشتمل على تراجم أعيان القرن الثامي في الهند. وصدر الجزء الثاني قبل أن يصدر الجزء الأول في سنة 1350هـ- 1931م، لملأ هذا الفراغ الواقع في كتاب ” الدرر الكامنة ” وكان ذلك في عهد إدارة الأستاذ السيد هاشم الندوي وتحت إشرافه، وهكذا شق هذا الكتاب طريقه بقيمته العلمية، وبغنائه، من غير أن يكون لأحد منهة عليه وعلى صاحبه، واطلع عالم العلم والتأليف على هذا الكنز المستور المطمور، ومن هنا طلب المستشرقون والمؤلفون أن ينشر هذا الكتاب برُمّته، وكان الفضل الأكبر في هذا للعلامة السيد مناظر أحسن الكيلاني العالم البحاثة، الذي كان عاكفا على تأليف كتابه “نظام التعليم والتربية” فراجع هذا الجزء المطبوع، وأعجب بفضل الكتاب وغزارة مادته، وأقر بقيمته العلمية الكبيرة، ولفت نظر “دائرة المعارف العثمانية” والمسؤلون في حكومة حيدرآباد إلى مكانة هذا الأثر العلمي العظيم والحاجة إلى إبرازه، وقام بحركة قوية لنشر الكتاب، وأيده كبار العلماء والمؤلفين في الهند، فظهر الجزء الأول في سنة 1366هـ- 1947م، وكان ذلك في عهد إدارة الدكتور محمد نظام الدين، واستمر صدور أجزائه إلى أن توقف بعد الجزء الخامس، واختلفت الأحوال في الهند، وكاد الأمل ينقطع في صدور ما بقي من أجزاء هذا الكتاب[11].
وحدث بعد ذلك أن الشيخ حسين أحمد المدني كبير علماء الهند والزعيم المسلم المشهور، كان يبحث عن أخبار بعض أجداده وتراجمهم، فلا يجدها فيما يتيسر له من كتاب مطبوع أو مخطوط، فراجع هذا الكتاب فوجد معظمها في أجزائه، فسر بذلك سرورا عظيما، ولفت نظر مولانا أبي الكلام آزاد وزير المعارف في الجمهورية الهندية آنذاك، وله معرفة شخصية بالمؤلف، وتقدير لهذا الكتاب، فأشار إلى أن ظهر الجزء السابع في سنة 1078هـ- 1959م بقي الجزء الثامن وحده، وطبع سنة 1390هـ- 1970م[12].
ثانيًا: من أهم الدوافع التي دفعته إلى تأليف هذا الكتاب
يحتل الكتاب مكانة علمية أدبية لدى الأوساط العلمية والأدبية. وفي الواقع أن الكتاب ليس كتاب السير والتراجم والأنساب والرجال فحسب بل أنه قد اشتمل على جميع نواحي الثقافة الإسلامية الهندية، وجميع الشؤون العلمية والأدبية والفنية الهندية التي تتجلى في شؤون المسلمين في الهند، ويتضح به كل ناحية من نواحي المجتمع الهندي على حد سواء. يشتمل الكتاب على فوائد جمة عن تاريخ الهند العلمي والأدبي والفكري والإسلامي والسياسي والاجتماعي للعهد الإسلامي حيث نجد ألوانا عديدة من الشجاعة والصبر والوفاء وحب الوطن والرغبة الشديدة في العلوم والفنون وما إلى ذلك.
فلعل هذه التوطئة تجبرنا على أن نسأل عن أنفسنا بأنه لماذا كتب العلامة الندوي هذا الكتاب؟ وما هي البواعث والدوافع التي تحرضه على تأليفه باللغة العربية دون اللغة الأردية (لغته الأم)؟ هذه هي التساؤلات التي تأتي في أذهاننا كما تأتي في أذهان الباحثين الآخرين على العموم والمشتغلين بالسير والتراجم والأنقاب على الخصوص. عندما نحاول الإجابة على هذه التساؤلات المتكررة فالأمر الذي يشد انتباهنا بقوة تامة هو أن المؤلف ولد في عصر عمت فيه الخرافات والبدعات والاقتراحات والخلافات في كافة العالم ولا سيما في شبه القارة الهندية، ولما شاهد العلامة هذه الأحداث الفجيعة حينذاك، ورأى أن المسلمين الهنود مازالوا ولم يزالوا غافلين عن واجباتهم وفرائضهم نحو الأمة المسلمة في الهند، فكلهم مشغولون في المناظرة، والمشاجرة بين القديم والجديد، والعقائد الديوبندية والبريلوية والحنفية والشافعية والحنبلية والمحمدية وغيرها من العقائدة الأخرى الفاسدة المرجة على وجه الأرض، فقصد العلامة الندوي العزم على أن يكتب كتابا جامعا شاملا حول الشعراء والعلماء والكتاب والمؤلفين والدارسين والباحثين والمثقفين والصحفيين والفقهاء والمحدثين والمبلغين والمفسرين الهنديين الذين ضحوا أنفسهم في سبيل الله وحده، وقدموا مساهمات ملموسة لا يستهان بقيمتها في نشر اللغة العربية وإثراء العلوم العربية وآدابها في الهند وخارجها. والعالم الإسلامي العربي مدين لهؤلاء الأبطال الهنود بالشكر لخدماتهم العلمية والأدبية والفكرية الخالدة ومآثرهم الرائعة الأنيقة واعترف بفضلهم وتمكنهم على العلوم والفنون.
وكان من الأسباب أيضا أن علماء العرب الذين ألفوا الكتب في الطبقات وتراجم الرجال مدى القرون الطويلة أنهم لم يذكروا من أعيان الهند، وعلمائها، ونوابغ رجالها الذين قدموا مساهمات جليلة في المعارف الإسلامية والعلوم النبوية والأحكام الشرعية إلا النادر منهم. ولم تنل الهند من عناية المؤرخين العرب ما كانت تستحق، ولم تنل كتبهم ومؤلفاتهم المكانة التي كانت تليق بها، وبمجدها، وكثرة رجالها، ووفرة تصانيفها، وما حدث ذلك إلا لبعد الديار وحيلولة البحار وانقطاع الأخبار، وفوق ذلك كله كانت كتب الأخبار وتراجم الرجال في اللغة الفارسية والأردية، واللغتين اللتين لا يعرفهما العرب، وذلك هو السبب الذي حال بينهم وبين أن يرجموا العباقرة والفحول من أبناء الهند وأن يوفروا حقهم من التقدير والإعجاب بأعمالهم العلمية الجسام ولم يذكروا من علماء الهند إلا قليلا نادرا[13].
لعل كانت تلك الأسباب التي دفعته إلى وضع كتاب بالعربية جامع لما تفرق في الكتب المؤلفة في ألف سنة من تاريخ الإسلام في الهند مع تهديب وتلخيص وتحقيق، وقد توفرت في المؤلف صفات تؤهله للقيام بهذا التأليف الجليل نلخصها فيما يلي:
- أنه نشأ على الاطلاع والجمع، وقد كان ذلك ذوقا توارثه من أبيه.
- أنه كان مشاركا في جميع العلوم السائدة في عصر المترجمين والسلف من علماء الهند، كانت له بصيرة نافذة في العلوم والعقلية والنقلية.
- أنه كان ذا مواهب في التاريخ، قد رزقه الله صفاء الحس وثقوب النظر وحسن الملاحظة ودقتها.
- الإتقان والإحكام فلم يستعجل في كتابه ولم يبادر بنشره، بل مكث حياته ينقح ما كتب ويهذبه ويراجع المصادر ويستأنف النظر.
- أنه يمتاز إلى سعة نظره، بسعة قلبه وسلامة صدره لا يتحيز إلى فئة في التاريخ، ولا يتعصب على جماعة بل يؤدي الأمانات إلى أهلها.
- القلم السيال والبيان السلسال في تقييد الحوادث وتراجم الرجال وذلك مما عري عنه كثير من تواريخ علماء العجم.
- أنه يشتمل على فوائد غالية في تاريخ الهند العلمي والسياسي والديني، ونكت لطيفة لا يظفر بها القاريء في مكتبة حافلة فضلا عن كتاب مفرد قد عثر عليها المؤلف في رحلته العلمية الطويلة بين الصحب والدفاتر والمذكرات والقماطر أو تلقاها في أقواه المعلمين الكبار والشيوخ الثقات، فنشرها على صفحات الكتاب.
- حسن التلخيص والإشعار بمكانة المترجم في جمل قوية وبراعة الاستهلال، بحيث إذا لم يقرأ القاريء غيرها: اطلع على مكانته وخصائصه[14].
فبناء على هذه الصفات والمميزات قام العلامة عبد الحي الحسني الندوي بصرف أوقاته الثمينة في دراسة هذا الموضوع الواسع وصرف له نفسه، حتى أصبح بعد ثلاثين عاما من مجهوداته المكثفة على وضع كتاب ضخم في سبعة أجزاء، واستفاد خلال إعداده من ثلاث مأة كتب في اللغة العربية والفارسية والأردية وما إلى ذلك من المخطوطات والمطبوعات المختلفة.
ثالثًا: سبب إختيار اللغة العربية لتأليف هذا الكتاب
فكر العلامة في البداية أن يكتب كتابه القيم الموسوم بـ” نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” باللغة الفارسية لأن هذه اللغة كانت لغة الديوان ولغة التدوين والكتابة والتاريخ مدى طوال الحكم الإسلامي في الهند. وللعلامة كان أسهل أن يكتب كتابه القيم في اللغة الفارسية التي يحذقها ويجيدها، وكان يستطيع أن يكتب فيها بكل سهولة، وللعلامة كان من المستحسن أن يكتب كتابه القيم النادر باللغة الأردية (لغته الأم) التي كان ينطقها أكثر الناس ويفهمونها في الهند على نطاق واسع بالمقارنة إلى اللغات الأخرى. ولكنه رأى أن علماء الهند الذين ألفوا وصنفوا كتبا عديدة في مجال التاريخ، والطبقات، والتراجم باللغة الأردية بين حجم صغير وكبير فيها النقائص الآتية:
الأول: أنهم سلكوا مسلك أهل إيران، وأسلوبهم مملوء بالسجع والتصنع في العبارة، تتجلى في أساليبهم الخشونة والغرابة والتعقيد والإغراب، وقد استعملوا التشبيهات البعيدة والاستعارات الغريبة حتى غاب الروعة والرونق من كلامهم.
الثاني: إن أكثر المؤلفين بهذه اللغة كانوا مشغوفين بالغرائب والكرامات وبما لا يهم من معرفة الرجال وشخصياتهم وعبقرياتهم كما في طبقات ناصري.
الثالث: إن الذين قد ألفوا الكتب في هذا الموضوع لم يستقصوا أحوال الرجال وآثارهم وأنهم شحنوا كتبهم بالأخبار الزائفة، ولم يلتفتوا إلى بيان السنين، وسودوا الصحف في المدح والمبالغة، ومن نماذجه سير الأقطاب وغيره من الكتب.
الرابع: قد تخصص عدد من المؤلفين الكبار في تأليف طبقات الرجال والتراجم وسير الرجال وأخبار البلاد والملوك لزمن خاص ومكان خاص[15].
وكذلك كان من المستحسن للعلامة الندوي أن يكتب كتابه القيم باللغة الإنجليزية التي كانت رائجة كثيرة في تلك الحقبة من الزمن على نطاق أوسع، وكانت ذائعة الصيت في أقطار العالم، وكانت الحكومة الإنجليزية تهتم باللغة الإنجليزية ونشرها في الهند كل الاهتمام، وكانت تنفق أموالا طائلة على إثرائها وتطورها بين سائر الناس على صعيد عالمي، على الرغم من ذلك أنه لم يختر هذه اللغة بسببين، السبب الأول: هو أن أكثر المتحمسين للغة الإنجليزية والمغرمين بها كانوا موجودين في الهند، وكانوا يكتبون بها لحصول التقرب إلى الحكومة الإنجليزية والسبب الثاني: هو أن الشيخ لم يكن متضلعا اللغة الإنجليزية[16].
رابعًا: من أهم القضايا التي تناولها الكتاب
مما لا شك فيه أن المؤرخ الشهير والعلامة الكبير عبد الحي الحسني الندوي جمع في الكتاب ” نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” أخبار جملة من رجال القرون الإسلامية ما بين العلما، والكتاب، والمحدثين، والمفسرين، ورواة الحديث، والفقهاء، والأولياء، والقضاة، والأدباء، والشعراء، والنحاة، واللغويين، والأطباء، والفلاسفة، والحكماء، والملوك، والأمراء، والوزراء، والقواد، والزعماء السياسيين، والولاة حتى قام بترجمة جميع النساء العالمات والفاضلات المحدثاث والمفسرات الملسمات الهنديات وغيرها. ولم يترك ناحية إلا تناولها واستطرد إلى ذكر بعض شخصيات تنتمي إلى فرقة ضالة في بلادنا الهند. وفي الحقيقة أن الكتاب ليس في موضوع العقيدة والسلوك وعلم الكلام بل أنه في موضوع السير والتراجم والأنساب والأنقاب حيث شرح صاحب الكتاب في هذه السير والتراجم شذورها في الاعتقاد والعقيدة وانحرافها عن الحق حتى لا يكون انحرافها في مسلك المترجمين.
الجزء الأول: في ” أعيان الهند من القرن الأول إلى القرن السابع”.
يتحدث هذا الجزء الأول بقدر من التفصيل اليسير عن تاريخ العديد من الشعراء، والعلماء، والأدباء، والمؤلفين، والمؤرخين، والدارسين، والباحثين، والمثقفين، والمحدثين، والمفسرين، والقضاة، والفقهاء، والمشائخ، والأولياء، والصوفية، والأطباء، والفلاسفة، والحكماء، والملوك، والأمراء، والوزراء، والقواد، الزعماء السياسيين المرموقين، والولاة بما فيهم الرجال الذين جاءوا إلى الهند في القرن الإسلامي هاربين وخائفين من الحجاج بن يوسف الثقفي وكلها في حروف الأبجدية.
الجزء الثاني: في ” أعيان الهند في القرن الثامن الهجري”.
يلقي الجزء الثاني من هذا الكتاب الضوء على تاريخ الشعراء، والعلماء، والكتاب، والمؤلفين، والمؤرخين، والأدباء، والمحدثين، والمفسرين، والقضاة، والفقهاء، والمشائخ، والأولياء، والصوفية، والأطباء، والفلاسفة، والحكماء، والملوك، والأمراء، والوزراء، والقواد، الزعماء، والولاة الذين ولدوا في الهند وماتوا فيها أو خارجها. وقاموا بدور هام في نشر اللغة العربية وآدابها وإثراء الدراسات الإسلامية، وكلها بالحروف الأبجدية.
الجزء الثالث: في ” تراجم علماء الهند في القرن التاسع للهجرة”.
يذكر المؤلف في هذا الجزء عن أعيان الشعراء، والعلماء، والأدباء، والمحدثين، والمفسرين، والقضاة، والفقهاء، والمشائخ، والأولياء، والصوفياء، والسلاطين، والأطباء، والفلاسفة، والحكماء، والملوك، والأمراء، والوزراء، والقواد، الزعماء السياسيين والرجال النابغين المرموقين الذين خدموا اللغة العربية في القرن التاسع من الهجرة النبوية الشريفة بالحروف الأبجدية.
الجزء الرابع: في ” أعيان القرن العاشر للهجرة”.
يسلط العلامة عبد الحي الحسني الندوي على أهم الشعراء، والعلماء، والأدباء، والمحدثين، والمفسرين، والقضاة، والفقهاء، والمشائخ، والأولياء، والصوفية، والأطباء، والفلاسفة، والحكماء، والملوك، والأمراء، والوزراء، والقواد، والزعماء الذين فتحوا عيونهم في القرن العاشر للهجرة، وماتوا في الهند أو الخارج، وخدموا اللغة العربية وآدابها بتأليفاتهم القيمة وتصنيفاتهم النادرة.
الجزء الخامس: في ” أعيان القرن الحادي عشر للهجرة”.
يتحدث هذا الجزء الخامس من الكتاب بكل تفصيل حول الشعراء، والكتاب، والعلماء، والأدباء، والمحدثين، والمفسرين، والقضاة، والفقهاء، والمشائخ، والأولياء، والصوفية، والأطباء، والفلاسفة، والحكماء، والملوك، والأمراء، والوزراء، والقواد، والزعماء، والولاة الذين كانوا يعدون من أهم القلائل المفكرين الذين لهم يد طولى في الكتابة والتأليف والتصنيف والترجمة من العربية والفارسية وبالعكس.
الجزء السادس: في ” أعيان القرن الثاني عشر للهجرة”.
يسلط المؤرخ في هذا الجزء السادس من الكتاب على أعيان الهنود في مجال الشعر، والنثر، والعلم، والأدب، والحديث، وشرحه، والتفسير، وتراجم التفسير، والطب، والحكمة، والتصوف، والتاريخ، والفلسفة، والمنطق، وعلوم العقلية والنقلية، وما إلى ذلك.
الجزء السابع: في ” الطبقة الثالثة عشر في أعيان القرن الثالث عشر للهجرة”.
يلقي المؤلف في هذا الجزء نظرة عميقة على مختلف جوانب حياة الشعراء، والعلماء، والأدباء، والمحدثين، والمفسرين، والقضاة، والفقهاء، والمشائخ، والأولياء، والصوفية، والأطباء، والفلاسفة، والحكماء، والملوك، والأمراء، والوزراء، والقواد، والزعماء، والولاة، الذين ألفوا وصنفوا عدة كتب في حقول مختلفة من البحث والمناظرة والمشاجرة والعلم والأدب والعلوم الطبيعية والإلهية وغيرها من العلوم والفنون الأخرى.
الجزء الثامن: في ” أعيان القرن الرابع عشر للهجرة”.
إن هذا الجزء هو جزء أخير من الكتاب ” نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر”، يتحدث فيه الكاتب حول أهم الشعراء المرموقين، والعلماء النابغين، والأدباء الفائقين، والمحدثين الشهيرين، والمفسرين الماهرين، والقضاة العادلين، والفقهاء البارزين، والمشائخ العظام، والأولياء الكرام، والصوفية، والأطباء، الذين صنفوا العديد من الكتب حول موضوعات مختلفة من الشعر، والأدب، والفقه، وأصول الفقه، والحديث، وشرحه، وتراجم التفسير وغيرها من العلوم والفنون الأخرى.
خامسًا: أسلوب الكتاب من حيث الأدب والفن
يعد الكتاب ” نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” من أحسن الكتب التي ألفت في القرن العشرين في مجال السير والتراجم. وأما أسلوبه الأدبي فهو أسلوب رائع جذاب شيق سهل وممتع للغاية، لا يمله القاريء ولا يستثقله، وألفاظه لطيفة ظريفة، وكلماته مختارة بديعة، وتراكيبه متينة أنيقة، وعبارته فصيحة واضحة رضية، هنا لا بد لنا أن نقرأ هذه المقتبسة حيث ذكر العلامة الندوي عن الشيخ الفاضل أبو الكلام أحمد بن خير الدين الكلكتوي، المشهور بأبي الكلام آزاد مشيرا إلى دوره السياسي الفعال الذي قام به في ذلك الوقت عندما وقعت حادثة حركة الخلافة في التركيا، يقول ” كانت حركة الخلافة وفكرتها، مجاراة لعواطف المسلمين، وتأييدا لقضية عادلة، وأيد أبو الكلام مبدأ ترك موالاة الحكومة الإنجليزية، ومقاطعة البضائع الأجنبية، ومبدأ لا عنف ولا اعتداء المادي التي دعا إليها غاندي فأقام عليها الدلائل الشرعية، وجال فيها وصال، فكان لها الرواج والقبول في الأوساط الإسلامية، واضطربت لها الحكومة الإنجليزية، وقام بجولات واسعة مع غاندي وزعماء الخلافة في أنحاء الهند، وألقى الخطب الرنانة في المحافل الكبيرة”[17].
عندما قمنا بالنظر والتحليل لهذه المقتبسة المذكورة أعلاها فيشد انتباهنا بقوة تامة هو أن عبارته مملوءة بحسن التعبير لغة ومعنى، كما يجب علينا أن نأخذ مقتبسا بديعا آخر حيث يذكر لنا المؤلف لمولانا أشرف على التهانوي ومكانته الرفيعة لدى العلماء والأدباء في الهند يقول ” قد كان من كبار العلماء الربانيين الذين نفع الله بمواعظهم ومؤلفاتهم، وقد بلغ عدد مجالس وعظه التي دونت في الرسائل وجمعت في المجاميع إلى أربع مئة مجلس، وقد كان نفع كتبه ومجالس وعظه عظيما في إصلاح العقيدة والعمل، واستفاد منها ألوف من المسلمين، ورفض عدد لا يحصيه إلا الله العادات والتقاليد الجاهلية والرسوم والبدع التي دخلت في حياة المسلمين وفي بيوتهم وأفراحهم وأحزانهم بسبب الاختلاط الطويل بالكفار وأهل البدع والأهواء، وقد كان له فضل كبير في تيسير الطريقة وتقريبها، وتنقيح الغايات من الوسائل، واللباب من القشور والزوائد”[18].
سادسًا: آراء العلماء والأدباء المشهورين عن الكتاب
يعتبر الكتاب “نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” من أروع الكتب التي ألفت وكتبت حول موضوع السير والرجال في أوائل القرن العشرين في الهند، فإن هذا الكتاب هو الكتاب الذي ألفه العلامة عبد الحي في اللغة العربية بعد تجربة علمية في عدة مجالات من العلم والمعرفة والتاريخ والسير والرجال واللغة والأدب والنحو والصرف والبلاغة والعلوم العقلية والنقلية وما إلى ذلك من العلوم والفنون. كما أورد العالم الكبير والمفكر العظيم الأستاذ علي الطنطاوي في وصفه قائلا ” أما والد أبي الحسن فهو مؤرخ الهند حقيقة، ولقد استفدت من كتابه العظيم ” نزهة الخواطر” فوائد جليلة في تراجم عظماء الهند التي أودعتها كتابي “رجال من التاريخ” وفي رسالتي عن أحمد بن عرفان، العالم المجاهد الصالح المصلح الذي ذهب شهيدا في المعركة الإسلامية لإعلاء كلمة الله، أصدرت عنه رسالة في سلسلة لي عنوانها ” أعلام التاريخ “، ثم كتب عنه الأستاذ أبو الحسن كتابه الجامع بعد سنين، فكفى ووفى ولم يدع بعده مجالا لمقال”[19].
ويضيف قائلا وهو يثني على الكتاب ” وقد قرأت الكتابين اللذين وصلا إلىّ مما ألفه والد السيد أبي الحسن، كتاب “نزهة الخواطر” الذي جمع فيه من سير أعلام الهند ومن نشأ فيها مالم يجمعه كتاب غيره، فهو يُغني في هذا الباب عن كل كتاب ولا يُغني عنه كتاب، وكتابه الآخر الذي نشره المجمع العلمي في دمشق وسمَّاه (أي المجمع) “ثقافة الهند”، والذي أودعه المؤلف ما لا يستطيع مثلي أن يجده في خزانة كاملة يكبُّ عليها يطالع ما فيها، لقد تعلمت من هذين الكتابين ومن زيارة الهند منذ ثلاثين سنة (أي سنة 1954م) أننا بجهلنا تاريخ الإسلام في الهند إنما نجهل ربع تاريخنا”[20].
ومما لا شك فيه أن هذا الكتاب يعتبر من الموسوعات التاريخية الأدبية الإسلامية الكبيرة التي تحتوي على تراجم العلماء، والكتاب، والشعراء، والفقهاء، والسلاطين، والأمراء، والمشائخ، والصوفياء، والمحدثين، والمفسرين، والنحويين، والصرفيين، والبلاغيين الهنود الذين قاموا بأعمال جليلة في كل ميدان من ميادين الحياة الإنسانية، والكتاب يمتاز بأسلوبه الأخاذ بين جميع كتب التاريخ والسير والتراجم التي ألفت وصنفت في الهند وخارجها بغزارة مادته وعذوبته وطلاوته قد أشاد العلامة محمد تقي الدين الهلالي الحسيني المغربي رحمه الله بفضل العلامة عبد الحي ونوّه بنصاعة بيانه إذ يقول في رسالة موجهة إلى تلميذه الأستاذ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي ” أما ما شهدت به وأعجبت به من علم والدكم وفصاحته وحسن تصنيفه وبلاغته وجمال أسلوبه، فقد جاء عفواً ولم أقصد به المدح والثناء وسرني مجيئه في الوقت المناسب…”[21].
سابعًا: ملاحظات نقدية على الكتاب
لا يختلف فيه اثنان أن الكتاب ” نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” يعد من أفضل الكتب التي ألفت في أوائل القرن العشرين في مجال السير والتراجم والأنقاب، حيث جمع العلامة الندوي كافة المعلومات والمعارف التي نالها من الكتب المتنوعة خلال القراءة والمطالعة من أعيان الهند، والتي حصل عليها من مصدر ومراجع أصلي حقيقي وبما سمع من العلماء والكتاب الراسخين والمتضلعين في العلوم والفنون في ذلك الحين. عندما نطالع هذا الكتاب الذي صنفه العلامة الندوي نجد أن المصنف ذكر جميع العلماء والكتاب والفقهاء والحكماء والمحدثين والمفسرين الذين ولدوا وماتوا في القرون المطولة الممتدة من القرن الإسلامي الأول إلى القرن السابع في جزء واحد فقط، ولعله يحدث بسبب قلة المراجع والمصادر الموثوق بها، وتحدث بقدر من التفصيل اليسير عن أعيان الهند الذين ولدوا وماتوا في القرن الثامن في الجزء الثاني فقط، وكذلك فعل مع بقية الأجزاء من هذا الكتاب النادر. ومن الملاحظ أن المصنف لم يذكر تراجم الصحابة الكرام والتابعين الأبرار الأتقياء الذين جاءوا إلى الهند في القرون الماضية واستوطنوا في أماكن مختلفة من جنوب الهند، وعلى الرغم من ذلك أنه ذكر عددا هائلا من العلماء الأفذاذ والكتاب الممتازين والمؤرخين النابغين والفقهاء والمحدثين والمفسرين والمفكرين القلائل الذين قدموا إلى بلادنا الهند في القرون الماضية الإسلامية واستوطنوا في الهند إلى الأبد، كما أنه استخدم في هذا الكتاب اللغة الفارسية التي يصعب على القاريء أن يفهمها بسهولة ولا سيما لمن لا يعرفون اللغة الفارسية والأردية على حد سواء يقول “نوشتم دواهائ هندوستان، كه حاجت بفرهنغ نبود ازان، زهجرت تواريخ سال اين كتاب، هزارست وعشرين وجار از حساب”[22].
وكذلك نرى في هذا الكتاب أنه يكتب أحيانا عن شخصية وأعمالها البارزة في العلم والأدب في صفحة وصفحتين ولكن بالعكس إلى ذلك أنه يكتب أحيانا عن شخصية في جملة أو جملتين فقط مثلا يكتب عن الشيخ أبي الحسن الكشميري قائلا ” الشيخ الفاضل الكبير: أبو الحسن الحنفي الكشميري السندي، أحد العلماء المشهورين في المعقول والمنقول، كان يدرس ويفيد في أيام شاهجان بن جهانغير الدهلوي، كما في “تذكرة علماء الهند”[23]. وكذلك نراه أحيانا أنه لم يتوسع في أخذ المواد والمعلومات عن مقدمات الكتب التي ألفها المترجم نفسه، وخير مثال على ذلك ترجمة الشيخ العالم آدم المدراسي الذي قام بترجمة “الزواجر” الذي تمت طباعته باللغة الهندية، وكذلك توجد نبذة من حياته في مقدمة كتابه ولكن العلامة لم يصل حصوله إلى ذلك ولم يستفد منها.
يوجد في كل عصر من العصور بعض العلماء والكتاب الهندوس الذين درسوا اللغة العربية والفارسية والأردية وألفوا وصنفوا كتبا عديدة حول موضوعات شتى في اللغة الفارسية واللغة الأردية، ولعلهم موجودون في ذلك العهد أيضا ولكنه لم يذكر في هذا الكتاب أسماءهم وأحوالهم وفضائلهم وميزاتهم العلمية والأدبية ومساهماتهم الجليلة التي قاموا بها في مجالات عدة. وكذلك نرى في هذا الكتاب أن العلامة الندوي أبعد نفسه عن الحديث عن تراجم علماء الهند الجنوبية ولا سيما تراجم علماء كيرالا وعلماء كرناتكا وخدماتهم الجليلة في مجال من العلم والأدب، وغالب الظن أنه لم يحصل على معلومات كافية عنهم مثلا أنه لم يذكر في كتابه العلامة زين الدين المليباري صاحب الكتاب ” تحفة المجاهدين” ومحمد بن عبد العزيز الكاليكوتي صاحب الكتاب “فتح المبين” وغيرهما الكثيرون. وكذلك نجد في هذا الكتاب تكرارا كثيرا في بعض الألقاب والخصائص والميزات التي يتصف بها العلماء والكتاب والفقهاء والأدباء والشعراء، على الرغم من هذا لا يمكننا إنكار أهمية الكتاب وقيمته الغالية ودرجته الرفيعة المرموقة وشهرته الفائقة لدى الأساط العلمية والفكرية والأدبية في العالم العربي على الخصوص وفي شبه القارة الهندية على العموم، بل أن أهميته ثابتة على مكانه.
ثامنًا: خلاصة المقال
يعد هذا الكتاب القيم الموسوم بـ” نزهة الخواطر وبهجة المسامع النواظر” من أهم انتاجات المؤرخ الهندي العلامة السيد عبد الحي الحسني الندوي الذي صنفه بعد تجربة علمية أدبية وخبرات واسعة في عدة حقول من العلم، والأدب، والشعر، والترجمة، والتاريخ، والسير، والرجال، والعلوم، والفنون العقلية والنظرية وما إلى ذلك من العلوم والفنون الأخرى في تراجم علماء الهند بدون أي تفريق مذاهبهم، وعقائدهم، وفرقهم، وسياساتهم في أسلوب رائع سلسال من غير تكلف وإجهاد نفس ومن غير تعصب وانحياز. يعتبر هذا الكتاب من أهم كتبه النافعة المؤثرة في قلوب القراء، والدارسين، الباحثين ممن يريدون الإلمام بتاريخ تراجم العلماء، والكتاب، والشعراء، والفقهاء، والأولياء، والصوفياء، والمحدثين، والمفسرين في شبه القارة الهندية من القرن الإسلامي الأول حتى وفاته. وفي الواقع أن الكتاب بمثابة موسوعة علمية ثقافية تاريخية إسلامية كبيرة تحتوي على تراجم العلماء والأدباء والسلاطين الأمراء الهنود الذين ألفوا وصنفوا وكتبوا وشرحوا وتركوا مآثر علمية أدبية خالدة في مجال العلم والأدب والمعرفة والثقافة. يمتاز الكتاب بالفصاحة والبلاغة مما يرغب القاريء في قراءته ومطالعته. وعندما يطالعه القاريء فلم يتركه حتى يكمل قراءته ومطالعته بأسره، وبعد ما قراءة هذا الكتاب يشعر تلذذا في نفسه ومتعة في نفسه. فالكتاب في المعنى الحقيقي مرجع كبير في موضوعه وتحفة تاريخية غالية ثمينة للباحثين والمحققين القادمين والمشتغلين بتاريخ الهند الإسلامي وثروة ذات أهمية في مجال السير والتراجم في الأدب العربي. آمل أن هذا المقال المتواضع سينال القبول والإعجاب بين الأوساط العلمية والفكرية والأدبية الأكاديمية بإذن الله تعالى. وسيكون إضافة في باب التراجم والسير في الأدب العربي في الهند.
* الباحث في الدكتوراه، مركز الدراسات العربية والإفريقة، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي
الهوامش
[1] الغوري، الشيخ عبد الماجد، العلامة أبو الحسن الندوي رائد الأدب الإسلامي (دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع دمشق بيروط الطبعة الأولى 2009م) ص:10
[2] الندوي، الشيخ أبو الحسن علي الحسني، سيرت سيد أحمد شهيد، (بالأردية) (المجمع الإسلامي العلمي- الهند طبعة عام2011م) ج1 ص:109-110
[3] الندوي، العلامة أبو الحسن علي الحسني، حياة عبد الحي (بالأردية) (الناشر: مجمع سيد أحمد الشهيد، الطبعة الأولى 2004م.) ص:53
[4] الندوي، عبد الحي الحسني، نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر مقالة باسم (ترجمة مؤلف هذا الكتاب) بقلم ابن العلامة الكبير الدكتور عبد العلي الحسني (دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان الطبعة الأولى1999م) ج1 ص: 23
[5] الغوري، الشيخ عبد الماجد، أبوالحسن الندوي الإمام المفكر الداعية الأديب (دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع دمشق بيروت الطبعة الثالثة 2005م) ص:141
[6] المرجع نفسه، ص:140
[7] الندوي، العلامة أبو الحسن علي، في مسيرة الحياة، (دار القلم دمشق الطبعة الأولى1987م) ج1
ص:62
[8] المرجع نفسه، ص:56-57
[9] الندوي، عبد الحي الحسني، نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر مقالة باسم (ترجمة مؤلف هذا الكتاب) بقلم ابن العلامة الكبير الدكتور عبد العلي الحسني (دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان الطبعة الأولى1999م) ج1 ص: 24
[10] الندوي، العلامة عبد الحي الحسني، مقدمة الكتاب الثقافة الإسلامية في الهند، (مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق الطبعة الثانية المنقحة 1983م) ص: 07
[11] الندوي، عبد الحي الحسني، نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر مقالة باسم (ترجمة مؤلف هذا الكتاب) بقلم ابن العلامة الكبير الدكتور عبد العلي الحسني (دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان الطبعة الأولى1999م) ج1 ص: 22
[12] المرجع نفسه، ص: 22
[13] الحسيني، الدكتور السيد قدرة الله، العلامة السيد عبد الحي الحسني مؤرخ الهند الأكبر ومن كبار مؤلفي القرن الرابع عشر الهجري عصره – حياته – مؤلفاته، (دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة، جده، الطبعة الأولى 1983م) ص: 210
[14] الندوي، عبد الحي الحسني، نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر مقالة باسم (ترجمة مؤلف هذا الكتاب) بقلم ابن العلامة الكبير الدكتور عبد العلي الحسني (دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان الطبعة الأولى1999م) ج1 ص: 16/17
[15] الحسيني، الدكتور السيد قدرة الله، العلامة السيد عبد الحي الحسني مؤرخ الهند الأكبر ومن كبار مؤلفي القرن الرابع عشر الهجري عصره – حياته – مؤلفاته، (دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة، جده، الطبعة الأولى 1983م) ص: 206
[16] المرجع نفسه، ص: 209
[17] الندوي، عبد الحي الحسني، نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر مقالة باسم (ترجمة مؤلف هذا الكتاب) بقلم ابن العلامة الكبير الدكتور عبد العلي الحسني (دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان الطبعة الأولى1999م) ج8 ص: 1170
[18] المرجع نفسه، ص: 1188
[19] الطنطاوي، علي، : ذكريات، (دائرة المنارة للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية الطبعة الرابعة 2006م) ج8 ص: 84
[20] المرجع نفسه، ص: 86
[21] الندوي، عبد الحي الحسني، نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر، مقالة باسم (هذا الكتاب ومؤلفه العلامة عبد الحي الحسني الندوي في نظر الأستاذين الجليلين: على الطنطاوي وتقي الدين الهلالي، (دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان الطبعة الأولى1999م) ج1 ص: 06
[22] الندوي، عبد الحي الحسني، نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر (دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان الطبعة الأولى1999م) ج5 ص: 466
[23] المرجع نفسه، ص: 468
المصادر والمراجع:
- الغوري، السيد عبد الماجد، : العلامة أبو الحسن الندوي رائد الأدب الإسلامي، دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع دمشق بيروط الطبعة الأولى 2009م.
- الندوي، العلامة أبو الحسن علي، : سيرت سيد أحمد شهيد الجزء الأول، المجمع الإسلامي العلمي- الهند طبعة عام2011م.
- الندوي، العلامة أبو الحسن علي، : حياة عبد الحي (بالأردية) الناشر: مجمع سيد أحمد الشهيد، الطبعة الأولى 2004م.
- الندوي، العلامة عبد الحي الحسني، : نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر، الجزء الثامن، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان الطبعة الأولى1999م.
- الغوري، السيد عبد الماجد، : أبو الحسن الندوي الإمام المفكر الداعية المربي الأديب، دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع دمشق بيروت الطبعة الثالثة 2005م.
- الندوي، العلامة أبو الحسن علي، : في مسيرة الحياة، في ثلاث مجلدات دار القلم دمشق الطبعة الأولى1987م.
- الندوي، العلامة عبد الحي الحسني، : الثقافة الإسلامية في الهند، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق الطبعة الثانية المنقحة 1983م.
- الحسيني، الدكتور السيد قدرة الله، : العلامة السيد عبد الحي الحسني مؤرخ الهند الأكبر ومن كبار مؤلفي القرن الرابع عشر الهجري عصره – حياته – مؤلفاته، دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة، جده، الطبعة الأولى 1983م.
- الطنطاوي، علي، : ذكريات، الجزء الثامن، دائرة المنارة للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية الطبعة الرابعة 2006م.