شمس الإسلام
الباحث بقسم اللغة العربية و آدابها بجامعة لكناؤ
بدأت الحكومة المسلمة في شبه القارة الهندية تضعف قوائمها و يتقلص ظلها منذ أواخر القرن السابع عشر من الميلاد حتي انحصرت الحكومة في القلعة الحمراء و صار الأمر ينتقل إلى شركة الهند الشرقية. و قد استتب لها الأمر في معظم أقطار الهند في بدء القرن التاسع عشر من الميلاد. و في سنة 1857م أخذت الحكومة البريطانية زمام الهند بيدها رأسا و انتهي حكم شركة الهند الشرقية، فقامت الثورة أو حرب تحرير البلاد من الإنجليز علي قدم و ساق في سنة 1857م، لكن أخفقت هذه الثورة (ثورة عام1857) فجعل الجيش الإنجليزي يصب علي سكان الهند صنوف الشدائد من القتل و التشريد و التقطيع و التعذيب و الاجلاء و سفك الدماء. “فكانت المجزرة شعبية وطنية عامة، و لكن كان المسلمون بصفة خاصة هدف هذه الإهانات و الفتك الفظيع لأن كثيرا من الإنجليز المسؤلين كانوا يعتقدون أنها ثورة إسلامية، و أن المسلمين هم مصدرة الثورة و أصحاب فكر تها و هم الذين تولوا كبرها”.[1]
ودخل الإنجليز في الهند كمستعمرين يحملون معهم أيضاً لغتهم و ثقافتهم التي تحمل بين طياتها قسطا كبيراً من الدراسات الغربية و شتي أنواع الفنون و المعارف “و يعد هستيتجر أول شخصية غربية إنجليزية كان لها الأثر البالغ في الاهتمام بالتربية و التعليم و أساليب تطورها و رقيها”[2] و كان هذا لنشر الدين المسيحي و تأسيس حكومة الإنجليز في الهند، “وعزم هستينجر علي تشجيع الدراسات العربية و تعليم الفقه الإسلامي بين المسلمين ليتمكنوا من الحصول علي الوظائف في المكاتب الرسمية و الإدارات المسؤلية و محاكم القضاء[3]“.
و قد كانت هذه هي السياسة المتبعة في الحكومة الإنجليزية القائمة، و هي القاعدة التي يسير عليها مؤظفوها الكبار و رؤساء المصالح، إقصاء المسلمين عن المراكز الكبيرة في الحكم و الإدارة و سدّ أبواب الرزق الشريف عليهم و مصادرة الأوقاف و الأملاك التي تدر علي مدارسهم و مؤسساتهم، و تأسيس مدارس و نظام تعليمي لا ينشط المسلمون للإفادة منه.
فقام العلماء الغيورون علي الإسلام و المسلمين الحياري علي الأوضاع المستجدة إثر استقلال الهند و علي رأسهم شيخ الاسلام حسين أحمد المدني بجولات تفقديه لولايات الهند المختلفة و أقاموا اتصالات شخصية بسكان مناطق المنعزلة النائية و بحثوا مشاكلهم التعليمية و قاموا بتأسيس منظمات و جمعيات و قام علماء الهند بتأسيس مدارس إسلامية أهلية و مدارس عصرية لتثقيف الطلاب المسلمين بالثقافة الإسلامية و اللغة العربية .
و في الأربعينات من القرن التاسع عشر تبين وجود مدارس غير رسمية للمسلمين في ولاية بنغال أنشأها الأفراد بأنفسهم و كانوا يديرونها أيضاً، و هم الذين تعهدوها بالتربية و التعليم و احترفوا التربية كمهنة رئيسية في حياتهم، و الذين كانوا يتبعونهم في مجال الدراسة و التربية، اختاروا هذه الوظيفة طواعية منهم، و كانت تستخدم اللغة العربية في تدريس العلوم الدينية و الفقه الإسلامي.
وكان يدرس المسلمون و الهندوس معاً اللغة الفارسية، لأن دراسة اللغة الفارسية كانت تعتبر إنجازاً شهيا أساسياً لكل مثقف، و كان يجب علي كل فرد من كان يريد أن يعمل في مكاتب محكمة القضاء أن يتعلم اللغة الفارسية و يتفنها، و كانت دراسة اللغة الفارسية أحسن من دراسة اللغة البنغالية و الهندية، لأن اللغة الفارسية كانت متميزة في مستوي التعليم و تطور المنهج و اعداده، و كان يتحدث عامة الناس باللغة الدارجة الهندية (الأردية) و لكن الأشراف و الأمراء كانوا يعلمون أولادهم اللغة الفصحي البليغة (الأردية)، و قد كانت وسيلة شفوية هامة لشرح اللغة الفارسية و اللغة العربية، و هي تتضمن كلمات اللغة العربية و الفارسية و مصطلاحاتهما تماماً.
و في المدارس العربية الابتدائية كان يدرس الطلاب قراءة القرآن الكريم فقط، و بعد استكمال دراسة اللغة الفارسية كان الطلاب يدرسون اللغة العربية و آدابها، و كانت اللغة العربية تدرس كمفتاح لفتح الكنوز العلمية الإسلامية، ثم بشغف العلماء بها و حبهم، فاختاروها لغة للتعبيرعن هواجس قلبهم و عواطفهم النبيلة، و ولائهم و حبهم إلي الرسول العربي الكريم و كان اهتمام الدارسين باللغة العربية في جميع العصور السابقة يرجع أساسياً إلي حرصهم علي دراسة العلوم الإسلامية، و منبع هذه العلوم القرآن الكريم، ثم الحديث الشريف النبوي، كما يرجع إلي حب اللغة العربية، فكانت اللغة العربية بعد الإسلام مرجع الدارسين، و الهدف المنشود للباحثين.
ولذلك اتجهت عناية علماء الهند إلي دراسة اللغة العربية و إتقانها في جميع العصور .فكانت لعلماء الهند مؤلفات في الأدب العربي نثراً و نظما، و كان فيهم شعراء اللغة العربية كالقاضي عبد المقتدر الكندي صاحب القصيدة اللامية (م791هـ)، و الشيخ أحمد بن محمدى التهانيسري صاحب القصيدة الدالية (م820هـ)، و الشيخ غلام نقشبند صاحب القصيدة المدحية اللامية (م1826هـ)، و الشيخ غلام علي آزاد البلكرامي صاحب السيارة (م1200هـ)، و المفتي إسماعيل بن و جيه اللكهنوي (م1252هـ)، و الشيخ فضل حق الخيرآبادي (م1278هـ)، صاحب القوافي و التجنيس و صاحب الشعر الرصين الرقيق السيد أحمد حسن القنوجي (م1277هـ)، و الشيخ فيض الحسن السهارنبوري (م1304هـ)، و الشيخ ذو الفقار علي الديوبندي (م1322هـ).
وقد ألف الهنود كتباً في العلوم الإسلامية و اللغة العربية، ظلت تدرس في مراكز العلوم الإسلامية قروناً، فأنشأ المسلمون في الهند مكتبة عربية زاخرة و قد نبغ أدباء شرحوا كتب الأدب العربية نظماً و نشراً أغنت دارسي الأدب العربي عن كتب المؤلفين خارج الهند، أو كتب المتقدمين، و نالت عدة مؤلفاتهم القبول في البلاد العربية، و طبعت و نشرت، و أدخلت في المناهج الدراسية، و من الكتب التي نالت الإعتراف و التقدير في العالم العربي كتاب “حجة الله البالغة” للشيخ ولي الله الدهلوي، و كتب العلامة صديق حسن القنوجي (م1307هـ)، و الشيخ عبد الحئ اللكنوي الفرنجي محلي (م1344هـ)، التي طبعت و نشرت و شرحت في العالم العربي.
و لكن لسقوط دولة المغول في الهند ظهرت آثار الإنهيار في دراسة العلوم الشرقية و العربية في الهند، و كانت العلوم و الآداب في تلك المرحلة في حالة الانحلال و كان يقل عدد المحققين و كانت تحدد دائرة الدراسة و التربية وقد كانت دراسة العلوم الدينية شائعة، بالإضافة إلي العلوم المتفرعة من العلوم العقلية، “و الإنجليز عند مجيئهم نقموا علي استخدام اللغة السنسكرتية و اللغة العربية التي كانت تستخدم وسيلة للتربية، و اللغة المحلية في الهند لم تجد لها مكانة كوسيلة الدراسة منذ قرن من الزمان، و ذلك لأن اللغة الإنجليزية استخدمت في المدارس العصرية كوسيلة للتعليم، و للحصول علي هذا الهدف سعي الإنجليز سعيهم لكنهم فشلوا في هذا الجانب”[4]، لأن اللغة المحلية لها أهميتها في مجال التعليم، و اللغة الأجنبية لا تساعد في متابعة التربية بل أنها تعرقلها و أنها سبب للانهيار و الانحلال في التربية و لأن اللغة المحلية استخدامها كوسيلة للتعليم هو أمر فطري و طبيعي.
و المنهاج التي كانت شائعة للغة الأردية و الفارسية و العربية في الجامعات العصرية الأولية، “وكان للغة العربية منهج خاص للحصول علي شهادة درجة الشرف (في مستوي البكالوريوس) في جامعة كلكته سنة 1857[5]“، و كان ينعقد لها الامتحان، و إذا رجعنا إلي الحديث عن جامعة مدراس، نجد فيها أن المنهج للماجستر باللغة العربية في جامعة مدراس لم يكن مختلفاً عن المنهج الدراسي لدرجة الشرف في جامعة كلكته، و “في جامعة ممبائ كان أول امتحان يعقد للدراسة العربية علي مستوي الثانية 1861م[6]“.
و في 1865 وضع برنامج لإقامة “جامعة شرقية” في شمال الهند، “وفقا لهذا البرنامج أسست جامعة بنجاب سنة 1870م التي كانت تدرس اللغة العربية و اللغة الفارسية من المستوي المرحلة الثانوية و حتي مرحلة الماجستير[7]“، وما عدا هذا المنهج كانت لدراسة اللغة العربية مناهج خاصة و كانت هذه المناهج تدرج إلي ثلاث مستويات متفارقة، “و الكلية الشرقية في لاهور أسست بإشراف من جامعة بنجاب سنة 1870م[8]” ، كانت دراسات اللغة العربية و العلوم الشرقية شاملة في مناهج الكلية الشرقية، و مما يجدر بنا سرده بأن تلك المناهج لم تك جامدة بل كانت علي الدوام في تطور مستمر و خير دليل علي ذلك التغير الدائم في تلك المناهج.
و عند قيام الحكم البريطاني هدفت الحكومة للقضاء علي الثقافة الإسلامية فيقول الدكتور زبير أحمد الفاروقي: “بيد أن حالة العلوم العربية الإسلامية و علمائها في عصر حكم الإنكليز بدأت تتدهور بصفة منذرة بالسوء من جراء الخطة التعليمية التي وضعها المستعمرون للقضاء علي روح الدين الإسلامي الحنيف انطلاقاً من شعورهم بأنها تجسد أكبر قوة صامدة تعترض سبيلهم لاستبعاد الشعب الهندي و استقلاله جسداً و روحاً[9]“، و ذلك عن الطريق إبادة تراثه الثقافي و العلمي و الأخلاقي .
و يري الأستاذ سيد محمد واضح رشيد الندوي: “أنه كان من مخططات الإنجليز القضاء علي العلماء المسلمين و مراكزهم لكي يتمكن الإنجليز من نشر الدين المسيحي و يعلنوا بدون منازعة تفوق دينهم علمياً و عقلياً، و قد أغلقت المدارس الموجودة في البلاد، و فتحت مدارس جديدة محلها في كلكتا و بنجاب و دهلي[10]“، و أدخلت فيها العلوم العربية بتخطيط دقيق للحكام الإنجليز الذين كانوا خاضعين لتأثير المسيحيين، و في عام 1850م فتحت أقسام الإنجليزية و الانجلوعربية و اللغات المحلية، ثم أنشأت مدارس عصرية أخري في بنجاب و دهلي و أدخلت العلوم العصرية محل العلوم الإسلامية و اتخذوا قرار بإيقاف تعليم العلوم الإسلامية و حلت اللغة الإنجليزية محل الفارسية.
هذه الأوضاع كانت تعتبر تحديات للإسلام و المسلمين، فقام العلماء باعتراضها و أسسوا المدارس الدينية لتدريس الإسلام و اللغة العربية، و علي رأسها دار العلوم دار العلوم بديوبند عام 1238ھ ، و بدأ العالم الجليل مولانا قاسم النانوتوي و زملاؤه و رفاقه يتأملون في النواحي الشتي للأوضاع الراهنة و اتفقوا علي إقامة سلسلة من المعاهد التعليمية الدينية في مختلف المناطق في آن واحد، و قرروا إنشاء أول معهد من هذا النوع في بلدة متواضعة بدلاً من مدينة كبيرة، ثم أنشأت المدارس علي غرار دار العلوم بديوبند في مختلف أنحاء الهند علي أساس المنهج النظامي.
و إن هذه المدارس الإسلامية قد لعبت دورا فعالاً فى تثقيف المسلمين و المحافظة على الدين و فى نشر الثقافة الإسلامية و المدارس العربية الإسلامية فى أرجاء الهند كلها حتى أصبحت كقلعة الإسلام ضد الاستعمار البريطانى، و هكذا حققت المدارس أهدافها النبيلة و لهذه الحركة فضل كبيىر فى إحياء السنن و إماتة البدع، وكان لها أثرها الواضح في نشر الدين و الدعوة الإسلامية و اللغة العربية.
و في ذلك العصرظهرت قيادة تعليمية أخرى تحت زعامة السير سيد أحمد خان، و كان السير سيد من زعماء الإصلاح في الهند، فسعي سعياً كثيراً في مجال الإصلاح الاجتماعي و التعليمي و السياسي، و اعتبر سيد أحمد أن لكل داء دواء و دواء لجميع الأمراض في مجتمع المسلم الهندي هو التربية و التعليم، و إنه اهتم بالتربية و التعليم بعد ثورة 1857م، و أنشأ “مدرسة العلوم” بعلي كره و أسست كلية محمد الإنجليز الشرقية في 24/مايو1875، و يكتب الدكتور محمد صلاح الدين العمري عن أهداف هذه الكلية “كان يهدف سيد أحمد من إنشاء هذه الكلية أن تكون جسراً بين القديم و الجديد، و بين الشرق و الغرب [11]“، فإنه في حين أدرك حاجة نقل المعرفة و العلوم الغربية إلي المسلمين، لأنه لم يكن غافلاً عن قيم العلوم الشرقية بل أحب من صميم قلبه أن يحتفظ بالتراث الشرقي في القديم و ينقل إلي الجيل الناشئ بل الأجيال القادمة.
و يقول الأستاذ سيد أبو الحسن علي الحسني الندوي: “و يقابل مدرسة ديوبند و شقيقتها و ما كان علي شاكلتها من المدارس الدينية القديمة و الجامعات المدنية العصرية التي أسسها المسلمون في عليكره و دهلي و حيدرآباد لتعليم أبناء المسلمين و شبابهم العلوم العصرية و اللغات الأجنبية و اعدادهم للوظائف الرسمية و المراكز الحكومية و للمساهمة في حياة البلاد و خيراتها و إدارتها[12]“، و أشهر هذه الجامعات و أقدمها و أعظمها تأثيراً في عقلية المسلمين و سياستهم جامعة “علي كره” الإسلامية التي تعد من أرقي الجامعات في الهند و أوسعها، أسسها الزعيم المسلم الشهير سير سيد أحمد خان باسم “مدرسة العلوم”، و تحولت هذه المدرسة إلي “كلية محمدن الإنجليزية الشرقية”، ثم تحولت هذه إلي جامعة.
و إنما سر سيد أحمد خان كان يحرص علي إعادة الوعي الثقافي الإسلامي في الحياة، فلذلك تدرس اللغة العربية و اللغة الفارسية علي الأسس الثابتة السليمة، و كانت الدراسات الإسلامية جزأً من المنهج الدراسي في المرحلة الثانوية، و مرحلة الليسانس في جامعة عليكره، و أسس قسم اللغة العربية و آدابها و قسم الدراسات الإسلامية في الجامعة.
مع ذلك صارت جامعة عليكره جامعة عصرية علي نهج الجامعات الغربية، فيشمل منهجها العلوم الجديدة و الثقافية الغربية، فوجدت نتيجة له طبقة مثقفة بالثقافة الغربية، و لم تكن فيها دراسة اللغة العربية إلا قليلة و ضعيفة، و لم تكن تأثيرها في ثقافة الجامعة إلا ضئيلاً.
و قد كانت حركة السيد أحمد خان هي نقطة التحول في تاريخ المسلمين من الناحية الثقافية و الإجتماعية جميعها، فهي التي كسرت قيد التوقف و المقاطعة للمؤسسات الإستعمارية في التعليم، و ذلك بإنشاء كلية علي كره التي أنشأت جيلاً جديداً يجمع بين الثقافة الإسلامية و الثقافة الغربية.
و بعد ذلك أسست المعاهد و الكليات و الجامعات علي منهج جامعة علي كره في أنحاء البلاد، فنجد أن هناك تياران للمنهج الدراسي العربي في أواخر القرن التاسع عشر، المنهج الأول ما يسمي بالدرس النظامي هو الذي اتبعته المدارس الدينية و المنهج الثاني ما كان يوجد في الجامعات و كان ذلك المنهج يحتوي علي القواعد و المنتخبات من النثر و الشعر في الأدب العربي بدون اهتمام باستخدام اللغة و الثقافة العربية. و قد تنبه المفكرون المسلمون إلي أن المدارس الدينية القرآنية الخالصة لا تكفي فنشأوا مدارس تجمع بين الدراسات الإسلامية و المدنية فأسست ندوة في لكناؤ ثم مدرسة دار العلوم علي نمط دار العلوم. و يقول فضيلة الأستاذ سيد أبو الحسن علي الحسيني الندوي: “تأسست ندوة العلماء علي مبدأ التغيير و الإصلاح في نظام التعليم الديني و في منهاج الدرسي الغربي فحذفت و زادت و غيرت و أصلحت في منهاج التعليم[13]“، و حذفت المقدار الزائد من كتب المنطق و الفلسفة اليونانية، و ألزمت تدريس القرآن الكريم و الحديث، و زادت مقدار دراسة اللغة العربية و آدابها لأن اللغة العربية و الأدب العربي مفتاح كنوز الكتاب و السنة و الرابطة الأدبية مع الشعوب الإسلامية، و كان موقف دار العلوم ندوة العلماء إزاء اللغة العربية موقف لغة حية تكتب و يخطب بها لا كلغة أثرية عتيقة كما كانت في الدرس النظامي. و قد ركزت ندوة العلماء منذ أول يوم من تأسيسها علي إصلاح المنهاج التعليمي، و ركزت اهتماماً في تعليم اللغة العربية كمفتاح كنوز كتاب الله و سنة رسوله صلي الله عليه و سلم و التاريخ الإسلامي، و كان العلامة شبلي النعماني هو العقل المفكر و الداعي المخلص الواقعي إلي التغيير الإيجابي البناء و إصلاح النظام التعليمي، و أكد العلامة شبلي تأكيداً بليغاً علي إدخال اللغة الإنجليزية في منهاج دار العلوم ندوة العلماء، كما دعا إلي تدريس اللغة العربية كلغة حية قرآنية كما كانت تدرس في العصر العباسي. يقول الأستاذ الكبير سيد أبو الحسن علي الحسني الندوي و هو يتحدث عما و جدت اللغة العربية من الاعتناء إثر تأسيس دار العلوم لندوة العلماء:”عنت دار العلوم بصفة خاصة بالقرآن الكريم – الرسالة الخالدة – و تدريسه ككتاب كل عصر و جيل، و عنيت باللغة العربية التي هي مفتاح فهمه و أمنية خزائنه، و وجهت عنايتها إلي تعليم هذه اللغة الكريمة كلغة حية من لغات البشر يكتب بها و يخطب بها لا كلغة دراسية أثرية لا تجاوز أو الأسفار كما كان الشأن في الهند[14]“.
و هي الجامعة الإسلامية الأولي التي جعلت نصب أعينها توثيق الصلة باللغة العربية العصرية و رجالها، و استخدمت في ذلك جميع الوسائل الكفيلة بتطوير الذوق العربي الحديث و إحداث ملكة الكتابة و الخطابة بهذه اللغة بدون تضحية الذوق و الكفاءة لفهم العربية القديمة لكيلا تضعف قوة فهم الكتب القديمة، و مراجع العلوم الإسلامية، “لكن الجامعة وفقت إلي أكبر حد بوجود شخصيات علمية عربية و هندية مخلصة كالدكتور تقي الدين الهلالي المراكشي (م1407هـ) و الشيخ خليل بن محمد العربي اليماني (م1966هـ)[15]“، و بفضل جهود هذين العالمين أنجبت ندوة العلماء الجيل الأول من المتذوقين باللغة العربية العصرية، و علي رأسهم العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسيني الندوي و الشيخ مسعود عالم الندوي .
و يتحدث الأستاذ الجليل سعيد الأعظمي عن عناية ندوة العلماء بالعربية أن رجال ندوة العلماء و ابنائها ركزوا علي اللغة العربية و جعلوا اللغة العربية هي لغة تدريس المواد العلمية و بهذا “أنقذوا الأدب العربي من ذلك الحصار الضيق الذي كان محبوساً بين المقامات الحريرية، و نفحة اليمن و العرب و ديوان المتنبي، إنهم أخرجوه لأول مرة إلي الجو الواسع حيث تنفس الصعداء و نال مجالاً و اسعاً جداًّ للتطور و التقدم و التوسع، فخرج من أساليب السجع و القوافي و التصنيع المتين إلي أسلوب طبيعي أصلي، و دخل في جميع أصناف العلم و الفن و عرف الناس أن الأدب العربي أن لا يتجاوزها إلي غيرها من الشئون الحيوية و الثقافات المتنوعة و أن اللغة العربية أصعب اللغات لا يمكن التكلم بها و التعبير بها عن ذوات الصدور[16]“.
و مساهمة العلامة الشريف عبد الحي فخر الدين الحسيني خطوة عظيمة في مجال بعث اللغة العربية و الاعتناء بها، إنه اختار اللغة العربية وسيلة للتعبير في العهد الذي كانت غربية في الهند و انتخب أسلوباً علمياً مرسلاً في تأليف تاريخ الهند الإسلامي الذي عرف في المكتبة الإسلاميىة الضخمة باسم “نزهة الخواطر و بهجة المسامع و النواظر”، و كما ألف الدكتور السيد سليمان الندوي كتباً دراسية لتسهيل اللغة العرببة الحديثة، ثم اتجهت عناية رجال الندوة إلي توسع نطاق اللغة العربية و أدبها عن طريق الكتابة و الخطابة و الصحافة عدا التأليف و التدريس، فاستدعوا لهذا الغرض أدباء البارعين من أهل العرب كالدكتورمحمد تقي الدين الهلالي المراكشي (1407هـ)، و الشيخ محمد بن حسين الخزرجي اليماني و الشيخ محمد طيب المكي، و كان اجتماع أمثال هؤلاء العلماء و الأدباء العرب حدثاً تاريخاً في ذلك الوقت، و انطلق منه اتجاه جديد.
فقد أنجبت أفواجاً من الأدباء و الكتاب باللغة العربية الذين خدموا اللغة العربية بمؤلفاتهم و بحوثهم، و قاموا بإحياء اللغة العربية و جعلوها لغة الكلام و الكتابة في الأوساط العلمية، و أعدوا منهجاً خاصاً لدراسة اللغة العربية و قد نالت عدة مؤلفاتهم الأدبية القبول و الاعتراف في العالم العربي، و ساعد علي هذا التطور و العلاقة الحية مع اللغة العربية وجود شخصية سماحة أبي الحسن علي الحسني الندوي الذي يعتبر الصلة الوثيقة بين الهند و العالم العربي بحضوره مؤتمرات عالمية و جولاته الواسعة للأقطار العربية، و مؤلفاته القيمة، المؤثرة في الدعوة و الإرشاد، و العلوم الإسلامية التي طبعت عدة مرات في العالم العربي، فكان بذلك علماً من أعلام اللغة العربية في الهند.
و هبت رياح الأدب العربي في الهند كلها، و وفقت ندوة العلماء بفضل هذه الجهود المخلصة لدخول مجال الصحافة العربية، فنالت شرف الأسبقية في اصدار مجلة عربية شهرية، و جريدة عربية نصف شهرية، و “اصدرت أول مجلة باللغة العربية من الهند باسم “الضياء” تحت رئاسة الشيخ مسعود عالم الندوي، و “البعث الإسلامي” التي أصدرها الأستاذ محمد الحسيني[17]“، “و “الرائد” التي أصدرها في عام 1959م[18]“، و “مولانا أبو الكلام آزاد (1377هـ) الذي أنشأ للمجلس الهند للعلاقات الثقافية[19]“، و أصدر مجلة عربية “ثقافة العربية”، فكانت هي المجلة الأولي باللغة العربية التي صدرت تحت رعاية وزارة المعارف و أشرف علي إدارة تحريرها الأستاذ عبد الرزاق المليح آبادي الذي درس في اللغة العربية .
ثم ابتدأ عهد الصحافة العربية، “و صدرت جريدة “الكفاح” من جمعية علماء الهند، و “الداعي” من دار العلوم بديوبند، و صدرت مجلة عربية من الجامعة السلفية ببنارس “صوت الجامعة” و من دار العلوم حيدرآباد مجلة “الصحوة الإسلامية”، و مجلة “النور” من الجامعة الإسلامية[20]“، و تصدر عدة مجلات و نشرات من المدارس و المنظمات الإسلامية الأخري التي أنشأت حديثاً في الهند.
و في هذه الأثناء أقام علماء الهند المجامع العلمية و الأكاديميات البحثية لكثف المجهودات في التأليف و التصنيف في مجالات الإسلامية و اللغة العربية و قدمت هذه المراكز العلمية البحوث العلمية حول الموضوعات الإسلامية و اللغة العربية و آدابها، و كان أُسس مجمع دار المصنفين في أعظم جراه عام 1914م، و ندوة المصنفين في دهلي عام 1356هـ/1938م، و دائرة المعارف العثمانية في حيدرآباد عام 1306هـ/1888م، و الجامعة العثمانية في حيدرآباد عام 1337هـ/1918م، و مدرسة الإصلاح في أعظم جراه عام 1236هـ/1909، و المدرسة السلفية ببنارس عام 1383هـ.
و إن لمكتبات الهند دورا هامة أيضاً في نشر العلوم الإسلامية و العربية، و من أغني مكتبات الهند و دور الكتب و أجمعها للكتب النادرة و الآثار الثمينة، و نوادر الكتب “مكتبة بانكي بور” في مدينة بتنه، و مكتبة رضا في رامبور، و المكتبة الآصفية في حيدرآباد، و مكتبة دار العلوم بديوبند، و مكتبة جامعة عليكره، و مكتبة العلامة شبلي النعماني التابعة لندوة العلماء.
و مما يجب التنوية له أن دراسة اللغة العربية و آدابها في ولاية كيرالا الهندية تعد أكثر انتشاراً مقارنة بالولايات الهندية الأخري، و إن دراسة اللغة العربية و آدابها في تلك الولاية تبدأ من مرحلة التعليم الأساسي و تستمر في جميع المراحل التعليمية كجزء لا يتجزأ من المنهج الدراسي.
و مما لا شك فيه بأن العلاقات التاريخية الوثيقة بين ولاية كيرالا من جهة و بين العرب من جهة أخري ليست وليدة اليوم بل هي منذ فجر التاريخ نتيجة للصلات التجارية المتواصلة التي كانت تربطها مع العرب في سابق الأزمان، و عندما أظل الإسلام هذه الولاية كان للإسلام و المسلمين دورهم في نقل اللغة العربية و انتشارها في ولاية كيرالا كما إن الهجرات العربية استوطنت و استقرت في تلك الولاية و كان لها الحظ الأوفر في غرس اللغة العربية و نماءها.
و بعد جلاء الاستعمار البريطاني عن الهند لم تسمح الحكومة في ولاية كيرالا بتدريس العربية في “المدارس الثانوية” و الدراسات الإسلامية في المدارس الحكومية فأنشأ المسلمون المدارس و المعاهد الدينية و اعتنوا باللغة العربية و الدراسات الإسلامية لأنها تمثل بالنسبة لهم الموروث الحضاري و الديني لعقيدتهم فتكثفت الجهود و بذلت المساعي لتطوير اللغة و الدراسات الإسلامية أما الأمر في ولاية كيرالا فقد سمحت الحكومة بتدريس العربية في مدارسها الحكومة تلبية لرغبة المسلمين الذين يشكلون نسبة عالية تقدر بحوالي 25% من عدد السكان في تلك الولاية من الشأن.
فلما استقلت الهند، تصدي له العلماء من جديد، و اهتموا بتعليم اللغة العربية اهتماما بالغا، فألفوا في هذا الموضوع عدة كتب، شاعت، و نالت القبول، و يستفاد منها في شعب اللغة العربية و قد سمحت حكومة الاحتلال بأن تدريس اللغة العربيىة في المدارس الإسلامية و الجوامع الإنكليزية ليس حيا في العربية بل لكي تنال هذه الحكومة القبول و الرضا من جانب الشعب و بالرغم من سماح الحكومة لتدريس العربية إلا أنها لم تكن لتعتني بها كثيراً، الأمر الذي أدي قيام هيئات أهلية علمية ساعدت في قيام مدارس علمية بدعم أهلي كان هدفها رفع مستوي اللغة العربية و الدراسات الإسلامية .
و اتخذت اللغة العربية بعد استقلال الهند مكانة أهم لغات العالم لتوثق العلاقات التجارية، و الاتصالات السياسية، و الروابط الودية بين الهند و العالم العربي لأوجه شبه كثيرة كانت تتحكم في تطور اللغة العربية، منها مكافحة رواسب الاستعمار و الصمود في وجه الغزو الفكري الغربي ضد الحضارة الشرقية العريقة، فنالت اللغة العربية الاهتمام من الجهات الرسمية بجانب الاهتمام بها في المدارس الدينية لتعزيز الروابط بين الهند و العالم العربي و جميع المجالات الاقتصادية و السياسية و العلمية، و لذلك فتحت أقسام لدراسة اللغة العربية في معظم الجامعات الرسمية، و أقسام لدراسة الشرق الأوسط و الدراسات الإسلامية.
هناك تياران لدراسة اللغة العربية أما الأول فهي تدرس في المدارس و المعاهد الدينية، و أما الثاني فهي تدرس في المدارس الثانوية الحكومة و الكليات الحكومية و الجامعات.
و نستطيع القول بأن اللغة العربية لا ينحصر نطاق تدريسها علي المعاهد الدينية و المدارس و المساجد فحسب بل تمتد ليشمل تدريسها المدارس الحكومية و الكليات و الجامعات و تكتظ تلك المؤسسات التعليمية بالآلاف من أعضاء هيئة التدريس الذين يقومون بتدريس اللغة العربية علي ملايين من الطلاب في هذه الأيام.
-الإسلام و المسلمون، د. محمد صدرالحسن الندوي، معهد الدراسات الإسلامية، أورنك آباد مهاراشترا،1420هـ/1999،ص22. [1]
[2] – مناهج الدراسات العربية في الهند، د. محمد اقبال حسين الندوي، مركز الدراسات العربية المعهد المركزي للغة الإنجليزية و اللغات الأجنبية بحيدرآباد، الطبعة الأولي 2005م، ص 91
[3] – نفس المصدر، ص 92
[4] – مناهج الدراسات العربية في الهند، د. محمد اقبال حسين الندوي، مركز الدراسات العربية المعهد المركزي للغة الإنجليزية و اللغات الأجنبية بحيدرآباد، الطبعة الأولي 2005م، ص106
[5] – نفس المصدر، ص104
[6] – نفس المصدر، ص104
[7] – نفس المصدر، ص106
[8] – نفس المصدر، ص107
[9] – مساهمة دارالعلوم بديوبند في الأدب العربي: زبير أحمد الفاروقي، دار الفاروقي، دهلي الجديدة، الهند، 1990م، ص 16
[10] – حركة التعليم الإسلامي في الهند و تطور المنهج: محمد واضح رشيد الندوي، المجمع الإسلامي العلمي لكناؤ، الطبعة الأولي 1427هـ\2006م، ص85.
[11] – سيد أحمد خان: حياته و أفكاره: محمد صلاح الدين العمري، جامعة علي كره،علي كره، الهند، 2003م، ص136.
[12] – المسلمون في الهند: سيد أبو الحسن علي الحسيني الندوي، المجمع العلمي، ندوة العلماء، لكناؤ،1427هـ\2006م، ص ……
[13] – حركة التعليم الإسلامي في الهند و تطور المنهج: محمد واضح رشيد الندوي، ص97.
[14] – المسلمون في الهند: سيد أبو الحسن علي الندوي، المجمع العلمي، ندوة العلماء للكهنؤ، 1427هـ\2006م، ص69.
[15] – حركة التعليم الإسلامي في الهند و تطور المنهج: محمد واضح رشيد الندوي، ص 135
[16] – مجلة البعث الإسلامي، المجلد 13 ،ندوة العلماء، لكناؤ (الهند)،جماد الأولي1399هـ/أبريل 1979، ص 70
[17] – حركة التعليم الإسلامي في الهند و تطور المنهج: محمد واضح رشيد الندوي، ص 138.
[18] – نفس المصدر، ص 140.
[19] – نفس المصدر، ص 134.
[20] – نفس المصدر، ص 140 .