راشـــد حسن
الباحث في جامعة ممبائي، ممبائي ـ الهند
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وبعد!
فإن القيم قوام المجتمع الإنساني وأساسه، بها تعرف محاسنه أو مقابحه، رقيه أو انهياره، عظمته أو شقاوته، فالمجتمع الذي تسوده القيم الإنسانية العالية والآداب الفاضلة هي من المجتمعات الراقية المثقفة بين الجنس البشري، وقد اهتم شرعنا الحنيف بها بالغ الاهتمام، وحثَّ على التمسك بالقيم الفاضلة التي هدى الناس إليها وأوجبها، ونجد مواقف رائعة عنها في السنة المشرفة وحياة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
إننا نتعرف في هذا المقال المتواضع معنى القيم، وما يتعلق به، ومكانة الإنسان في القرآن الكريم، وأصناف القيم، وتوجيهات القرآن الكريم في مجال القيم الإنسانية. وإليكم هذه كلها باختصار:
القيم لغة:
القيمة واحدة القيم، وأصله الواو؛ لأنه يقوم مقام الشيء، يقال قومت السلعة، والاستقامة والاعتـدال وقومـت الشيء فهـو قـويم أي مستقيم، والقوام العدل، قال تعالى : وكان بين ذلك قوامًا وقوام الرجل أيضًا قامته وحسن طوله. ([1])
القِيَم: الفضائل الدِّينيّة والخُلقيّة والاجتماعيّة التي تقوم عليها حياة المجتمع الإنسانيّ “يحثُّ الكاتبُ في كتاباته على القيم الأخلاقيّة- {هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} “. ([2])
اصطلاحًا:
القيم هي : «محطات ومقاييس نحكم بها على الأفكار والأشخاص والأشياء والأعمال والموضوعات والمواقف الفردية والجماعية من حيث حسنها وقيمتها والرغبة بها، أو من حيث سوءها وعدم قيمتها وكراهيتها، أو من منزلة معينة ما بين هذين الحدين»”.([3])
مستوى أو مقياس أو معيار نحكم بمقتضاه، ونقيس به، ونحدد على أساسه المرغوب فيه أوالمرغوب عنه”. ([4])
ماذا نعني بالقيم:
القيمة هي صفة في شئ تجعله موضع تقدير واحترام أي أن هذه الصفة تجعل ذلك الشيء مطلوبًا ومرغوبًا فيه، سواءً كانت الرغبة عند شخص واحد، أو عند مجموعة من الأشخاص. مثال ذلك إن للنسب عند الأشراف قيمة عالية، وللحكمة عند العٌلماء قيمة عظيمة، وللشجاعة عند الأمراء قيمة مرغوبة، ونحو ذلك.
وموضوع القيمة: هو البحث عن الموجود من حيث هو مرغوب فيه لذاته، والنظر في قيم الأشياء، وتحليلها، وبيان أنواعها وأصولها، فإن فسرت “القيمة” بنسبتها إلى الصور الغائبة، المرتسمة على صفحات الذهن، كان تفسيرها مثاليًّا، وإذا فسرت بأسباب طبيعية أو نفسية أو اجتماعية، كان تفسيرها وجوديًّا. وخير تفسير للقيم ما جمع بين الاثنين، المعنى المثالي، والمعنى الطبيعي، إذ لا يمكن تصور أحد هذين المعنيين في القيمة، دون الآخر، ولولا ذلك، لما كان للقيمة وجود، ولا للوجود قيمة. ([5])
مكانة الإنسان في الإسلام:
إن الله سبحانه وتعالى قد رفع قدر الإنسان وأعلى مكانته وميزه عن غيره من المخلوقات بميزات عديدة، منها تكريمه بعدة طرق، فقد كرمه وشرفه وحمله في البر والبحر ورزقه من الطيبات وفضله على كثير من المخلوقات حيث قال سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.
ومن مظاهر تكريمه إياه أنه عز وجل خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وجعل الإنسان روحيا ليس ماديا فحسب ، حيث قال: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }.
منها: جعله خليفته على وجه الأرض ، كما قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة:30).
ومنها: أنه أعطاه حرية كاملة في ممارسة الأمور واختيار من غير إجبار وإكراه إلى جانب تسخير الكون له ، حيث قال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} (الكهف:29).
وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
الخصائص التي شرف الله سبحانه وتعالى بها الإنسان كثيرة لايمكن حصرها ، والبارز منها ذكرنا في هذا المجال الضيق.
تصنيف القيم:
والآن ننتقل إلى تصنيف القيم المطلقة العامة، ومن ثم إلى بعض ما يتعلق بها من الفروع والأجزاء. وقد قسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام عامة، وهي:
- القيم العليا.
- القيم الحضارية.
- القيم الخلقية.
- القيم العليا : وهي القيم الكلية الكبرى التي تسمو بالإنسان إلى معالي الأمور ، وترفع مستواه على سائر المخلوقات ، ومن تلك القيم : الحق، والعبودية ، والعدل، والإحسان، والحكمة. وهذه القيم من أهم القيم الإسلامية وأعلاها على الإطلاق عند المعنيين بموضوع التربية والأخلاق والقيم.
- القيم الحضارية : وهي القيم المتعلقة والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالبناء الحضاري للأمة الإسلامية ، متمثلة في التقدم العقلي والمادي معًا، مثل: الاستخلاف، والمسؤولية ، والحرية ، والمساواة ، والعمل ، والقوة ، والأمن ، والسلام ، والجمال وغيرها.
- القيم الخلقية : وهي القيم المتعلقة بتكوين السلوك الخلقي الفاضل عند المسلم؛ ليصبح سجيةً وطبعًا يتخلق به ويتعامل به مع الآخرين لتكوين مجتمع إسلامي فاضل تسوده المحبة والوئام ، كالبر ، والأمانة ، والصدق ، و الأخوة ، والتعاون ، والوفاء ، والصبر ، والشكر ، والحياء ، والنصح ، والرحمة ، والصبر ، والحوار ، واحترام الآخر. ([6])
هذه القيم الإنسانية العظمية قد حثَّ القرآن على التمسك بها، والتفاعل معها، ونشرها، وترسيخها في أذهان البشرية وقلوبها، وتمثيلها في حياة الفرد والمجتمع. والمجمتع الذي تسوده هذه القيم من: الحق والعبودية والعدل والإنصاف فتسمو بالإنسان إلى معالي الأمور وعظائمها ، و القسم الثاني يقوي دعائم البناء الحضاري للقيم ، والقسم الثالث يبث الأمن والاستقرار والمحبة والتوادد والصدق والتعاون والأمانة والوفاء واحترام الآخرين من مسلمين وغير المسلمين. وبهذا يمكن إيجاد المجمتع الإنساني النزيه الجميل القائم على الدعائم الإسلامية المستمدة من نبع الوحيين العذب الأصيل. ونظفر بالقضاء على روح التنافر والحقد والعداوة والفساد والفتن وغيرها من الصفات الذميمة السلبية من المجمتع الذي نعيش فيه.
وفي القرآن الكريم توجيهات قيمة لإصلاح الفرد والأسرة والمجتمع وجميع المجالات من السياسة والاقتصاد وغيرها. ويريد سيادة هذه القيم وإحاطتها بالعالم أجمعه. فيهدف القرآن الكريم بـ”القيم الفردية” إلى إيصال الفرد إلى قمة الأخلاق ومعالي الأمور، ويأمر الإنسان: الصبر، والصدق، والإحسان، والعفو. يقول أمرًا بالصدق ونهيا عن الكذب:
- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [سورة التوبة: ١١٩].
- إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [سورة النحل:١٠٥].
وللصدق مراتب وأقسام: الصدق في القول، الصدق في النية، والصدق في العمل والتوكل على الله سبحانه وتعالى.
يأمر الصبر فقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [سورة الكهف:٢٨].
وللصبر أنواع: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على الابتلاء.
يأمر بالإحسان فيقول:
إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة النحل:٩٠].
يأمر بالعفو فيقول:
وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [١٤].
ويهدف ـ كذلك ـ القرآن الكريم بـ “القيم الأسرية” إلى خلق روح الأمن والطأنينة والعيش الكريم في داخل البيت والأسرة. فأمر البر والإحسان إلى الوالدين فقال: ..وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.. [سورة النساء:26].
وأمر بالتوادد والمحبة والمعاشرة بالمعروف، فقال: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة النساء:19]. وإذا كان الوالدان وشريكة الحياة يعيشون في ظل توجيهات القرآن الكريم، يكون أهل الأسرة والبيت كلهم في طمأنينة وتآلف وسعادة وسلام.
وكذلك يهدف القرآن الكريم بـ “القيم الاجتماعية” إلى إيصال المجتمع إلى قمة السعادة وذروة المجد. وهي تبني على ركائز التعاون والتآزر والتآلف، والتكافل الاجتماعي. وحقيقة التكافل الاجتماعي لاتتم وتحصل إلا بتوطيد علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته بأهله وبيته وعلاقته بمجتمعه الذي يعيشه. قال الله تعالى:
- وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة المائدة:٢].
- وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّـهُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة التوبة:٧١].
ودعا القـــرآن الكريم إلى القيم السياسية لإصلاح نظام الحكم في المجتمع الإسلامي، ولايمكن الحكم العادل الذي يسود الأمن والاستقرار والسلام والتآزر والتناصر في أي مجتمع مع المسلمين وغير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم إلا بتنفيذ ركائز هذه القيم السياسية. وهي: العدل، وطاعة أولي الأمر، والشورى فيما بينهم. قال الله تعالى:
- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [سورة المائدة:٨].
- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ [سورة النساء:59].
- فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ [سورة آل عمران:159].
خاتمة المقال:
وفي نهاية المطاف نقول: إننا في حاجة ماسة إلى فهم هذه القيم الإسلامية التي هي من خالق هذا الكون سبحانه وتعالى ، والقيم الوضعية التي وضعها الإنسان من نفسه لايكون بديلا لها أبدًا، وإلى نشرها بين الناس ونشرما فيها من الخير والسعادة والصلاح والفلاح في معاشنا ومعادنا ، وأنها تشمل البشرية كلها عربيهم وعجميهم، مسلمهم وكافرهم، أسودهم وأبيضهم. وبهذه تُروي الإنسانية المتعطشة غلتها، وتُغذي قلوبها الجائعة بالعذاء الروحاني، وتُعمر خرابها، وتعيش في رخاء وطمأنينة وسعادة وسلام.
[1] ) – الصحاح في اللغة (2/102).
[2] ) – معجم اللغة العربية المعاصرة (3/1875).
[3] ) – فلسفة التربية الإسلامية لماجد الكيلاني (ص: 299).
[4] ) – التطور القيمي وتنمية المجتمعات الدينية لمحمد إبراهيم كاظم (ص: 111). نقلا عن “نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم” (1/178).
[5] ) – القيم الإسلامية (1/1).
[6] ) – انظر: “القيم بين الإسلام والغرب” للدكتور مانع المانع (ص: ٢٤) [بتصرف وزيادة].