(الحلقة الثانية)
الدكتور وصي الله الندوي
نعرض عدة نماذج من رحلة أنيس منصور إلى الهند واليابان من كتابه “حول العالم في 200 يوم”. ارتحل أنيس منصور إلى الهند حينما كانت هي تمر بظروف سياسية عصيبة، وكان غرضه من الرحلة إجراء تحقيق صحفي عن ولاية كيرالا حيث كان صراع عنيف دائرا بين الحكومة المركزية التي كان يترأسها الحزب الشيوعي، كما يذكر أنيس منصور:
“لقد كان الغرض من رحلتي هذه أن أسافر فقط إلى ولاية كيرالا في الهند وأن أكتب تحقيقا صحفيا عن الولاية الوحيدة في الهند التي فاز فيها الحزب الشيوعي بحكومة شيوعية %100 وقد ثار حزب الحكومة المركزية على هذه الولاية واتهم حكومتها بالطغيان والاستبداد والتدخل في معتقدات الناس وقابلت رئيس الوزراء نامبودريباد وكان هذا الحديث الذي دار بيني وبينه هو الصاروخ الذي دفعني إلى الدوران حول الأرض”[1].
لم تكن مهمة أنيس منصور إلا سياسية وتغطية الأزمة التي كانت تعاني الهند منها، ولكن شاء الله أن يطول قيامه في الهند لأن رحلته إلى الهند وإقامته فيها لم تكن موفقة كما يظهر بعد دراسة عميقة للفصل الخاص بالهند من كتابه “حول العالم في 200 يوم”. إنه سجل شكوى من الروائح والألوان المرئية وغير المرئية فمنذ أن حل بمطار ممبئي إلى أن غادر لسيلان لا يزال يشعر بالقلق متقلبا على الفراش خائفا من الحشرات والزواحف والهوام السامة تحت ناموسية الجو القاتم الخانق، وتكاد تتلخص رحلته الهندية في هذه الكلمات لأنيس منصور:
“أكلك نار، شربك نار، بعدك نار، قربك نار، ولا يمكن أن يفهم في القاهرة معنى نار إلا إذا سافر إلى الهند. النار حقيقة تخرج من أنفك وتدخل في صدرك. الطعام كله شطة حمراء، وكما يوجد هواء سائل توجد أيضا نار سائلة توضح في كل شيئ. النار في يدك وفي فمك وفي معدتك، نار يا حبيبي نار”[2].
لكن هذا الموقف الذي أعلنه أنيس منصور كان فيه كثير من المغالاة والتعسف وقد استدرك فيما بعد وتمنى أن يعود إلى الهند فيقول: “فيها كل شيئ، كل الألوان وكل الأديان وكل الطبقات ومئات اللغات وألوف اللهجات”[3]. لم ينس أنيس منصور الهند أبدا واحترامها كان دائما في قلبه وهكذا لا يزال يعاود ذكرياته بين حين وآخر. زار الهند مرة أخرى واستذكر موقفه الماضي واستنكره وصرح برؤيته في مقال له كتبه في جريدة “الشرق الأوسط” بهذه الكلمات:
“سألوني ما الذي تريد أن تراه في كيرالا؟ قلت: كل ما رأيت قبل ذلك منذ أكثر من أربعين عاما فيومها كنت أراها بعين واليوم سوف أراها بعينين وتجارب طويلة في السفر في القارات الخمس”[4].
الهند هي كانت المحطة الأولى في رحلة أنيس منصور حول العالم، ومع أنه لا يوجد ما يصرح ويحدد مدة إقامته فيها ولكن يظهر من مقابلته مع نامبودريباد أنه قضى شهرا تقريبا. تستغرق أحاديث أنيس منصور عن الهند حوالي مائة وثماني صفحات، وهي تحت ستة عناوين مختلفة: كل شيئ كثير، باسم الله، صاحب القداسة رفض، إله في انتظاري، حفاة تقدميون جدا، وتأملات هندية. تحدث تحت العنوان الأول عن إقامته في مدينة ممبئ، وفي الثاني عن إقامته بدلهي، والثالث والرابع عن إقامته بدهرادون ومقابلته مع دلائي لاما، والخامس عن كيرالا ومقابلته مع نامبودريباد، وفي العنوان الأخير قدم خلاصة تجاربه ومشاهداته في الهند، ولو نحاول تحديد الموضوعات الرئيسية التي دارت حولها أحاديث أنيس منصور يمكن أن نقسمها هكذا: المرأة الهندية، نان وتندوري، البان، البقرة، الدوتي، ضحك الهندي، الرطوبة والرائحة والبعوض، جواهر لال نهرو، دلائي لاما، في ولاية كيرالا، نامبودريباد. فوفق العناوين المذكورة سابقا نذكر بعض الأمثلة كما نعلم أن المرأة تشغل حيزا كبيرا لدى أنيس منصور. المرأة والحب والشباب هي الموضوعات التي غاص في أعماقها الكاتب كثيرا. يظهر من دراسة كتاباته أنه مشغوف بالحديث عن المرأة فالمرأة تستلفت أنظاره أينما يكون. إنه يهوي محادثة النساء والحديث عنهن ووصفهن. فكيف لا يستهويه هذا الجنس اللطيف في الهند؟ فبعد الخروج من المطار والاحتكاك بالناس ومشاهدة ملابسهم وملامحهم كانت الصورة التي قيدها كاميراه للرجل الهندي والمرأة الهندية هي:
“الرجل الهندي رشيق، ممشوق القوام، بشرتهم مشدودة وإن كانت أميل إلى اللون الأصفر، وهذا اللون خليط من الأصفر والأسود، ولمسة أزرق. أما الملامح فأوربية جرمانية، الشفة رفيعة والأنف دقيق والعينان واسعتان والفك انسيابي والجبهة متوسطة والشعر أسود فاحم ناعم والأسنان مستوية وناصعة البياض، ولا توجد أكراش، كما أن أصابع اليدين رفيعة كأصابع عازفي البيانو”[5].
ثم يذكر المرأة الهندية فيقول: “أما السيدات فهن أميل إلى السمنة وخصوصا الأرداف، وتضع كل واحد نقطة حمراء في أسفل الجبهة تدل على أنها متزوجة، وشعرها أسود جدا تحسد عليها كل نساء أوربا وأمريكا، وجهها مستدير، وشفتا المرأة أميل إلى الامتلاء وعنقها مسحوب وأذناها صغيرتان”[6].
ويقول في مكان آخر مبهورا بجمال شعر المرأة الهندية: “أما شعر المرأة فطويل أسود يوجع قلب كل نساء أوربا”[7].
هكذا يثني أنيس منصور على المكانة التي تحتلها المرأة في الهند بسبب الحرية الاجتماعية فهو يقول مقارنا بين وضع المرأة في آسيا وأفريقيا: “مركز المرأة في آسيا كلها أحسن من مركزها في أفريقيا، فهي هنا في الهند رئيسة أعظم حزب وهو حزب المؤتمر، وهي وزيرة ونائبة وزير ومستشارة وقاضية وهي وكيلة البرلمان ورئيسة مئات من الهيئات الرسمية”[8].
وهكذا في الهند جرب أنيس منصور وجبات وأكلات مختلفة، وأكل في الفنادق الفخمة كما أكل جالسا على الأرض ولكن الأكلة التي أعجبته من جميع الأطعمة هي “التندوري” وله عنها حكاية:
“وجدت أن أحسن طعام هناك هو “التندوري”، وهذه الكلمة الهندية الوحيدة التي عرفتها بعد ساعة من وصولي إلى المدينة، إنها فرخة كاملة، فرخة شكلها غريب، مصبوغة باللون الأحمر، أحمر فاقع، لقد غمسوها في هذا اللون 24 ساعة، والفرخة مشدودة ممطوطة جناحاها طويلان ورجلاها طويلتان وعلى ظهرها أثر كدمات أو آثار ضرب عنيف، هكذا تصورت. فقد وجدت هذه الفرخة المشوية بها علامات عميقة في جسمها، وتخيلت أنهم في الهند ينطلقون وراء الفراخ ويضربونها حتى تموت ثم يرمونها في اللون الأحمر، وبعد ذلك ينقلونها إلى النار ثم إليك، ولكن الأمر مختلف عن ذلك وقد أخطأت في ظني، فهي فرخة عادية ذبحوها ثم صنعوا بها هذه العلامات العميقة في جسمها بعد أن سلخوها تماما كالأرانب، أما فيما عدا هذه الفرخة فلا يوجد طعام يستحق الذكر في الهند كلها، هذه الفرخة هي العلامة المميزة للمطبخ الهندي”[9].
ثم يذكر أنيس منصور “البان” لأنه حينما خرج من مطار ممبئ رأى على الأرض بقعا من الدم وعندما أطال النظر إليها لم تكن دما وإنما لونها كان أقرب إلى الدم البنفسجي قليلا، قد ذكر أنيس البان مرة واحدة فقط باسمه وإلا أنه يذكره باللبان ومعناه في الإنجليزية Chewing Gum. هو مصر على استعمال كلمة “اللبان” “للبان” وهنا في الهند نحن نعرف الفرق بين اللبان والبان. يقول أنيس منصور:
“إنه نوع من اللبان يسمونه بأن يمضغه الناس هنا ثم يبصقونه على الأرض، إنه عبارة عن لبان نباتي، مجموعة من الأعشاب وثمار الأعشاب يضعونها أو يلقونها في ورق ثم يمضغونها”[10].
يطيل الحديث عن البان فيقارن بينه وبين القات اليمني كما يقارن بين ثمنه وثمن البان الأمريكاني ويشاهد هو أنه صادق في ملاحظته:
“إن الناس كلهم يمضغون البان، بائع البان وأستاذ الجامعة والوزير، والبان مفيد للأسنان تماما كما نعتقد في الريف عندنا أن (اللبان الدكر) مفيد للحلق أو مزيل للبلغم”[11].
والشيئ الذي يدهشه كثيرا ويندهش كل من له عقل سليم وطبيعة سليمة كيف يبصق إنسان محترم على الأرض؟ فيقول: “وكأنني توليت تعذيب نفسي في كل مرة أرى واحدا يمضغ فأظل طول الوقت أتوقع أن يبصق أمامي على الأرض وكثيرا ما خاب أملي. فحمدت الله على أن أكثر من عشرين شخصا لم يبصقوا أمامي على الأرض”[12].
هكذا يذكر الكاتب أن البقرة في الهند هي حيوان مقدس يعبدونها الهندوس وعلى أساس هذا التأليه والتقديس يعاملون معها معاملة استثنائية، ومع أنها هي في نظر اتباع الديانات الأخرى مجرد حيوان نافع فقط مثل الحيوانات الكثيرة الأخرى، فحينما زار أنيس الهند لابد أن شاهد هذا المنظر الغريب فاستغربه ووقع في حيرة. يقول:
“في الهند أناس لا يأكلون اللحوم ولا المواد المستخرجة من الحيوانات، فلا يشربون اللبن ولا يأكلون الزبد والجبن ولا يأكلون البيض ولا السمك ولا يذبحون الأبقار لأن البقرة مقدسة، وهي رمز الحياة والخصوبة، وهي حيوان سعيد في الهند وسعادة البقرة واضحة في دلالها ودلعها وتمخطرها في الشوارع في أحسن الشوارع وفي دخولها أحسن المحلات دون أن يمسها أي إنسان”[13].
ولكن يندهش ويتحير حينما يرى أن الثور على الرغم من أن أمه بقرة وجدته بقرة وابنته بقرة أيضا أنه ليس محترما وهو منبوذ وليس له أي تقديس، يقول:
“وفي الهند فئة من المنبوذين عددها حوالي 60 ملين نسمة، ولا أعرف بالضبط عدد الثيران، ولكن هذا الحيوان المنبوذ يجر العربات ويحرث الأرض ويضربه الفلاحون على قفاه ليل نهار، واليد التي تضربه على قفاه هي نفس اليد التي ترتفع بالتحية لأمه او لجدته أو حفيدته، لم ألاحظ أن هناك أية تفرقة جنسية عند الهنود غير هذه التفرقة بين الثور والبقرة”[14].
ثم يذكر الكاتب الملابس الهندية وخاصة “الدوتي” لأن الدوتي له شرف خاص، ويبدو أن هذا اللباس الهندي وقع من نفسه موقعا جميلا وأثار لديه رغبة شديدة في تجريبه[15]، وقصة “الدوتي” يحكيها الكاتب مثل قصة “بان”، يكتب بأسلوب ضاحك:
“قد حدث عند ما كنت في جنوب الهند أن استمرت الأمطار تتساقط يومين متواليين لا أستطيع أن أخرج من غرفتي، وإذا خرجت فلكي أتأكد من أن الأمطار لن تصل إلى سريري، ورأيت أنها فرصة لكي أجرب الدوتي، وطلبت من مدير الفندق أن يعيرني أي دوتي عنده، ودخلت الغرفة، ووجدت أن الدوتي هوعبارة عن ملاية سرير، ولكن كيف ألفها حول وسطي ثم كيف أربطها ربطا متينا حتى لا تسقط وبدون حزام، لم أتمكن، فإذا ربطتها من هنا سقطت من هناك وقررت أن ألفها حول وسطي وأضع فوقها الحزام لكي يمسكها ولاحظت وأنام أمام المرآة أنه لا ينقصني إلا أن أضع على صدري إبريقا كبائع العرقسوس وأنزل إلى الشارع وقررت أن أخرج إنني أحد الملايين لن يلتفت إلي أحد، ولكن لاحظت أنني شددت دوتي على وسطي أكثر من اللازم، وخرجت إلى الشارع أنظر إلى الناس ولم يهتموا، أهو هكذا قلت لنفسي، وبدأت أقوم بحركات عصبية، فالإنسان عندما يشعر بالحرج يحاول أن يضع يديه في جيبه، كأنه يتساند على نفسه حتى لا يقع، ولكن لا جيوب وحاولت أن أضع يدي على وسطي حتى لا يسقط الدوتي، ومن شدة ارتباكي غصت في الماء وتبلل الدوتي ووصل الماء إلى ركبتي وشعرت بالبرودة في الزحام ورفعت الدوتي إلى أعلى وشددته فوق الحزام، كأن الدوتي حمام زاجل فإذا أطلقته عاد إلى الفندق، ووضعت الدوتي على كتفي، والصورة الآن هكذا، المطر على وجهي شديد جدا، شعري منكوش، وجوز جزمة في يدي، والجزمة قد ابتلعت جوربي وزجاجتين من ماء المطر، الدوتي على كتفي، والقميص التصق بجسمي، وتلفت إلى الناس فوجدتهم مثلي، وحمدت الله على أنني لم أنس ملابسي الداخلية، لقد دفعت ثمن هذا اليوم غاليا، من السعال والزكام والعرق والنوم تحت أغطية من الصوف في عز الصيف وفي قلب المنطقة الاستوائية”[16].
قدم أنيس منصور إلى الهند لمهمتين، الأولى لتغطية الصراع بين الحزب الشيوعي وبين الحكومة المركزية في ولاية كيرالا، والثانية لمقابلة دلائي لاما الذي لجأ إلى الهند بعد اجتياح الصين والتبت ومع أن أنيس منصور يشير في موضع أن تغطية أزمة كيرالا كانت مهمته الأولى، ولكنه سافر أولا إلى مسوري للقاء دلائي لاما وبعد ذلك رحل إلى تريفندم عاصمة كيرلا لمقابلة نامبودريباد، فقابل أنيس منصور دلائي لاما وأمه وتحدث معهما وأخذ صورهما كما يقول:
“وجلست إلى جوار الدلائي لاما لكي تظهر لي أول صورة نشرت له في العالم العربي أو صورة تنشرها “أخبار اليوم” للدلائي لاما”[17].
أما الحوار الذي جرى بين أنيس منصور والدلائي لاما وأمه كان مشتملا على عدة أسئلة، مثلا سأل الكاتب أنيس منصور الدلائي لاما: كيف هربت من التبت إلى الهند[18]؟ وهكذا كثير من الأسئلة طرح أنيس منصور إلى الدلائي لاما فأجابه الدلائي لاما جوابا مقنعا.
ثم توجه أنيس منصور إلى ولاية كيرالا لمهمته الثانية لكي يكتب قصة الصراع بين الحزب الشيوعي وبين الحكومة المركزية، إذ كانت زيارته للولاية وتغطية الأزمة هناك، من صميم أهدافه التي شد لأجلها رحاله إلى الهند، ومع أنه هناك لا يوجد شئي حول الأزمة السياسية التي كانت تعاني منها الحكومات سوى إشارات عديدة، وربما ذلك لحذفه كثيرا من الموضوعات لدى تأليف الكتاب وترتيبه، إلا أن حديثه عن كيرالا يقدم لنا مشاهدات وتجارب تكشف عن جوانب عديدة لحياة مواطني الولاية. لبس أنيس منصور في كيرالا الدوتي كما ذكرنا سابقا وأكل في ورقة الموز ورأى كثيرا من العجائب والغرائب والتقاليد في عيد محرم وزار المبنى التذكاري الذي يرقد فيه رماد المهاتما غاندي وأجرى المقابلة الصحفية مع رئيس الوزراء نامبودريباد. حديث أنيس منصور عن ولاية كيرالا قد يستغرق حوالي أربع وعشرين صفحة وقد اختار لبيان ذلك كعادته في اختيار العناوين عنوانا مثيرا “حفاة تقدميون جدا” فأنيس منصور لا يتمالك من الدهشة والحيرة عندما يرى رجلا مثقفا تعلم في إنجلترا، وعلى عينيه منظار أمريكي غال، وفي جيب قميصه الحريري قلم شيفرز من الذهب وفي يده ساعة من الذهب والماس ومع ذلك يمشي حافي القدمين ويجلس على الأرض كما يقول:
“أنا جالس على الأرض ومعي أحد أغنياء ولاية كيرالا، إنه من الأسرة التي كانت مالكة واسمها “ثامبي”، إنه تعلم في إنجلترا ومع ذلك يمشي حافي القدمين ويلف حول وسطه فوطة تماما كالتي كان يلبسها قدماء المصريين ويضع على عينيه منظارا أمريكيا غاليا”[19].
هكذا مشاهداته عن احتفالات عيد الشيعة في شهر محرم الحرام تقدم معلومات طريفة لمسلمي البلاد الأجنبية ومسلمي أقاليم الهند المختلفة على السواء. وقد واجه أنيس منصور مشكلة كبيرة في فهم كلمة “محرم” كما يقول:
“كلما سألت عن سبب إقفال دواوين الحكومة قيل لي: إنه مهرام، عيد مهرام، وفي نفسي أقول: لابد أنه أحد الهنود أو أحد الزعماء فلا داعي للمناقشة، والذين سألتهم ينطقون هذه الكلمة وكأنها حقيقة كالشمس، فكيف أتساءل أنا عن الشمس فأهز رأسي كأنني نسيت السيد مهرام هذا، واستدعيت أحد الخدم وسألته فقال: إنه مهرام أحد خلفاء المسلمين. إن الاحتفال غدا سيكون ممتعا، لابد أن تراه، وأخيرا انتهى مهرام هذا إلى “محرم” شهر محرم وأعياد شهر محرم، وأنا لا أعرف ما هي أعياد شهر محرم في الهند، وحتى لا أعرف إن كنا في شهر محرم أو في شهر ذي القعدة، فالصحف هنا لا تذكر إلا الشهور التي تبدأ بيناير وتنتهي بديسمبر، ذهبت إلى حيث ستبدأ المهرجانات وسمعت ورأيت الأعاجيب، وهذا العيد وذكرى يوم 10 محرم يوم مقتل الحسين بن علي وهو عيد الشيعة”[20].
قابل أنيس منصور في كيرالا مع نامبودريباد وذلك لكونه آخر صحفي يجري معه المقابلة وهو في الحكم كما يقول عن هذه المقابلة التاريخية: “وكنت آخر صحفي قابله وهو رئيس وزراء فقد قرر نهرو إقالته من الوزارة بعد مقابلتي له مباشرة”[21]. الصورة التي قدمها لنا أنيس منصور لرئيس الوزراء نامبودريباد لا تساعدنا كثيرا في فهم شخصيته فهما دقيقا شاملا، وربما ذلك بسبب المعلومات غير الكافية التي توفرت له، فلم يكن سهلا لسائح أجنبي جاء لأيام معدودات أن يتوفر له جميع المعلومات، ومن ثم كان اعتماده على بعض النشرات والصحف والمقابلة التي استغرقت نصف ساعة تقريبا ومنها رسم صورته وكانت ملامحه كما يقول أنيس منصور:
“هو الرجل الثاني في الهند، فالصحف لا تتحدث إلا عن رجلين: نهرو وهذا الرجل. إنه ابن الأكابر، إنه رجل قوي الحجة، مركز آمال الأحزاب الشيوعية في الهند وفي كل آسيا، فهو يعتبر نقطة تحول خطيرة في الحركة الشيوعية في الهند”[22].
ويضيف: “قد تشرد باسم الحزب الشيوعي ودخل السجن وكان عضوا بارزا في حزب المؤتمر الهندي حتى سنة 1934م حين انشق عنه وتزعم لجنة كيرالا للحزب الشيوعي سنة 1939م وهذا هو الاسم الحقيقي للحزب الشيوعي في كيرالا الآن، ودفع ما ورثه من أبيه للحزب”[23].
والآن هنا نماذج من رحلته إلى اليابان من نفس الكتاب. تحدث عن هذه البلاد في كتابه الممتع “حول العالم في 200 يوم” في ثمان وثمانين صفحة تحت العناوين المختلفة كالأقزام العمالقة، بنات الجيشا، نزلت أمطار الخريف، بلد الرجال أيضا، سأموت من شدة الأدب، عندهم كل شيئ، ليس غبيا ولا شعبها أقزام، زوجتي من اليابان.
كما يبدو أن اليابان بتفوقها في ميدان الصناعة والتكنالوجية جذب انتباه الكاتب وأثار اهتمامه بقوة شديدة، لأنه قد ذكر هذه البلاد في كتبه المختلفة غير هذا الكتاب “حول العالم في 200 يوم” وحرض أنيس منصور الناس على التأسي لأهل البلاد (اليابان) أنهم كيف أصبحوا ناجحين وفائزين بعد ما واجهوا الدمار والخراب في الحرب العالمية الثانية، لأننا كما نرى أن الولايات المتحدة قد هجمت هجوما نوويا على هيروشيما وناجازاكي فقتلت القنابل فيها حوالي 220000 شخص، فيقول:
“وإذا سافرت إلى ناجازاكي أو هيروشيما فلن تصدق عينيك، فكل شيئ جديد، العمارات والمحال والشوارع حتى الناس، قد ولدوا وتربّوا وكبروا وتعلموا في أماكن أخرى وعادوا إلى الحياة من جديد، هذه اليابان كلها هدمت، أحرقت في الحرب الماضية ولكن اليوم كل شيئ جديد، كل شيئ صنعه اليابان بأيديهم وأموالهم وبذكائهم وذوقهم وهم أصحاب ذوق جميل”[24].
كما يظهر من دراسة رحلته العميقة إلى اليابان أنه معجب أشد الإعجاب بالتقدم الباهر للصناعة اليابانية، وهناك كثير من الأمور التي تلفت انتباهه، خاصة مهارة اليابانيين في المجالات المختلفة كتطورهم في التكنولوجيا والاستفادة من البلدان الأخرى في هذا الصدد مثل أمريكا والصين وألمانيا، ثم صياغتهم وإعادة بناء كثير من المستحدثات والمخترعات الأجنبية وتكييفها من حيث الظروف والمتطلبات وتغييرها إلى الأحسن والأفضل. هذا وفي جانب آخر يبدو قد جذب انتباه الأستاذ زراعة اللؤلؤ في اليابان، لأنه قد خصص صفحات عديدة لبيان مسيرة وتاريخ اللؤلؤ المزروع، بيّن فيها التاريخ والظروف التي مر بها أول زارع اللؤلؤ في تاريخ الإنسانية المعلوم، فيقول:
“ولكن رجلا واحدا في إحدى قرى اليابان هو الذي فكر وهو الذي صمم وهو الذي نجح، وقبله لم يعرف أحد ولم يحاول، ولم يكن هذا الرجل أصلا صيادا ولا من المشتغلين بتجارة اللؤلؤ، ولكنه يعمل في دكان والده في قرية اسمها “توبا” وهي تبعد عن 13 ساعة عن مدينة طوكيو، هذا الطفل اسمه “ميكوموتو”. وقد اشتغل ميكوموتو بصيد السمك واشتغل أيضا بصيد السمك واشتغل أيضا بالغوص وصيد اللؤلؤ”[25].
جرب ميكوموتو عدة تجارب حتى فاز بعد جهد متواصل، وكان ذلك في 28 من شهر سبتمبر سنة 1859م، وظهر في العالم أول لؤلؤ من صنع الإنسان، وكانت هذه هي بداية اللؤلؤ المزروع، وكان ميكوموتو هو أول إنسان اخترع اللؤلؤ المزروع، ولكنه قد فقد كل شيئ في هذا السبيل حتى اتهم بالجنون، فمن هذه الحكاية يخبرنا أنيس منصور أنه ليس شيئ مستحيلا لأنه كما يقال: “من جدّ وجد” وكل إنسان يتمتع بقدرات مخفية وصلاحيات كافية ويقدر على تقديم المعجزات ففي رحلات أنيس منصور نجد هذه القيم المهمة والتشجيعات، فالإنسان لا يخرج صفر اليدين، بل الدروس والعبر تكون له حافزة على الأمل و قائدة نحو الكمال، فأنيس منصور في جميع رحلاته يتحدث عن الاجتماع والاقتصاد والثقافة والديانة وفي يده كاميرا لا يترك صغيرا ولا كبيرا إلا يدركه ويسجل كل مايأتي في دائرة كاميراه من طقوس وتقاليد وكل ما يختلج في صدره من خواطر وانطباعات، فسجل أنيس منصور في حديثه عن اليابان كل ما يثير اهتمامه ولكن الشيئ الذي ركز على تسجيله خاصة هو تفوق اليابانيين في مجالات الصناعات والتكنالوجية المختلفة.
في أول وهلة يبدو من دراسة أنيس منصور حول اليابان أنها متسمة بالتناقض، ولكن هي ليست من قبيل التناقض كما نرى. والسبب فيها الأفكار المتغيرة والأنوار المتحولة، فنفس الشيئ والتناقض نجده في حديثه عن الهند أيضا. فعندما حل أنيس منصور بأرض كيرالا كان انطباعه الأول أن مدينة كيرالا لم ترق حتى الآن، ولكن بعد مكثه فيها تغير رأيه وأثنى على مناظرها الطبيعية، وكذلك حسّن تقاليد كيرالا أيضا كما ترى هو يعترف نفسه بهذا التغير بعض الأحيان، مثلا هو يقول في بداية الكلام عن اليابان:
“الحقيقة لم تبصرني طوكيو، وأحسست بكثير جدا من خيبة الأمل وحسدت اليابانيين على براعتهم في الدعاية لبلادهم، بلاد الشمس المشرقة، ويظهر أن الشمس تشرق هنا فوق السحاب فقط”[26].
ولكن بعد زيارته لمدينة طوكيو تغير رأيه فقال: “لا تزال طوكيو أجمل مدينة رأيتها ليلا في اليابان حتى الآن، فالشوارع تصبح خيوطا من اللؤلؤ، والإعلانات هنا باهرة، لها أشكال وألوان عجيبة جدا، والمحلات تبدأ عملها من الساعة التاسعة صباحا حتى الخامسة مساء، وبعضها يبقى حتى التاسعة والعاشرة ومنتصف الليل، وشوارع طوكيو لا تبهرك في النهار، فهي شوارع من الممكن أن تجد لها مثيلا في أي بلد، ولكن لن تجد مدينة في ضخامة طوكيو في أي مكان، وتدهش عندما تجد الشوارع ممتلئة ولكن بصورة عادية، وقلة الزحام سببها أن المدينة كبيرة وأن الناس يعملون ليلا ونهارا”[27].
نرى أنيس منصور يعترف بتغير أفكاره وخواطره في كتابه فيقول: “كل يوم تتغير فكرتي عن هذه البلاد، كنت أتصور أن اليابان بلاد صغيرة يسكنها شعب ضئيل الحجم، يأكل في أطباق صغيرة وملاعق صغيرة ويقعد على الأرض ويمشي في زحام شديد كأنه موج البحر، وكأنني العملاق جليفر في بلاد الأقزام، ولكني وجدت اليابان ليست صغيرة، فعدد سكانها 100 مليون وليسوا جميعا من الأقزام، فمنهم أناس طويل القامة، بيض الوجوه جدا، وليس كل شيئ صغيرا عندهم، ففي طوكيو أعلى برج في العالم، أعلى من برج إيفل بباريس، فاليابان ليست صغيرة وإنما هي عملاق يخطو إلى الوراء، فتظن أنه يتراجع ولكنه في الحقيقة يتحفز ليقفز إلى الأمام”[28].
في تلك الرحلة إلى اليابان يحدث أنيس منصور عن التقاليد الدينية في اليابان فيقول: “وفي اليابان يعبد الناس الشمس والجبال، والناس هنا يقدسون الجبال والبحار، وهكذا هؤلاء اليابانيون كانوا يعبدون الإمبراطور، وكان لقب الإمبراطور هو ابن السماء، والديانة اليابانية واسمها “الشنتويه” تقوم على تقديس الشمس وتقديس ابن الشمس وتقديس رغباته وتقديس كل حاكم وكل أب وكل جد وكل ما هو قديم، ولذلك كان الإمبراطور إلها، فكانت رغبات الإمبراطور فرضا مقدسا، وقد اعتمدت الحكومات اليابانية على هذا الدين وسخرت الشعب الياباني في خدمة أغراض الإمبراطور”[29].
ولا ينسى أنيس منصور أن يتحدث عن الأوضاع الثقافية في اليابان لأن الكاتب وجد اليابان فوق ما كان يتصور فيبين في كتابه عن هذه الأوضاع: “وليس في اليابان جاهل واحد، والتعليم إجباري حتى آخر المرحلة الثانوية”[30]. وقارن بين مصر واليابان في الوضع الثقافي فقال:
“وكنت أتصور أن السويد هي أرقى بلاد العالم ولكن الأرقام تقول: إن بها %1 لا يقرأون ولا يكتبون. تصور! واليابان في مقدمة شعوب آسيا وفي مقدمة شعوب العالم كلها، وكثيرون جدا جدا من خريجي وخريجات الجامعات، يكنسون الأرض ويمسحون البلاط، وعندنا في مصر %50 أميون”[31]. ويقول: “ولو رأيت أهل اليابان ورأيت رقتهم وأدبهم ودقتهم وإخلاصهم في العمل وتفوقهم في كل شيئ لاندهشت، كيف كانوا وحوشا في الحرب الماضية والتي قبلها”[32].
أشار أنيس منصور إلى الملاحظة الهامة في هذه الرحلة، هي التي لا توجد في مجتمعنا، لأن في مجتمعنا على سبيل المثال لو أن أحدا طبيب فهو لا يعمل أي عمل آخر وعلى هذا. “ولكن في اليابان لا يرى اليابانيون من الضروري أن الطبيب يعمل طبيبا ولا دارس القانون محاميا ولا المهندس مهندسا، وإنما هو يدرس ما يعجبه أو ما يستريح له وبعد ذلك يبحث عن أي عمل”[33].
تحدث أنيس منصور عن أكل اليابانيين وشربهم وهكذا تحدث عن تقاليدهم ومعتقداتهم فيقول: “اليابانيون يشربون الشأي الأخضر بلا سكر، وصناعة الفناجين والأطباق والصواني وأثاث البيت الياباني بسيط أنيق جميل. كل غرفة لها لون ولها ستائر ومخدات لامعة، وكل ذلك فن جميل، عندهم محلات كثيرة جدا أنيقة جدا، وعندهم معابد كثيرة جدا، وعندهم كباريهات أكثر من أي بلد في العالم. لقد رأيت في مدينة كيوتو وهي المدينة المقدسة في اليابان عددا من الكباريهات أكثر من الموجودة في باريس أو في هامبورج أو مانيلا، وكل هذه هي مظاهر الحيوية في الشعب الياباني”[34].
يقول حيث إنه أثنى على اليابان ثناءا جيدا: “أنت لم تر أجمل ما في آسيا إذا لم تذهب إلى اليابان. أنت لا تقدر معنى الذوق الجميل في اللبس والنوم، في البيت وفي الشارع إذا لم تذهب إلى اليابان. أنت لا يمكن أن تتصور كيف أن شعبا محتلّا يستطيع أن يصنع المعجزات ويتحول من تجار أسماك إلى تجار قطارات وسفن وراديوهات إذا لم تذهب إلى اليابان. أنا لم أعرف أن طفولتي كانت تعيسة وأنها كانت كطفولة الدجاج في الحارة أو الكلاب الضالة إلا عندما ذهبت إلى اليابان، فقد رأيت أسعد طفولة رأيت أطفالا في ملابس رجال ورأيت رجالا في سعادة الأطفال”[35].
لو سأل أحد بعد مطالعة الكتاب “حول العالم في 200 يوم” أنه كيف يمدنا هذا الكتاب وكيف تمدنا رحلة أنيس منصور بالقيمة المعرفية والناحية الفنية، فيمكن أن نقول: إن هناك مئات من الملاحظات والمعلومات التي تخبرنا لمختلف جوانب الحياة الهندية من ثقافة وسياسة واجتماع ونعرف عن الأوضاع الديمقراطية في الهند والخلاف السياسي حول الحدود الهندية والصينية وأزمة التبت ولجوء دلائي لاما والصراع السياسي بين الأحزاب السياسية الهندية المختلفة، كما نعرف خلال دراسة الكتاب عن المكتبات والصحف والوضع الثقافي العام وصورة المرأة الهندية والنظام الطبقي وتقاليد الشعب الهندي المتعددة في اللباس والزواج وحتى في الأكل والشرب والعبادة والأعياد وغيرها، وكذلك نعرف عن بعض الشخصيات الهندية وغير الهندية المعاصرة إلى جانب ذلك. يزودنا الكتاب بمعلومات عن البان والدوتي والساري والتندوري ووجبات جنوب الهند وطريقة احتفال المسلمين الهنود بعيد محرم وثقافة المرأة ومشاركتها في المجالات السياسية والاجتماعية. أما من الناحية الفنية فالكتاب مليئ بالأساطير والأخبار والقصص والنوادر وكلها معروضة بأسلوب ممتع رائع ولغة حلوة. وخير مثال على ذلك ما وصفه عندما زار مدينة مسوري بدهرادون فيقول:
“لأول مرة أشم هواءا نقيا، ولأول مرة أملأ صدري، واليوم فقط أشم هواءا حقيقيا، هواء لا تمتصه أجهزة التكييف من الشوارع، هواء ليس نفاية الناس، ولا فضلة خيرهم، النافذة مفتوحة أمامي، الطبيعة كلها رائقة جميلة مغسولة، المطر جعلها مصونة مكنونة في ورق سلوفان، أو كأنها تغطت بالحرير الهندي الشفاف، كل شيئ له لون ثابت صادق لا يتغير، كل شيئ صدق، لا سياسة، لا أديان، لا لغات، لا جنسيات، كل شيئ يحولك إلى شاعر، ويجعل لك ألف رئة وألف أذن، ويغريك بأن تمد يدك تلمس ما تراه كأنه قطعة من الحلوى وتشعر أنك أمام مائدة ضخمة وأنك وحدك في صدر المائدة، وأنك الداعي وأنك المدعو، وأنك صاحب البيت والضيف، وتبدأ الشمس تتحسس طريقها وراء السحاب، والسحاب هو رغوة الصابون التي غسلت بها الملائكة السماء والأرض”[36].
ففي الأخير يمكن أن نقول: إن أنيس منصور قد عالج كل موضوع يخوض فيه معالجة جادة سواء كانت علاقته بالظروف الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الصراع بين أتباع الديانات الأخرى، فمما لا شك فيه أن القارئ يشعر بسحر وأسر عند قرأة الكتاب لأن أسلوب أنيس منصور الناصع الذي يجمع بين لذة الجد ولذعة الهزل واختلاب الأساطير ومتعة الحقائق.
رحلات أنيس منصور طويلة ومتعددة، طاف معظم بلاد العالم ورأى وشاهد، وليس المهم ما رأى وما شاهد ولكن المهم هو طريقة تسجيله لما رأى وسمع، وهو في كل ما شاهد وسمع لم يسجل صورا فوتوغرافية لما قابله ولكنه عكس كل ذلك يروح الفنان، امتص كل ما رآه وأخرجه في ثوب جديد، وبأسلوب رشيق جذاب. ويمكننا أن نقول مجملا: إن أعمال أنيس منصور كلها تأتي تحت عنوان السياحة فهو إما أن يأخذك إلى بلاد العالم وما فيها من طرائف وعجائب، وإما أن يأخذك إلى رحلات فكرية متحدة مع الأفكار الجديدة والآراء الجديدة، كما نرى أنيس منصور عندما يكتب في النقد يقوم بنوع آخر من السياحة داخل النفس البشرية عندما تنطلق معبرة عما يجيش فيها من أفكار ومعان، وكما يقول مأمون غريب حول أسلوب أنيس منصور في كتابه “أنيس منصور: حياته وأدبه”: “وليس هناك ما هو أمتع من السياحة الفكرية وخاصة عندما تصاغ في قالب سهل ممتع، ليس فيه صناعة ولا تكلف، إنما يتحدث إليك في بساطة ويمتعك فنيا ببساطة أيضا”[37]. ومعه كاميراه المجهز بالفطنة الثاقبة والثقافة الواسعة العميقة واللغة الحلوة، كل صورة يلتقطها تتحول إلى لوحة جميلة منسقة الألوان منسجمة الأضواء والظلال، يتجول القارئ معه وهو جالس أو مستريح أو مستلق على سريرة أوربا وآسيا وأفريقيا وأمريكا ويتعرف على أنماط من الناس من كتاب وشعراء وزعماء وساسة ومفكرين وألوان من الآثار والمعالم الحضارية والثقافية الحديثة والقديمة وأفانين من الطقوس والتقاليد والخرافات والأساطير، فهو تارة في شوارع روسيا والهند والصين واليابان، وتارة في مجاهل كونغو واليمن والجزائر، يجد إذا كان جادا ويبتسم إذا ابتسم ويقهقه إذا قهقه، هو معه دائما في حله وترحاله، كما يقول محمود فوزي:
“أبسط ما يمكن أن يقال عن رحلات أنيس منصور إنه يأخذك في عربة صغيرة، أشبه بتلك التي اخترعها هـ. ج. ويلز (آلة الزمن) التي يستطيع من خلالها أن ينتقل عبرالزمان، الماضي والحاضر والمستقبل وينقلك في لحظة بين صقيع القطب الشمالي وحرارة خط الاستواء بين سمراوات جزيرة تاهيتي وبين مجاهل الكونغو، بين روائع الأدب وخداع السياسة، بين الأسطورة والحقيقة، كل ذلك في كوكتيل فني عجيب”[38].
دراسة “أعجب الرحلات في التاريخ”
أدب الرحلات يعد من أكثر ألوان الفنون الأدبية إثارة ومتعة، ولقد أعطى الله أنيس منصور فرصة أن يرحل إلى بلاد كثيرة ويسجل مشاهداته وخواطره عما رآه وعما مر به من تجارب خصبة ثرية في تلك الجولات بأسلوب صادق شيق. وقد احتل أنيس منصور مكانة خاصة متميزة في أدب الرحلات بحيث عُدّ من أعلامه وكبار رواده المعاصرين. ولما كان أنيس منصور أحد كبار الرحالة المعاصرين أو السندباد العصري فقد أراد أن يسجل تجارب الذين سبقوه في هذا المجال، فكان كتابه “أعجب الرحلات في التاريخ” تسجيلا ممتعا ومثيرا لتلك الرحلات الجريئة التي قام بها رواد الرحلات في التاريخ القديم والمعاصر شرقا وغربا في العالم.
بعض النقاد يرى أن الكتاب “أعجب الرحلات في التاريخ” الذي وضعه أنيس منصور وظهرت طبعته الأولى سنة 1972م، كان يجب أن يبدأ به صاحبه عالم رحلاته قبل أن يغادر حدود بلاده ويسافر خارجها سنة 1961م، لأنه حصيلة قراءته بين جدران حجرته في مكتبة الرحلات، ولكن صاحبنا لم يفعل إلا مؤخرا. وهذا كله يشكل الظاهرة التي تثير الانتباه في هواية أنيس منصور للرحلات، فهو قد تنفسها وقام بها قبل أن يشير إليها، أو يعرف عنه هذا الحب في مؤلفاته المتتالية مثل “حول العالم في 200 يوم” و”اليمن ذلك المجهول” و”بلاد الله خلق الله” و”أطيب تحياتي من موسكو” وغيرها.
الهوامش
[1] نفس المصدر، ص 10
[2] نفس المصدر، ص 147
[3] نفس المصدر، ص 137
[4] موقع جريدة الشرق الأوسط، أنيس منصور، 10 نوفمبر 2005م، العدد 9844
[5] حول العالم في 200 يوم، ص 42
[6] نفس المصدر، ص 43
[7] نفس المصدر، ص 141
[8] نفس المصدر، ص 146
[9] نفس المصدر، ص 53
[10] نفس المصدر، ص 41
[11] نفس المصدر، ص 41
[12] نفس المصدر، ص 42
[13] نفس المصدر ، ص 45
[14] نفس المصدر، ص 45
[15] الدوتي وهي قطعة من القماش الطويلة جدا تلتف حول الجسم وأحيانا على شكل بنطلون يشبه اللباس الذي يرتديه أبناء البلد في الإسكندرية (نفس المصدر، ص 141)
[16] نفس المصدر ، ص 176-177
[17] نفس المصدر ، ص 87
[18] نفس المصدر، ص 87
[19] نفس المصدر، ص 111
[20] نفس المصدر ، ص 116
[21] نفس المصدر، ص 109
[22] نفس المصدر، ص 102
[23] نفس المصدر، ص 104
[24] نفس المصدر، ص 425
[25] نفس المصدر، ص 487
[26] نفس المصدر، ص 409
[27] نفس المصدر، ص 456
[28] نفس المصدر، ص 461 – 463
[29] نفس المصدر، ص 422
[30] نفس المصدر، ص 424
[31] نفس المصدر، ص 424
[32] نفس المصدر، ص 423
[33] نفس المصدر، ص 424
[34] نفس المصدر، ص 426
[35] نفس المصدر، ص 437
[36] نفس المصدر، ص 81
[37] أنيس منصور حياته وأدبه، مأمون غريب، ص 24
[38] أنيس منصور ذلك المجهول، محمود فوزي، ص 66