د. محمد حبیب
(الحلقة الثانية)
إنشاء المطبعة في شبه الجزيرة العربية
الأوضاع السياسية والثقافية في اليمن والحجاز وقت دخول المطابع
سبقت الإشارة إلى دخول ماكينات الطبع إلى أراضي البلاد العربية في الحلقة الأولى، وقد أتينا فيما سبق على ذكر دخول المطابع في الأراضي التركية وتأخر أسباب الطباعة العربية فيها وخاصة الطباعة الدينية خوفاً على الكتب الإسلامية من التحريف المؤدي إلى الخطأ في صدور الأحكام الشرعية بناء عليه، ومضت فترة زمنية طويلة تمتد على أكثر من قرنين على هذه الحالة حتى صدرت الفتاوى بجواز استخدام المطابع لطباعة الكتب العربية والإسلامية، بينما أصحاب الديانات الأخرى يتمتعون بطباعة كتبهم الدينية بناء على الحرية الدينية المخولة لهم من السلطات.
والقصد من وراء ذكر ذلك كله أن الحجاز واليمن كانتا تابعتين للدولة العثمانية، وكانتا ولايتين عثمانيتين في فترة ظهور الطباعة فيهما، فأراضي الحجاز كانت تحت سيطرة العثمانيين عليها وكانت هذه السيطرة ثابتة متواصلة دون انقطاع منذ حلولهم في الحجاز في عام 923هـ = 1517م.
وأما اليمن فتراوحت سيطرتهم عليه بين مد وجزر إلى أن تم لهم الاستيلاء عليه مرة ثانية عقب افتتاح قناة السويس في عام 1289هـ = 1872م، وذلك حينما رغبت الدولة العثمانية في نشر نفوذها في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية للحد من النفوذ البريطاني فيها، وتشير المصادر إلى أن افتتاح قناة السويس من الأمور التي شجّعت الدولة العثمانية على إعادة النظر في سياستها العربية لكي تقويّ نفوذها في الجزيرة العربية، فأرسلت قوات حربية يرأسها رؤوف باشا لضم اليمن إلى الدولة العثمانية، وكان وصول الجيش العثماني إلى صنعاء في السادس عشر من شهر صفر سنة 1289هـ الموافق 26 أبريل سنة 1872م([1]).
والأمر الثاني الذي يكون له الأثر في الطباعة وتوافر الكتب بعد السياسة والسيطرة والنفوذ الأوضاع الثقافية والفكرية، حيث إن الطباعة مرتبطة بهما ارتباطاً وثيقاً، فبحسب النشاط والقوة فيهما يكون نشاط الطباعة، وبحسب الانحطاط والتردي فيهما يحصل التدهور والهبوط في الطباعة، فإذا نظرنا إلى الحجاز نجد هناك حركة نشطة تمثّلت في وجود حلقات للدرس العلمي في المسجد الحرام، إضافة إلى المدارس النظامية الرسمية التي أسسها العثمانيون كالمدرسة الرشيدية، وبجانب ذلك نجد هناك مدارس وكتاتيب أهلية أسسها الأفراد، ونتيجة لهذا النشاط الثقافي والفكري ظهر في آفاق الحجاز في الفترة المحددة مجموعة من العلماء والأعلام الذين وضعوا مؤلفات في اللغة والدين والأدب، ونشروا بعضها في مناطق مجاورة، وعلى وجه الخصوص في مصر([2]).
وأما إذا نظرنا إلى الوضع الثقافي والفكري في اليمن فنرى أنه كان أقل درجة من الحجاز، وأن الوضع فيه كان متردياً بصفة عامة، وخاصة في أيام الأتراك فقد كانت المعارف والعلوم في غاية الانحطاط، ولعل السبب في ذلك كثرة الفتن، ومع ذلك فلم يبخل أراضي اليمن من إنتاج أعلام من العلماء الذين أسهموا بتأليفاتهم حول معارف شتى وعلوم متنوعة، وأقصد بالذكر العلماء الذين أدركوا الفترة التي نشأت فيها الطباعة([3]).
نشأة الطباعة وتطورها في اليمن
وإذا نظرنا إلى المصادر التي تذكر دخول الطباعة وظهورها في شبه الجزيرة العربية نجد أن تاريخ ظهور الطباعة في شبه الجزيرة العربية يعود إلى سبعينات القرن التاسع عشر الميلادي، فقد أسس العثمانيون مطبعة في صنعاء عقب استيلائهم على اليمن مرة ثانية في عام 1289هـ = 1872م.
ونجد المصادر متفقة على أسبقية ظهورها في هذا الجزء من شبه الجزيرة العربية بينما هي مختلفة اختلافاً واضحاً في تحديد تاريخ التأسيس. فتذكر بعض المصادر أن تأسيسها كان عام 1877م ربطاً هذا التاريخ بجريدة صنعاء التي ظهرت في العام نفسه.([4]).
كما تنص بعض المصادر على أن عام 1877م = 1294هـ هو العام الذي عرفت فيه اليمن بداية الطباعة استقلالاً من غير ربطها بجريدة صنعاء([5]).
ويقول صاحب كتاب تاريخ الطباعة في الشرق العربي كما يلي:
“على الرغم من تأخر هذه البلاد ثقافياً واجتماعياً فقد عرفت الطباعة منذ سنة 1877م، أي قبل أن تعرفها العربية السعودية بحوالي خمس سنوات، وقد أمر بإنشاء أول مطبعة السلطان عبدالحميد الثاني في مدينة صنعاء عاصمة البلاد”([6]).
ويشير إلى ذلك مؤلف الكتاب العربي مخطوطاً ومطبوعاً قائلاً:
“الأتراك هم الذين أدخلوا الطباعة إلى الجزيرة العربية، وأول قطر عربي في شبه الجزيرة تدخله الطباعة هو اليمن، وكانت متأخرة في جميع المرافق… وتكاد تكون الأمية تامة في البلاد، ومع ذلك أصدر السلطان عبدالحميد أوامره بتأسيس أول مطبعة في صنعاء سنة 1877م”. ([7])
والتاريخ السابق لظهور بداية الطباعة في اليمن إن قلنا بها استقلالاً من غير ربط بجريدة صنعاء فلا بأس، لكن الذي يبدو أن القائلين به أيضاً اعتمدوا على جعل هذا العام بداية للطباعة في اليمن على تأسيس جريدة صنعاء، وإن لم يظهروا به علناً.
وأما إن ربطنا تاريخ بداية الطباعة مع تأسيس جريدة صنعاء فهناك رأي آخر غير ما سبق، فقد خالف الرأي السابق عدد من الباحثين، وذهبوا إلى أن جريدة صنعاء تأسست في عام 1297هـ = 1879م([8]).
وفيما يلي ننقل آراء بعض الباحثين بهذا الصدد:
يقول صاحب كتاب “الصحافة العربية، نشأتها وتطورها”:
“أما في اليمن فلم تصدر قبل الحرب العالمية الأولى سوى صحيفة واحدة هي جريدة صنعاء التي صدرت عام 1879م…”([9]).
ويقول مؤلف موجز تاريخ الطباعة:
“أما في شبه الجزيرة العربية، فإن أول جريدة صدرت كانت جريدة صنعاء، وكان صدورها في عام 1297 هـ = 1879م”([10]).
وبجانب الرأيين السابقين يوجد رأى ثالث انفرد به مصدر واحد أرجع بداية ظهور جريدة صنعاء في عام 1292هـ = 1875م، ويبدو أن متبني هذا الرأي لم يقف على الأعداد الأولى من جريدة صنعاء. ([11])
وأما الباحثون العرب فذهب بعضهم -وأغلبهم من اليمنيين- إلى أن التاريخ الحقيقي لبداية ظهور الطباعة في اليمن هو العام الذي عاد فيه العثمانيون إلى اليمن مرة أخرى، أي عام 1872م = 1289هـ.
فيقول أحد الباحثين العرب الأستاذ علوي عبدالله طاهر في كتابه الصحافة اليمنية:
“أن الأتراك بعد جلائهم من اليمن عام 1918م تركوا خلفهم مطبعة كانوا قد أدخلوها إلى اليمن عام 1872م، وهي المطبعة التي كانت تسمى مطبعة الولاية”. ([12])
ويقول أحد الباحثين اليمنيين الأستاذ عبدالله يحيى الزين:
“أدخلت أول مطبعة سنة 1872م في بداية العهد العثماني الثاني للاستخدام الرسمي، وكانت أول مطبعة تنشأ في الجزيرة العربية، وكانت مطبعة صنعاء…” ([13]).
وقد ورد التوثيق لهذا التحديد لبداية ظهور الطباعة في اليمن في الموسوعة المسماة بالموسوعة اليمنية، فقد ورد فيها ما يلي:
“لم تعرف اليمن الصحافة المطبوعة إلا عام 1872م حين حمل الأتراك في غزوتهم الثانية لليمن مطبعة الولاية، وهي أول مطبعة تعرفها الجزيرة العربية”. ([14])
فالذي يترجح لدي من تلك الأراء هو الرأي الأخير وذلك لما يأتي:
- أن أصحاب تلك المقولة هم من سكان أراضيها أو المجاورين لها، ورب البيت أدرى بما فيه، وليس البعيد عن الشيء كالقريب منه، فكما يرجح قول الرجل في نسبته ونسبه على قول الآخرين فيه فكذلك ههنا.
- أن القائلين بالأراء الأخرى ربطوا ظهور المطبعة بظهور جريدة صنعاء، وليس من الضروري أن تظهر المطبعة بظهور الجريدة، بل يمكن أن تسبقها.
- ومما يدل على أنهم يربطون المطبعة بظهور الجريدة اختلافهم فيما بينهم في التواريخ التي صدرت فيها الجريدة. فهؤلاء مختلفون فيما بينهم اختلافاً متبايناً.
مطبعة صنعاء
كانت مطبعة صنعاء من المطابع التي قام بإنشائها وتأسيسها العثمانيون في اليمن، ويرجع الفضل في ذلك إلى السلطان عبدالحميد الثاني (1876- 1909م)، وقد عرفت هذه المطبعة بأسماء منها: مطبعة صنعاء ومطبعة الولاية، أو مطبعة ولاية اليمن.
وبالنظر في سالنامات اليمن وفي طريقة الإشارة إلى مسمى هذه المطبعة فيها يتبين عدم الاستقرار على مسمى واحد لها، فقد أشير إليها تحت مسمى مطبعة صنعاء في الأعداد (3، و 4، و 5، و 6، و 7، و 8،) بينما ذكرت بمسمى مطبعة ولاية اليمن في العددين الأول والثاني، وبمسمى مطبعة الولاية في العدد التاسع.
وتذكر المصادر أن المطبعة كانت متواضعة جداً من الناحية الفنية، يدل على ذلك البنط الطباعي الذي جاءت عليه سالنامة اليمن المنشورة عام1298هـ، فورقها خفيف الوزن يميل إلى الصفرة، لعله من أرخص أنواع الورق الذي كان يستخدم في تلك الفترة وما قبلها، وبمقارنته بورق الطباعة الذي طبعت عليه بعض الكتب في إستانبول في فترات سابقة مثل كتب متفرقة، أو مطبوعات البحرية، يلاحظ سوء نوعيته، كما أن طريقة الصف والبنط الطباعي يقدمان دليلاً على رداءة العمل الفني في هذه المطبعة، في حين أنه كان متقدماً في مناطق أخرى من الدولة العثمانية، حيث ظهرت كتب متقنة الصف، ذات أبناط طباعية جيدة، ووصفت هذه المطبعة بأنها “مطبعة هزيلة”، وأنها كانت “صغيرة يدوية، لا تطبع أكثر من صفحتين صغيرتين في حجم خمسين سنتيمتراً طولاً واثنين وثلاثين عرضاً، وحروف تجمع وترتب باليد عن طريق العمال”([15]).
وكانت المطبعة تضم عند تأسيسها جهازاً إدارياً وفنياً، يتكون من العثمانيين، يرأسهم حسين حسني أفندي، وكان عمل معه محمد لطفي أفندي كمسؤول مالي، وحسين أغا كمسؤول فني، ومحمد أفندي كمترجم، إضافة إلى خمسة من الفنيين الآخرين([16]).
كان ما سبق نبذة عن النشاط الإداري والفني لمطبعة صنعاء وهي ضئيلة كما ترى، أما نشاطها في مجال المواد المطبوعة فكان محدوداً جداً حيث كان مقتصراً على طباعة عناوين محددة جداً تصب في المجال الرسمي بالدرجة الأولى، وكان أول عمل صدر عنها في عام 1872م بعنوان: “يمن”، حسب ما تذكره المصادر العربية، وكان في صورة نشرة صغيرة، وكأن القصد من طبع تلك النشرة اطلاع العاملين في الإدارة العثمانية بولاية اليمن من عسكريين ومدنيين على أراضي اليمن وقطاعها ومدنها حيث إنها كانت موجهة لهم على وجه الخصوص([17]).
وكانت مطبعة صنعاء تعدُّ في البداية صحيفة الولاية، وكانت تصدر في أربع صفحات متوسطة الحجم من غير ذكر لمكان الصدور ولا لاسم مسؤول التحرير، وهي تعدُّ أول ثمرة من ثمار المطبعة اليدوية التي أدخلها العثمانيون إلى اليمن. واهتمت هذه الصحيفة (يمن) بنشر القوانين وأهم أخبار الآستانة العاصمة المركزية، كما اهتمت بالشؤون العسكرية وبنشر قرارات وتعليمات الولاة الأتراك، وكانت دون شك توزع بشكل محدود على أفراد الحاميات العثمانية والمسؤولين الإداريين، وقد صدر منها بعض أعداد ثم توقفت. وتشير بعض المصادر إلى أنها نشرة يمنية لكن باللغة التركية، وأنها كانت حكومية أصدرتها السلطات العثمانية عام 1872م في صنعاء([18]).
وأما المادة الثانية المطبوعة من حيث الترتيب الزمني في تاريخ الطباعة في شبه الجزيرة العربية فهي صحيفة صنعاء، وأرى من المناسب اختصار كلام أحد الباحثين العرب عن هذه الصحيفة فقد وصفها وصفاً دقيقاً يقول:
“ألقى السلطان عبدالحميد الثاني خطاباً من العرش السلطاني في مارس 1877م ربيع الأول سنة 1294هـ، أبدى فيه استعداده لإلغاء الرقابة على الصحافة وتشجيع نشوء الصحافة وحرية استمرارها، وأمر بإصدار صحيفة صنعاء كصحيفة رسمية لولاية اليمن أسوة بغيرها في الولايات. فظهرت صحيفة أسبوعية سنة 1297هـ الموافق 1878م، وكانت تصدر كل يوم ثلاثاء، وكانت أول صحيفة تصدر في شبه الجزيرة العربية بناء على رغبة السلطان عبدالحميد الثاني بهدف خدمة المصالح الحكومية.
وقد وضع على رأس الصفحة الأولى على الجانب الأيمن ما يأتي:
مدير المطبعة ومحررها شوقي أفندي. يلزم المراجعة لدائرة مكتوبي الولاية. بخصوص الاشتراك وأمور تحريرها في داخل الولاية، ثمنها عن سنة ثلاثة ريالات، وعن ستة أشهر ريال ونصف، وريال عن ثلاثة أشهر، قيمة النسخة الواحدة أربعة بارة. وتخرج يوم الثلاثاء من كل أسبوع. والأوراق التي تعطى من الخارج إن كانت تشتمل على المعارف والأدبيات العائد نفعها للعموم تُقبل مجاناً وتُطبع، والإعلانات يؤخذ عليها أجرة”([19]).
وما ذكره هذا الباحث من تحديد تاريخ إصدار الصحيفة يخالفه في ذلك غيره من الباحثين([20]) إلا أن ما ذكره هو أدق وأوفق في نظري.
وكانت هذه الصحيفة جريدة رسمية، يشرف عليها المتصرف العثماني وتنطق بلسان الدولة العثمانية، وتخدم أفكارها ومصالحها، وتطبع باللغتين: العربية والتركية في أربع صفحات كبيرة، ثم صدرت فيما بعد في ثماني صفحات صغيرة بحرف جلي أكثر إتقاناً، أما عبارتها فكانت ركيكة، تدل على قصر باع كتَّابها في صناعة الإنشاء، ثم تحسنت قليلاً في السنين الأخيرة([21]). وقد وصفها بدقة صاحب كتاب اليمن ووسائله الإعلامية قائلاً:
“وكانت تطبع في مطبعة الولاية باللغة التركية، وابتداء من العدد 248 صدرت باللغتين العربية والتركية وكان رئيس تحريرها وقت صدورها رجب أفندي، وفي بادئ الأمر ظهرت في أربع صفحات من حجم 46 في 31سم، ثم طبعت بعد ذلك في ثمان صفحات ذات قطع متوسط، وكانت تهتم بنشر القوانين والمراسيم التي تصدر في عاصمة الولاية تحت عنوان باب حوادث الولاية، وتشتمل أيضاً على التعيينات السامية، وتحركات كبار القادة، ثم باب التوجهات، وهي عبارة عن نشرة أخبار التعيينات والتنقلات والوظيفية… وباب محكمة استئناف الولاية، وفي هذا الباب تنشر قرارات المحاكم… وكانت توزع على الإدارات والمصالح والقوات المسلحة، ونظراً لما كان يعتمل في نفوس اليمنيين من نفور تجاه العثمانيين لم يكن يقرأ هذه الصحيفة غير الأتراك المتعاطفين، وكانت تعدّ أداة الدعاية العثمانية في اليمن.
وكان أسلوب هذه الصحيفة في بداية أمرها أسلوباً شائعاً ودارجاً، مما يبين عدم كفاية محرريها، وضعف قدراتهم، ولكن ما لبثت أن تحسن تحريرها وعرضها نوعاً ما… وابتداء من أوائل سنة 1302 هـ غيرت يوم صدورها إلى يوم الخميس بدلاً من الثلاثاء دون أي تغيير في سياسة الصحيفة المستمدة من الوالي، إلا أن أسلوبها تحسن نوعاً ما، يضاف إلى هذا أنها أصبحت تنشر بعض الأخبار الرياضية…”([22]).
وأما المطبوع الثالث فهو سالنامة اليمن، فقد ظهرت في عام 1881م = 1298هـ، وكانت بمثابة الكتاب السنوي الرسمي لولاية اليمن العثمانية. وطبع العدد الأول بطريقة بدائية على ورق أوروبي سيئ، وكتب على صفحة الغلاف ما يلي:
برنجي دفعه
يمن سالنامه سي
سنة هجرية
1298
محرري
صنعا غزته سي محرري وبدغجي أردوي
همايون تحريرات باش كاتبي
حميد وهبي.
تظهر المقدمة أن الهدف من ظهور السالنامة كان العمل على رقي اليمن وتقدمها، وجاء العدد الأول في 112 صفحة، إضافة إلى بعض الرسوم وخريطة واحدة. وكانت تهتم بنشر الأنباء والإحصاءات الخاصة بالحياة في الولاية. وكان توزيع السالنامة محدوداً جداً حتى في ولاية اليمن، فلم يكن يشمل سوى فئة محدودة من الأشخاص كالعسكريين والموظفين الأتراك في اليمن([23]).
ولم أقف –في المصادر التي عثرت عليها- على مطبوع آخر عربي صدر من هذه المطبعة غير الأعمال الثلاثة التي سبق ذكرها.
نشأة المطبعة في الحجاز
يرجع تاريخ إنشاء المطبعة الثانية في شبه الجزيرة العربية إلى القرن التاسع عشر الميلادي، لم تختلف المصادر في تحديد تاريخ ظهور الطباعة في الحجاز كما اختلفت في تحديد ظهورها في اليمن، بل اتقفت جميع المصادر –العربية منها والأجنبية- أن عام1300هـ هو العام الذي شهدت فيه مكة المكرمة تأسيس أول مطبعة فيها، ويقابل ذلك ميلادياً 1882م أو 1883م، والاختلاف في تحديد التاريخ الميلادي عائدة إلى تقابل الهجري بالميلادي وفروق الأيام بينهما([24]).
المطبعة الميرية
كانت المطبعة الميرية من أول المطابع في الحجاز، وكانت من المطابع التي أسسها العثمانيون، ويعود الفضل في إنشائها إلى الوالي العثماني الوزير عثمان نوري باشا الذي كان معروفاً بمشاريعه الإصلاحية في الحجاز.
وقد لقيت هذه المطبعة اهتماماً وعناية من قبل الوالي، حيث بنى لها مقراً مستقلاً في مكة المكرمة، وكان موقعها –حسب ما تذكره بعض المصادر- خلف الحميدية التي كانت بمنزلة المركز الإداري لوالي الحجاز، كما يذكر البعض بأنها كانت تقع بجوار المالية سابقاً، كما حظيت المطبعة بإداريين وفنيين مهرة([25]).
واشتهرت هذه المطبعة باسم المطبعة الميرية، ويشار إليها بهذا الاسم في جميع الأعمال العربية التي طبعت فيها، كما أطلق عليها مسمى مطبعة ولاية الحجاز ومطبعة الولاية في السالنامات التي طبعت فيها، وكذلك المطبوعات التركية التي كانت تنشرها.
وكانت المطبعة في بادئ أمرها يدوية، ثم زودتها الحكومة التركية في عام 1352 هـ بآلة طباعة متوسطة من النوع المعروف في المطابع بالفرنساوي مقاس 82 في 57 سم، وبعد عدة سنوات استحضرت مكنة حجرية مقاس 50 في70. ثم جلبت لها ماكنة كبيرة وأدوات أخرى.([26])
ويظهر مما تذكره المصادر أن المطبعة عنيت بمزيد من الاهتمام في الأعوام اللاحقة، فقد ورد في العدد الثاني من سالنامة الحجاز حديث عن الوضع الفني الذي كانت عليه خلال السنوات الثلاث الأولى لقيامها، فذكر أنها كانت تضم آلة طبع وكمية من الحروف، واثنين من الموظفين. ونتيجة تراكم المؤلفات التي كانت ترسل إلى الخارج للطباعة، فقد زودت بآلة طبع ذات عجلة واحدة، أحضرت من فيينا مع كمية وافية من الحروف، وزودت بحروف ملائمة لطباعة الكتب الجاوية، كما طلب لها آلة طبع خاصة لطبع الرسائل المتنوعة المشكلة، ودرب أبناء البلد خلال هذه المدة القصيرة على تعلم صف الحروف وتجليد الكتب([27]).
كان ما سبق نبذة عن المطبعة الميرية من الناحية الفنية والإدارية، وأما من ناحية المواد المطبوعة فقد اتخذت منذ بداية ظهورها توجهاً نحو طباعة الكتب باللغات العربية والتركية الجاوية (الملاوية)، وكان الوضع الثقافي في مكة نشطاً في تلك الفترة الأمر الذي ساعد على هذا التوجه.
ومما يدل على نشاط هذه المطبعة ما ورد على ظهر الغلاف الأخير من سالنامة الحجاز لعام 1301هـ من إعلان عن الكتب المنشورة، كما يدل على أن نشر تلك الكتب واكب ظهور هذه المطبعة في عام 1300هـ، إذ أشير في هذا الإعلان إلى ستة عناوين نشرتها المطبعة، مما يدل على ظهورها قبل نشر السالنامة.
ثم ارتفع عدد المطبوعات في السنوات التالية، فقد وصل العدد إلى 33 كتاباً عربياً، و12 كتاباً جاوياً ، كما جاء في إعلان ورد على الصفحات 202، و 203، و 204 من سالنامة الحجاز لعام 1303 هـ، شمل العناوين التي وردت في سالنامة الحجاز لعام 1301 هـ، وعناوين جديدة ظهرت عقب ذلك، وفيما يلي أسماء تلك الكتب:
- فيض الرحمن في المعاني والبيان.
- فتح البرية شرح نظم الآجرومية.
- الفواكة الجنية في النحو.
- جواهر القرآن.
- شرح المولد للبرزنجي.
ومن الكتب الجاوية الملاوية:
- فروع المسائل في الفتوى على المذهب الشافعي.
- الدر النفيس في التصوف.
- الدر الثمين في أصول الدين.
- كشف الغمة في ذكر الموت وأحوال الآخرة.
إضافة إلى العددين الأول والثاني من سالنامة ولاية الحجاز، وكان الأول بالتركية، والثاني بالتركية والعربية([28]).
ومما طبع في السنوات التالية:
- حاشية على تحفة المحتاج، لعبد الحميد الشرواني، عام 1304هـ.
- حاشية القليوبي على شرح الجلال المحلي على المنهاج المسمى بكنز الراغبين، لشهاب الدين أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي، عام 1305هـ.
- الفتوحات المكية، لمحي الدين أبي بكر محمد بن علي بن عربي، في عام 1306هـ.
- ديوان ابن المقرب العيوني، عام 1307هـ.
- رسالة في أذكار الحج المأثورة وآداب السفر والزيارة، لمحمد سعيد بابصيل، عام 1310 هـ.
- خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام من زمن النبي عليه السلام، إلى وقتنا هذا باهتمام، لأحمد زيني دحلان، عام 1311هـ.
- الخريدة البهية في إعراب ألفاظ الآجرومية، لعبد الله بن عثمان العجيمي المكي، عام 1313هـ.
- العقد الثمين في فضلى البلد الأمين، لأحمد الحضراوي، عام 314 ا هـ.
- رسالة القول المتناسق في حكم الصلاة خلف الفاسق، لأحمد عمر بركات الشامي، عام 1316 هـ([29]).
وكانت طباعة الكتب في المطبعة من الناحية الفنية لا تختلف كثيراً عن الطباعة في مطبعة بولاق على وجه الخصوص، وإن كان هناك اتجاه واضح نحو طباعة مجموعة كتب في مجلد واحد، بحيث يأتي أهمها متناً وتأتي البقية على الهوامش. كما أن المطبعة الميرية استخدمت ورقاً جيداً مقارنة بالورق المستخدم في مطبعة صنعاء، فقد كان رديئاً جداً كما سبق ذكره، إضافة إلى ذلك كانت الحروف في هذه المطبعة أكثر دقة واعتناء في طباعتها بالناحية الفنية، ومن خلال الاهتمام بإضفاء جوانب جمالية على بعض المطبوعات.
كما تميزت مطبوعات المطبعة الميرية باحتوائها على حشد من المعلومات المدونة على الغلاف تستغرق أحياناً الصفحة بأكملها، ولا يُعد منهجها هذا نشازاً عما كان سائداً في المطابع العربية الأخرى في مصر على وجه الخصوص، وفيما يلي أستعرض صورة توضيحية لما كانت عليه أغلفة بعض ما نشرته هذه المطبعة، وأخص من بين تلك المطبوعات كتاب: الدرر البهية لأبي بكر بن محمد شطا، فقد وزعت المعلومات المتعلقة به على ثماني مساحات، اشتملت المساحة الأولى على خمسة أسطر، خاصة بالعنوان واسم المؤلف وجاءت كما يلي:
هذه الرسالة المسماة بالدرر البهية فيما يلزم
المكلف من العلوم الشرعية جمع الراجي
العفو من ربه ذي العطا أبي بكر بن
محمد شطا يغفر اللّه له وللمسلمين
آمين، بجاه الأمين
وعلى المساحة الثانية نجد سطراً واحداً احتوى على ما يأتي:
ولبعضهم قائلاً في هذه الرسالة، بلغه اللّه مقاصده بصاحب الرسالة.
وعلى الثالثة ثلاثة أبيات من الشعر وردت كما يلي:
إن رمت تحظى بالعلوم وتعتبر
لاسيما الشرعي منها المفتخر
فعليك بالدرر البهية إنها
تغني اللبيب إذا تفكر واعتبر
فاغن بها عن غيرها تنل العلا
وتحوز فضلاً ليس تحوية الفكر
واحتوت المساحة الرابعة سطراً واحداً كتب عليه رقم الطبعة، وهي الثالثة.
وعقبها مساحة خامسة بيضاء.
وعلى المساحة السادسة دوِّن في سطر واحد ما يأتي:
“طبع في المطبعة الميرية الكائنة بمكة المحمية”.
ثم مساحة سابعة بيضاء.
ثم مساحة ثامنة. مدوِّن عليها تاريخ الطباعة، وهو عام 1311هـ.
وهكذا الحال لبقية المطبوعات فقد توزعت المعلومات في صفحة العنوان الخاصة لبعضها في خمس مساحات، وبعضها في سبع مساحات([30]).
ومن الأعمال البارزة التي صدرت من المطبعة الميرية سالنامة الحجاز، أو التقويم السنوي لولاية الحجاز –حسب التعبير العربي، لاحتوائها على معلومات تخص الدولة العثمانية على وجه العموم، وولاية الحجاز على وجه الخصوص، وكانت هذه السالنامات تشتمل على معلومات أساسية عن ولاية الحجاز، ولها أهمية خاصة في التاريخ لهذه المنطقة في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن الرابع عشر الهجري([31]).
وقد صدر من هذا التقويم أو السالنامة خمسة أعداد، وهي ما يلي:
- العدد الأول في 1301، وجاء في 182 صفحة.
- العدد الثاني في عام 1303هـ، وجاء في 204صفحات بالتركية العثمانية و192 صفحة باللغة العربية في مجلد واحد.
- العدد الثالث في عام 1305هـ، وجاء من 252 صفحة.
- العدد الرابع عام 1306 هـ في 306 صفحات،
- العدد الخامس وهو الأخير في عام 1309 هـ، وجاء في 309 صفحات([32]).
يتبين لنا مما تقدمت من المعلومات أن مطبعة الميرية تفوق كثيراً عن مطبعة صنعاء، بل لا أكون مبالغاً إن قلت إنه لا نسبة بينهما فإحداهما في قمة من الطباعة في وقتها بينما الأخرى لقيت اهمالا شديداً من مسؤوليها، ولعل الأوضاع السياسية والفكرية والثقافية لعبت دوراً هاماً في ذلك.
([1]) الدولة العثمانية وغربي الجزيرة العربية بعد افتتاح قناة السويس، لنبيل عبد الحيء رضوان، (1983م) ص97-98.
([2]) إقليم الحجاز وعوامل نهضته الحديثة، لإبراهيم فوزان الفوزان، (1981م) ص280. سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر للهجرة، لعمر عبد الجار،(1982م) ص67.
([3]) تاريخ اليمن المسمى فرجة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن،(1982م) ص29. مصادر الفكر العربي الإسلامي في اليمن، لعبد الله محمد الحبشي، ص32، 33، 459.
([4]) نشأة الصحافة في المملكة لعبد الرحمن الشامخ، 1982م. ص43.
([6]) تاريخ الطباعة في الشرق العربي، لخليل صابات، الطبعة الثانية، 1956م، ص327.
([7]) الكتاب العربي مخطوطاً ومطبوعاً…، لمحمد ماهر حمادة،(1984م) ، ص286.
([8]) موجز تاريخ الصحافة في المملكة العربية السعودية لمحمد بن ناصر بن عباس، (1971م) ص25. من تاريخنا لمحمد سعيد العامودي، الطبعة الثالثة، (1981م)، ص215. الصحافة العربية نشأتها وتطورها، سجل حافل لتاريخ فن الصحافة العربية قديماً وحديثاً، لأديب مروة،(1961م) ، ص219.
([9]) الصحافة العربية، نشأتها وتطورها… لأديب مروة ، ص219.
([10]) موجز تاريخ الصحافة في المملكة العربية السعودية، لمحمد بن ناصر بن عباس، ص 25.
([11]) الفهرس الموحد للصحف والمجلات المطبوعة بالحروف العربية في مكتبات إستانبول 1828 – 1928م، إعداد: منظمة المؤتمر الإسلامي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة والإسلامية، إستانبول، 1406هـ. ص347.
([12]) الصحافة اليمنية قبل ثورة 26 سبتمبر 1962م، لعلوي عبد الله طاهر، بحث نشر في مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، الكويت، (1985م) ص13.
([13]) اليمن ووسائله الإعلامية 1289-1394 هـ = 1872- 1974م، لعبد الله يحيى الزين، (1985م) ص23.
([14]) الموسوعة اليمنية، (1992م)، ج2 ص560.
([15]) الصحافة اليمنية، لعلوي عبد الله طاهر، ص13. اليمن ووسائله الإعلامية، لعبد الله يحيى الزين، ص23. الطباعة في شبه الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي، للأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد الساعاتي، (المطبوع ضمن بحوث ندوة تاريخ الطباعة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي) ص252-253.
([16]) اليمن ووسائله الإعلامية، لعبد الله يحيى الزين، ص23. الطباعة في شبه الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي، للأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد الساعاتي، ص253.
([17]) الصحافة اليمنية، لعلوي عبد الله طاهر، ص13. الموسوعة اليمنية ج2 ص560.
([18]) الموسوعة اليمنية ج2 ص560. اليمن ووسائله الإعلامية، لعبد الله يحيى الزين، ص25-27.
([19]) اليمن ووسائله الإعلامية، لعبد الله يحيى الزين، ص27-29.
([20]) الموسوعة اليمنية ج2 ص560.
([21]) الصحافة العربية، نشأتها وتطورها… لأديب مروة ، ص219.
([22]) اليمن ووسائله الإعلامية، لعبد الله يحيى الزين، ص29-31.
([23]) اليمن ووسائله الإعلامية، لعبد الله يحيى الزين، ص35-37. الطباعة في شبه الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي، للساعاتي، ص261.
([24]) نشأة الصحافة في المملكة العربية السعودية، للشامخ، ص12. الكتاب العربي مخطوطاً ومطبوعاً، لمحمد ماهر حمادة، ص287.
([25]) الطباعة في شبه الجزيرة العربية، للأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد الساعاتي، ص254. كتاب التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم، محمد طاهر كردي، (1992م) ج5 ص398.
([26]) الطباعة في شبه الجزيرة العربية، للأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد الساعاتي، ص254. نشأة الصحافة في المملكة، لعبد الرحمن الشامخ ص12.
([27]) الطباعة في شبه الجزيرة العربية للأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد الساعاتي، ص254. ونشأة الصحافة لعبد الرحمن الشامخ ، ص12.
([28]) حجاز ولايتي سالنامة سي، حجاز ولايتي مطبعة سي، مكة المكرمة، 1303هـ، ص202، 203، 204. الطباعة في شبه الجزيرة العربية للساعاتي، ص264.
([29]) الطباعة في شبه الجزيرة العربية، للساعاتي، ص264-265.
([30]) الطباعة في شبه الجزيرة العربية، للساعاتي، ص266، وما بعدها.
([31]) ظهور الطباعة في بلاد الحرمين الشريفين لعبد الرحمن الشامخ، (1978م) ص42.
([32]) سالنامة الحجاز 1301- 1309ه لسهيل صابان، مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية، ج1، ع1 (1416هـ) ص194.