Main Menu Top Menu

زكريا تامر ككاتب ساخر: البنية الساخرة في مقالاته وقصصه القصيرة

عبد القادر

باحث الدكتوراه بقسم اللغة العربية والفارسية

جامعة كولكاتا، كولكاتا، الهند

المقدمة: يعد زكريا تامر واحدًا من أبرز الأصوات الأدبية في سوريا والعالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، إذ استطاع من خلال قصصه القصيرة ومقالاته الصحفية أن يرسخ لنفسه مكانة متميزة بين الأدباء العرب. وإذا كان اسمه مرتبطًا أساسًا بفن القصة القصيرة، فإن الجانب الساخر في أدبه لا يقل أهمية عن الجانب الفني أو الواقعي فيه، فقد شكّلت السخرية عنده أداة فنية ووسيلة نقدية في آن واحد، وظّفها لمساءلة الواقع السياسي والاجتماعي وكشف تناقضاته الحادة.

إن السخرية في أدب زكريا تامر ليست مجرد وسيلة لإضحاك القارئ أو الترويح عنه، وإنما هي في جوهرها موقف فكري مقاوم، يسعى إلى فضح القهر السياسي والاجتماعي وإبراز الازدواجية التي تحكم سلوك الإنسان العربي في ظل الاستبداد. فهي سخرية تنبع من الألم أكثر مما تنبع من الرغبة في التسلية، وتعكس رؤية الكاتب النقدية للواقع وللسلطة وللقيم التقليدية التي تُكبّل حرية الإنسان.

وتكتسب دراسة السخرية في أدب زكريا تامر أهمية خاصة لعدة أسباب؛ أولها أنّها تكشف عن البنية العميقة لخطابه الأدبي الذي يقوم على المفارقة والتهكم والرمزية اللاذعة، وثانيها أنّها تتيح فهمًا أوسع لطبيعة العلاقة بين الأدب والسلطة في العالم العربي الحديث، وثالثها أنّها تسهم في إبراز دور الأدب الساخر كأداة مقاومة ثقافية وفكرية. وبالنظر إلى غزارة إنتاجه، تتوزع السخرية في كتابات تامر بين مقالاته الصحفية التي نشرها في صحف عربية مختلفة مثل القدس العربي والحياة، وبين مجموعاته القصصية التي من أبرزها: النمور في اليوم العاشر، ربيع في الرماد، دمشق الحرائق، وتكسير ركب. وفي كل هذه الأعمال، تتجلى السخرية بوصفها بنية متكاملة لها آلياتها الفنية وأهدافها الفكرية.

من هنا، يهدف هذا البحث إلى دراسة البنية الساخرة في مقالات زكريا تامر وقصصه القصيرة، من خلال الوقوف عند مفهوم السخرية الأدبية أولًا، ثم تحليل تجلياتها في أعماله المختلفة، واستكشاف أدواتها الفنية وأثرها في بناء خطاب نقدي قادر على مساءلة الواقع ومقاومة الاستبداد.

الكلمات الرئيسة: زكريا تامر، السخرية، الأبعاد الأدبية.

مفهوم السخرية وأبعادها الأدبية

تعريف السخرية لغةً واصطلاحًا: تعد السخرية من المفاهيم المتجذرة في الفكر الإنساني منذ العصور الأولى، وهي كلمة تحمل في طياتها معاني متعددة تتراوح بين التهكم والاستهزاء والانتقاد اللاذع.

في اللغة العربية: جاء في لسان العرب أن السخرية تعني “الاستهزاء والاحتقار، والسخْرية هي أن يظهر المرء خلاف ما يبطن ليضحك من غيره”. فهي مرتبطة بفعل محمّل بمعنى الازدراء والانتقاص.

في الاصطلاح النقدي الحديث: السخرية أسلوب فني يستخدم للتعبير عن التناقضات والاختلالات في الواقع عبر آليات لغوية وأسلوبية مثل المفارقة، التهكم، التلاعب الدلالي، والمبالغة. وهي تختلف عن الفكاهة، إذ إنّ غايتها ليست الضحك فحسب بل النقد والإصلاح وكشف عيوب المجتمع والسلطة. إذن، يمكن القول إن السخرية هي لغة مزدوجة تظهر شيئًا وتخفي آخر، فهي تقدّم خطابًا ساخرًا يهدف إلى مساءلة الواقع من خلال قناع التهكم والمرح.

السخرية في التراث العربي: عرف الأدب العربي منذ القديم حضورًا بارزًا للسخرية، فقد استخدمها الشعراء والأدباء كوسيلة للتعبير عن مواقفهم النقدية في الشعر الجاهلي، نجد الهجاء الذي يقوم على السخرية من الخصوم عبر تقليل شأنهم أو تضخيم عيوبهم.

في العصر العباسي، برزت السخرية بشكل واضح في كتابات الجاحظ الذي قدّم نقدًا اجتماعيًا وفكريًا عميقًا في قالب طريف وتهكمي، وفي قصائد أبو نواس التي كسرت القوالب التقليدية وسخرت من قيم المجتمع المحافظ.

أما أبو حيان التوحيدي فقدّم في كتاباته نزعة ساخرة عميقة تمزج بين الحكمة والمرارة، حيث كان يسخر من النفاق الاجتماعي والسياسي. إذن فالسخرية ليست دخيلة على الأدب العربي، بل هي جزء أصيل من بنيته الفنية والفكرية.

السخرية في الأدب العالم: لم تقتصر السخرية على الثقافة العربية، بل برزت في آداب العالم كأداة قوية للنقد الاجتماعي والسياسي في الأدب الغربي، نجد سويفت في كتابه رحلات غوليفر استخدم السخرية لفضح فساد السلطة والنفاق الاجتماعي.

كما نجد فولتير في روايته كانديد سخِر من الفلسفات المتفائلة ومن مظاهر التعصب الديني. وفي الأدب الروسي، أبدع غوغول في رسم شخصيات كاريكاتورية ساخرة تفضح البيروقراطية والفساد. وهكذا، فإن السخرية أدب إنساني عالمي، يشترك فيه الأدباء باختلاف لغاتهم وثقافاتهم، لأنها تعكس حاجة الإنسان المستمرة إلى مقاومة الظلم وفضح التناقضات.

أبعاد السخرية ووظائفها الأدبية: للسخرية عدة أبعاد تجعلها أداة بالغة الأهمية في الأدب

 البعد النقدي: إذ تُستخدم لتعرية الواقع وكشف فساده السياسي والاجتماعي.

 البعد الإصلاحي: فهي تسعى إلى إحداث وعي لدى القارئ يدفعه إلى التغيير.

 البعد الجمالي: حيث تمنح النص بعدًا فنيًا خاصًا يجمع بين المتعة والتفكير.

 البعد النفسي: فهي وسيلة لتخفيف وطأة القهر والواقع المرير عبر تحويله إلى مادة للضحك الممزوج بالأسى. وبذلك يمكن القول إن السخرية ليست مجرد أداة تزيينية، وإنما هي استراتيجية خطابية وجمالية ذات أهداف عميقة تتجاوز حدود التسلية إلى آفاق التغيير والنقد والمقاومة.

زكريا تامر والكتابة الساخرة

خلفية زكريا تامر الاجتماعية والفكرية: وُلد زكريا تامر في دمشق عام 1931 في بيئة شعبية بسيطة، حيث نشأ في أحد أحياء دمشق القديمة وعمل في صغره حدادًا قبل أن يتفرغ للكتابة. هذه النشأة الشعبية منحته تماسًا مباشرًا مع واقع الناس البسطاء، ومعاناتهم اليومية، وقسوة الفقر والتفاوت الطبقي. ومن هنا تبلورت رؤيته النقدية للمجتمع، حيث اتخذ موقفًا منحازًا للفقراء والمهمشين في وجه السلطة والطبقات المترفة.

وقد عاش تامر خلال مراحل حافلة بالاضطرابات السياسية في سوريا والعالم العربي: من الاستعمار الفرنسي، إلى الانقلابات العسكرية، إلى صعود أنظمة استبدادية. هذه التحولات العاصفة خلقت لديه حساسية عالية تجاه الظلم والقمع، فانطلقت كتاباته من واقع متوتر يبحث عن الحرية والعدالة.

دوافعه لاستخدام السخرية: لم يكن خيار تامر في استخدام السخرية مجرد ترف فني، بل كان ضرورة فرضها الواقع السياسي والاجتماعي. فهو أدرك أن الخطاب المباشر في ظل الاستبداد قد يؤدي إلى القمع والرقابة، بينما السخرية تتيح له أن يقول ما لا يُقال، وأن يُلبس الحقيقة ثوب المفارقة والرمز، فيمرر رسائله للقراء بذكاء وجرأة.

كما أن السخرية وسيلة لإثارة القارئ وإشراكه في عملية التفكير. فالقارئ أمام النص الساخر لا يكتفي بالضحك، بل يُضطر إلى تأويل المعنى الكامن خلف السخرية، وهذا ما يجعل النص أكثر تأثيرًا وفاعلية.

السياق السياسي وأثره في أسلوبه: يعد السياق السياسي من أبرز العوامل التي شكّلت أسلوب تامر الساخر. فقد عاش تحت أنظمة قمعية جعلت من الكتابة الساخرة ملاذًا للتعبير عن الغضب والاحتجاج. لذلك نجد في قصصه ومقالاته نقدًا لاذعًا للاستبداد، وتصويرًا كاريكاتوريًا للحاكم والموظف والبيروقراطي، بحيث تتحول السلطة إلى مادة للتهكم والفضح.

إن القمع والرقابة دفعاه إلى تطوير لغة رمزية عالية الكثافة، إذ تحولت شخصياته إلى نماذج رمزية: الحاكم المستبد، المواطن المقهور، البيروقراطي المتسلط… وكلها تُجسّد البنية العميقة للمجتمع العربي في ظل القهر.

ملامح أسلوبه الساخر: يتسم أسلوب زكريا تامر الساخر بعدة سمات فنية بارزة

اللغة المكثفة: يستخدم جملًا قصيرة ومباشرة تحمل معاني مزدوجة

 المفارقة: إذ يضع القارئ أمام مواقف تبدو منطقية في ظاهرها لكنها تكشف عبثية الواقع.

 التهكم اللاذع: يسخر من السلطة والمجتمع من خلال صور كاريكاتورية.

 الرمزية: يجعل من الحيوان أحيانًا شخصية أساسية (كما في النمور في اليوم العاشر)، ليسقطها على الواقع السياسي. المزج بين المأساة والضحك: حيث يجعل القارئ يضحك وفي الوقت نفسه يشعر بالمرارة.

موقع السخرية في مشروعه الأدبي: تحتل السخرية قلب المشروع الأدبي لزكريا تامر؛ فهي ليست هامشًا على النص بل بنيته العميقة التي تكشف عن وعي الكاتب برسالته. فهو يرى أن الأدب أداة مقاومة وليست مجرد ترف جمالي، لذلك جاءت كتاباته مزيجًا من الغضب والسخرية والاحتجاج.

ويمكن القول إن السخرية عند تامر ليست خيارًا شكليًا، بل هي روح نصوصه وجوهر رؤيته للعالم، فهي الأداة التي مكّنته من صياغة خطاب نقدي جريء في مواجهة القهر السياسي والاجتماعي.

البنية الساخرة في مقالات زكريا تامر

مقالات زكريا تامر بين الأدب والصحافة: لم يقتصر نتاج زكريا تامر على القصة القصيرة، بل كان له حضور واسع في مجال المقالة الصحفية، حيث نشر مقالاته في صحف ومجلات عربية مثل الحياة والقدس العربي. وهذه المقالات تميزت بأنها ليست تقارير صحفية تقليدية، بل نصوص أدبية ساخرة تحمل بصمة القاص والفنان.

في مقالاته، نجد مزيجًا بين لغة الأدب ولغة الصحافة؛ فهو يكتب بلغة سهلة قريبة من القارئ، لكنه يحمّلها معاني عميقة وإيحاءات ساخرة. هذه الخصوصية جعلت مقالاته أقرب إلى “قصص قصيرة مصغّرة” تحمل موقفًا فكريًا ونقديًا مباشرًا.

 موضوعات مقالاته الساخرة: تنوّعت موضوعات مقالات تامر، لكنها اتسمت دومًا بالنقد اللاذع للواقع العربي:

 السياسة والاستبداد: ينتقد الحاكم المستبد والأنظمة القمعية بأسلوب ساخر يفضح تناقضاتها.

 المجتمع: يسخر من التقاليد الجامدة، والنفاق الاجتماعي، وظواهر التسلط داخل الأسرة.

 الثقافة: ينتقد المثقفين المتواطئين مع السلطة أو أولئك المنعزلين عن قضايا الناس.

 الحياة اليومية: يلتقط تفاصيل بسيطة من الواقع ليكشف عبثيتها وسخريتها.

الأساليب الساخرة في المقالات: استخدم زكريا تامر عدة أساليب جعلت من مقالاته نصوصًا ساخرة بامتياز:

المفارقة: حيث يبدأ المقال بطرح يبدو منطقيًا ثم يقلبه ليكشف عن مفارقة ساخرة.

التضخيم والمبالغة: يضخم عيوب السلطة أو المجتمع حتى تتحول إلى كاريكاتور.

التصوير الكاريكاتوري: يرسم صورًا مبالغًا فيها للحاكم أو البيروقراطي فتبدو مثيرة للسخرية.

المقارنة الساخرة: يقارن بين وعود السلطة وواقع الناس ليكشف التناقض.

اللغة التهكمية: يستخدم جملًا قصيرة حادة تحمل استهزاءً لاذعًا.

 أمثلة تحليلية من مقالاته: في بعض مقالاته، يصوّر الحاكم العربي على أنه طفل مدلل يلهو بمصائر شعبه، وهذه صورة ساخرة تكشف infantilization للسلطة. في مقالات أخرى، يسخر من المواطن الخائف الذي يرضى بالذل، فيقول بصورة تهكمية إن هذا المواطن “يبحث عن قفص يليق بكرامته”.

كما يسخر من الخطابات السياسية الرنانة التي تُكرّر الشعارات دون أن تغيّر شيئًا، فيجعلها تبدو أشبه بـ”أغانٍ مملة تعاد بلا لحن”.

أثر المقالات الساخرة في المتلقي: تتميّز مقالات تامر بقدرتها على إشراك القارئ في عملية النقد؛ فهو لا يقدّم نقدًا مباشرًا بل يترك القارئ يكتشف المعنى الساخر. فالقارئ يضحك من المشهد المصوَّر لكنه سرعان ما يدرك أنه يضحك على نفسه وواقعه. وهذه الثنائية هي سر قوة مقالاته، إذ تجعل السخرية وسيلة للتأمل والوعي.

كما أنّ مقالاته الساخرة كانت وسيلة لتجاوز الرقابة؛ فهي تقول الحقيقة عبر قناع التهكم، بحيث تمرّ رسائلها بين السطور دون أن تمنع بالضرورة، لكنها تصل إلى القارئ بوضوح.

البنية الساخرة في قصص زكريا تامر القصيرة

خصوصية القصة القصيرة عند زكريا تامر: يعد زكريا تامر من أبرز رواد القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث، حتى لقّب بـ”سيّد القصة القصيرة السورية”. قصصه تتسم بالتركيز الشديد، واللغة المكثفة، والشخصيات الرمزية، والبنية الساخرة التي تجعل من النصوص أشبه بمرآة مشوهة تكشف حقيقة الواقع. ولأن القصة القصيرة فن يقوم على الإيجاز، فقد وجد تامر فيها مجالًا مثاليًا لتكثيف السخرية عبر مشاهد قصيرة لكنها عميقة الدلالة.

السخرية من السلطة والبيروقراطية: من أبرز ملامح السخرية في قصصه هجومه اللاذع على السلطة وأجهزتها:

في مجموعته النمور في اليوم العاشر، تتحول النمور إلى رمز للمواطنين الذين يتم ترويضهم وقمعهم حتى يفقدوا أنيابهم ومخالبهم. هذه الصورة الساخرة تكشف عبثية الاستبداد الذي يحوّل الكائن الحر إلى دمية طيّعة.

في قصص أخرى، يظهر الموظف البيروقراطي بصورة كاريكاتورية: متغطرس، غبي، لا يعرف سوى الطاعة العمياء للأوامر. وهكذا يسخر تامر من آلة القمع التي تُفرغ السلطة من إنسانيتها.

السخرية من القيم الاجتماعية التقليدية: لا تقتصر سخريته على السياسة، بل تمتد إلى المجتمع وقيمه التقليدية: يسخر من التسلط الأبوي، حيث يظهر الأب في قصصه كرمز للقمع داخل الأسرة، يمارس سلطته المطلقة بلا منطق.

يسخر من النفاق الاجتماعي، إذ يظهر الشخصيات وهي تقول شيئًا وتفعل نقيضه. يسخر من العادات الجامدة التي تقيّد حرية المرأة وتحوّلها إلى كائن خاضع.

السخرية من العنف والاستبداد: تتخذ السخرية عند تامر بُعدًا مأساويًا عندما يتناول موضوع العنف في قصصه، نرى الجلاد يمارس سلطته ببرود، والضحايا يواجهون الموت بصمت، لكن المشهد يُعرض في قالب تهكمي يجعل القارئ يشعر بعبثية المأساة. أحيانًا يصوَّر العنف وكأنه لعبة أطفال، مما يعكس قسوة الواقع بطريقة ساخرة تُثير القلق أكثر من الحزن.

آليات السخرية في قصصه القصيرة: تظهر السخرية في قصصه عبر أدوات فنية متنوّعة، منها

 الرمز الحيواني: كما في “النمور في اليوم العاشر” حيث يختبئ النقد السياسي خلف رمزية الحيوان.

 المفارقة الدرامية: حيث يعرف القارئ أكثر مما تعرف الشخصيات، فيدرك عبثية الموقف.

 التضخيم الكاريكاتوري: تضخيم صفات الحاكم أو البيروقراطي حتى يبدو كدمية مثيرة للسخرية.

 اللغة الساخرة المكثفة: جُمَل قصيرة لكنها محمّلة بالتهكم.

 الجمع بين المأساة والضحك: إذ يتحوّل الضحك إلى وسيلة لمواجهة الألم.

نماذج تحليلية من قصصه: في قصة “النمور في اليوم العاشر”، تتحوّل عملية ترويض النمور إلى صورة ساخرة عن استسلام الشعوب للاستبداد، حيث يقبل الحيوان بالقيد طوعًا بعد تكرار التعذيب.

في قصة “الربيع والخريف”، يسخر من الأحلام الثورية التي تنتهي إلى الخيبة، حيث يتبدّد الأمل في التغيير ويستمر القمع. في قصة “دمشق الحرائق”، يرسم صورة تهكمية لمدينة تُدمّر يوميا لكن أهلها يواصلون حياتهم وكأن شيئًا لم يكن، فيسخر من اعتياد الناس على العنف.

أثر السخرية في تشكيل القصة عند تامر: إن السخرية ليست مجرد عنصر جانبي في قصص تامر، بل هي قلب بنيتها. فهي التي تمنح القصة طابعها الكثيف، وتحوّل المأساة إلى مشهد تهكمي يثير القارئ ويدفعه إلى التفكير. وهكذا تتحول القصة القصيرة عنده إلى ساحة مواجهة بين الضحك والألم، بين السخرية والاحتجاج.

أدوات السخرية الفنية عند زكريا تامر

المفارقة (Irony)

المفارقة هي الأداة الأبرز في أدب زكريا تامر، حيث يظهر شيئًا ويقصد نقيضه. فهو يعرض مشاهد تبدو مألوفة لكنها تنطوي على عبثية خفية. في قصصه، نرى المواطن يشكر جلاده لأنه “يحميه”، وهذه مفارقة تكشف مدى تشويه الوعي تحت الاستبداد. المفارقة عنده ليست لغوية فقط، بل درامية وسردية، تجعل القارئ يعيش التناقض بين الظاهر والباطن.

الكاريكاتور

يلجأ تامر إلى تضخيم الصفات وتحويل الشخصيات إلى صور كاريكاتورية ساخرة: الحاكم المستبد يظهر كطفل مدلل يعبث بمصائر الناس. الموظف البيروقراطي يبدو كآلة بلا عقل، لا يعرف سوى تنفيذ الأوامر. بهذا الأسلوب، تتحوّل الشخصيات إلى رموز عبثية تُضحك القارئ وتثير غضبه في آن واحد.

التهكم (Satire)

التهكم عند تامر يتجلّى في استخدامه لأسلوب لاذع يخفي وراءه نقدًا مريرًا: يسخر من الشعارات السياسية الفارغة، فيجعلها تبدو أشبه بأغانٍ مكررة بلا معنى. يسخر من المواطن الخاضع الذي يتلذذ بقيوده وكأنها وسام شرف. وهذا التهكم يعرّي الواقع ويكشف هشاشته دون الحاجة إلى خطاب مباشر.

الرمزية

اعتمد تامر على الرمز كأداة مركزية للسخرية، خصوصًا في مواجهة الرقابة.

الحيوانات: مثل “النمور” التي ترمز إلى الشعوب المستعبدة، أو “الطيور” التي ترمز إلى الحرية المفقودة.

الأمكنة: تتحول المدن (دمشق مثلًا) إلى رموز لاحتراق مستمر أو عبث دائم.

الأشياء: القفص، السجن، المرآة… كلها أدوات رمزية تكثّف الدلالة الساخرة.

التلاعب بالصور البلاغية

يستخدم تامر الاستعارة والتشبيه بشكل ساخر يشبّه الحاكم بـ”طفلٍ يلهو بجنوده كما يلهو الطفل بجنوده البلاستيكية”. يشبّه المواطن بالخروف الذي يسعى إلى الذبح بنفسه هذه الصور البلاغية الساخرة تفضح الواقع وتحوّله إلى لوحة تهكمية

المزج بين المأساة والضحك

من أهم أدواته الجمع بين الضحك والألم، بحيث يشعر القارئ أنه يضحك وفي الوقت نفسه يتألم. فالمشهد المضحك يحمل في داخله مأساة مبكية. وهذا المزج يضاعف من تأثير النص، لأنه يُحوّل الضحك إلى أداة وعي واحتجاج.

اللغة المكثفة والإيجاز

السخرية عند تامر تحتاج إلى لغة حادة وسريعة، لذلك يلجأ إلى جُمَل قصيرة ومكثفة. لغته بسيطة لكنها مشحونة بالدلالات. الإيجاز يجعل السخرية أكثر وقعًا على القارئ، لأنها تأتي مفاجئة وصادمة.

أثر السخرية في تشكيل خطاب زكريا تامر

السخرية كأداة لمقاومة السلطة

من أبرز آثار السخرية في خطاب زكريا تامر أنها جعلت من نصوصه سلاحًا في وجه السلطة. فبدلًا من المواجهة المباشرة، التي قد تُعرّض الكاتب للملاحقة أو القمع، لجأ إلى السخرية التي تسمح بفضح الاستبداد من وراء قناع التهكم.

الحاكم يظهر في قصصه ككائن عبثي فاقد للمنطق، يتسلّى بالدماء كما يتسلّى الطفل باللعب.

هذه الصورة الساخرة تُحطّم هالة القداسة حول السلطة، وتجعلها أقرب إلى دمية كاريكاتورية.

السخرية كوسيلة للتواصل مع القارئ

من خلال السخرية، استطاع تامر أن يقيم علاقة خاصة مع قارئه؛ فهو لا يُلقي عليه خطابًا مباشرًا، بل يجعله شريكًا في عملية اكتشاف المعنى. القارئ يضحك أولًا، ثم يدرك أنه يضحك على نفسه وواقعه.

بهذا الأسلوب، تتحوّل القراءة إلى تجربة مزدوجة: متعة جمالية وتأمل نقدي. كما أن السخرية جعلت نصوصه أكثر قربًا من القارئ العادي، لأنها تخاطب حسه الفطري بالعدالة والحرية.

السخرية وكسر الرتابة الأدبية

ساهمت السخرية في تجديد الخطاب الأدبي عند زكريا تامر؛ فهي لم تقتصر على النقد، بل شكّلت أسلوبًا فنيًا جديدًا يمزج بين القصة والفكاهة السوداء. كسرت رتابة السرد التقليدي القائم على الوصف الواقعي المباشر. منحت نصوصه طابعًا عصريًا يتناسب مع روح القصة القصيرة الحديثة التي تقوم على الإيجاز والمفارقة.

السخرية كأداة لتجاوز الرقابة

في ظل الرقابة السياسية، كانت السخرية وسيلة ذكية للتعبير. فالرموز والمفارقات أتاحت له أن يقول ما لا يُقال علنًا. عندما يكتب عن “النمور التي تفقد أنيابها”، فإن القارئ يفهم أنه يتحدث عن الشعوب المقموعة، بينما الرقيب قد لا يجد سببًا واضحًا لمنع النص. وهكذا، صارت السخرية وسيلة للبقاء والاستمرار في الكتابة ضمن بيئة خانقة.

السخرية وإنتاج خطاب احتجاجي

أنتجت السخرية عند تامر خطابًا احتجاجيًا مميزًا، إذ جمعت بين البساطة والعمق.

البساطة: لأنها تصل إلى القارئ مباشرة من خلال صور واضحة وساخرة.

العمق: لأنها تكشف عن رؤية فلسفية للعالم، ترى في الاستبداد قدرًا يمكن كسره بالسخرية والوعي.

استقبال القراء والنقاد

أحدثت كتاباته الساخرة تفاعلًا واسعًا لدى القراء والنقاد: القراء وجدوا فيها متنفسًا يعبّر عن غضبهم المكبوت. النقاد رأوا في سخريته مدرسة خاصة تمزج بين القصة القصيرة والفكاهة السوداء. بعضهم قارنها بكتابات غوغول وسويفت وفولتير من حيث القدرة على استخدام السخرية كأداة مقاومة.

أثر السخرية في خلود أدبه

إن السخرية التي تميز بها زكريا تامر جعلت أدبه خالدًا، لأنها تجاوزت اللحظة السياسية لتصبح تعبيرًا عن مأساة إنسانية عامة. فالاستبداد والقمع ليسا ظاهرة محلية، بل هما معضلة إنسانية تتكرر في كل زمان ومكان. ولذلك فإن نصوصه الساخرة تُقرأ اليوم بالقدر نفسه من الحيوية والعمق كما قرئت عند صدورها.

الخاتمة: تُظهر دراسة السخرية في أدب زكريا تامر، سواء في مقالاته أو في قصصه القصيرة، أنّها ليست مجرد عنصر فني ثانوي، بل هي البنية العميقة التي يقوم عليها خطابه الأدبي والفكري. لقد استطاع تامر أن يحوّل السخرية من أداة للضحك أو التسلية إلى سلاح نقدي لاذع في مواجهة الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي. فهي سخرية تنبع من الألم وتعكس رفضًا عميقًا للواقع، وتطمح في الوقت نفسه إلى إيقاظ الوعي لدى القارئ وحثه على التغيير.

لقد تجلّت هذه السخرية في عدة مستويات:

في مقالاته الصحفية، قدّم صورًا تهكمية مباشرة للسلطة والمجتمع، مستخدمًا لغة بسيطة ومكثفة، ومفارقاته الذكية. في قصصه القصيرة، وظّف الرمزية والمفارقة والتهكم، فحوّل الحيوان والأشياء والشخصيات الكاريكاتورية إلى رموز نقدية تفضح عبثية الواقع.

في أدواته الفنية، اعتمد على المفارقة، والرمزية، واللغة المكثفة، والتهكم، مما جعل السخرية مكوّنًا جماليًا وأسلوبًا فلسفيًا في آن واحد.

كما أنّ السخرية عند تامر كانت وسيلة مزدوجة: فهي من جهةٍ طريقة لمقاومة الرقابة والتعبير عن الحقيقة في وجه السلطة، ومن جهة أخرى وسيلة لبناء خطاب احتجاجي يُشرك القارئ في عملية النقد والوعي.

ويمكن القول إنّ زكريا تامر أسّس لمدرسة خاصة في الأدب العربي الحديث، مدرسة تمزج بين الفكاهة السوداء والنقد الاجتماعي والسياسي، بحيث تحوّل المأساة إلى مادة للضحك المرّ، والضحك إلى وسيلة للوعي. وهذا ما يجعل أدبه حيًّا وفاعلًا حتى اليوم، ليس فقط لأنه وثّق تجربة الإنسان العربي تحت الاستبداد، بل لأنه قدّم رؤية إنسانية أوسع للسخرية كأداة مقاومة فكرية وجمالية.

إنّ دراسة “زكريا تامر ككاتب ساخر” تفتح آفاقًا جديدة للبحث في تداخل الأدب والسياسة، وفي دور السخرية بوصفها خطابًا احتجاجيًا يعيد صياغة العلاقة بين الكاتب والقارئ والسلطة. وربما تكمن قيمة هذه السخرية في أنها تذكّرنا دائمًا بأن الكلمة، حتى لو جاءت في صورة تهكم وضحك، قادرة على زعزعة أكثر الأنظمة استبدادًا، وعلى إبقاء الأمل حيًّا في وجدان الإنسان.

المراجع والمصادر

1 تامر، زكريا. النمور في اليوم العاشر. دمشق: وزارة الثقافة السورية، 1978.

2 تامر، زكريا. ربيع في الرماد. بيروت: دار الآداب، 1982.

3 تامر، زكريا. مقالات ساخرة. دمشق: دار الحوار، 1995.

4 صويلح، نبيل. زكريا تامر: فارس القصة القصيرة السورية. دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2000.

5 خضور، حسين. السخرية في الأدب السوري المعاصر. دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1996.

6 بركات، محمد. زكريا تامر والقصة القصيرة العربية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005.

7 أبو خليل، أحمد. “البنية السردية في قصص زكريا تامر.” مجلة الموقف الأدبي، العدد 420، دمشق، 2006.

8 عبود، مي. الخطاب الساخر في القصة العربية الحديثة. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010.

9 باختين، ميخائيل. رابليه وعالمه: الكرنفال والسخرية. ترجمة يوسف حلاق، دمشق: وزارة الثقافة السورية، 1990.

10 بيرغسون، هنري. الضحك. ترجمة سامي الدروبي، بيروت: دار الفكر، 1982.

11 جابر، عز الدين. فن السخرية في الأدب العربي الحديث. القاهرة: دار المعارف، 1998.

12 شحادة، نادر. “السخرية السياسية في مقالات زكريا تامر.” مجلة الآداب، بيروت، 2015.

13 ياغي، خالد. “المفارقة والرمزية في قصص زكريا تامر.” مجلة الثقافة العربية، طرابلس-ليبيا، 2018.

14 أبو حسين، منى. “زكريا تامر: بين السخرية والتمرد.” مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت،  2000م.