محمد كليم
الباحث لمركز الدراسات العربية والإفريقية
كلية دراسات اللغة والأدب والثقافة
جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي، الهند
ملخص البحث:
تشكل قضية اللجوء السوري واحدة من أبرز الأزمات الإنسانية في العصر الحديث، إذ خلفت الحرب الدائرة في سوريا منذ عام 2011 ملايين اللاجئين الذين تشتتوا في أصقاع الأرض، حالمين بالخلاص من الدمار والموت والاضطهاد، وحاملين في داخلهم مزيجًا من الحنين والانكسار. لم يكن اللجوء مجرد انتقال جغرافي قسري، بل تجربة وجودية معقدة تمسّ الهوية والانتماء والذاكرة. وقد حفزت هذه التجربة المريرة العديد من الكتّاب والروائيين السوريين على توثيقها سرديًا، متخذين من الرواية وسيلة لتأريخ المأساة، وتفكيك آثارها النفسية والاجتماعية والسياسية.
وفي هذا السياق، تأتي رواية “عمتِ صباحًا أيتها الحرب” للروائية السورية مها حسن كواحدة من أبرز النصوص الأدبية التي تناولت تجربة اللجوء السوري من منظور شخصي وإنساني عميق، حيث قدّمت الكاتبة سردًا متداخلًا بين الذاكرة والمكان والمنفى، يعكس واقع التمزق والشتات الذي عاشته الأسر السورية. تدور الرواية حول عائلة حلبية تتفكك بفعل الحرب، فتموت الأم أمينة تحت القصف، ويهاجر الأبناء إلى بلدان مختلفة، فيما يحاول بعضهم التمسك بجذور الوطن. عبر شخصيات متعددة مثل “مها”، “حسام”، و”لؤي”، ترسم الرواية لوحة مأساوية لمصير الإنسان السوري في زمن الحرب، موثّقة تشظّي الهوية والحنين الموجع للبيت والوطن.
ومن هذا المنطلق، جاءت هذه الدراسة لتسبر أغوار هذه الرواية بوصفها نموذجًا فنيًا وثقافيًا يرصد تجليات اللجوء السوري، حيث يسعى الباحث إلى تحليل كيفيات تمثيل اللجوء في النص السردي، واستكشاف الأبعاد النفسية والاجتماعية والرمزية التي ارتبطت بهذه التجربة. تعتمد الدراسة على قراءة تحليلية لرواية “عمت صباحًا أيتها الحرب”، تتبعت فيها الشخصيات، والبنية السردية، والدلالات الرمزية للبيت، والهوية، والذاكرة، والمنفى.
وقد خلصت الدراسة إلى أن اللجوء في الرواية ليس فقط انتقالًا قسريًا بسبب الحرب، بل هو حالة تشظي داخلي، وغربة مضاعفة، وفقدان للبوصلة النفسية والاجتماعية. كما أبرزت الرواية كيف تحوّل البيت من مجرد مكان للسكن إلى رمز للوطن والانتماء والدفء، وسقوطه يمثل انهيارًا داخليًا في الذات اللاجئة. وبيّنت الدراسة كيف أن الكاتبة جعلت من الكتابة نفسها شكلًا من أشكال اللجوء الداخلي والمقاومة الرمزية، تعبيرًا عن محاولة الإمساك بالذاكرة في عالم مهدد بالاندثار.
من خلال هذه القراءة، تؤكد الدراسة أن رواية “عمت صباحًا أيتها الحرب” تشكّل شهادة سردية إنسانية تعبّر عن تجربة اللجوء السوري، وتُعيد الاعتبار لصوت الفرد في خضم صخب الأحداث السياسية، كما تمنح القارئ مدخلًا لفهم الأثر العميق للحرب على الإنسان، ليس من خلال لغة الأرقام والإحصاءات، بل من خلال صوت الحنين، والألم، والتشظي، والمقاومة بالكتابة.
نبذة عن مها حسن
مها حسن، الروائية السورية التي ولدت في مدينة حلب عام 1968، نشأت في بيئة ثقافية كان لها تأثير كبير على مسارها الأدبي. تأثرت في صغرها بالقراءة والكتابة، مما دفعها إلى الكتابة منذ سن مبكرة. ورغم حبها للأدب، إلا أن مسيرتها الكتابية لم تكن سهلة، إذ واجهت صعوبات كبيرة في البداية. فقد تم رفض العديد من رواياتها من قبل دور النشر السورية والعربية، ولم تتمكن من نشر أول أعمالها إلا بعد سبع سنوات من الكتابة. هذه الفترة الطويلة من الرفض كانت بمثابة اختبار لإصرارها، حيث استمرت في متابعة شغفها بالكتابة رغم الصعوبات. في مرحلة لاحقة من حياتها، انتقلت إلى باريس، وهو ما شكل نقطة فارقة في مسيرتها الأدبية. هناك، وفي ظل بيئة جديدة، بدأت نشر العديد من أعمالها الروائية التي لاقت استحسانًا كبيرًا من النقاد والقراء. باريس كانت بمثابة موطن جديد لها، حيث وجدت فرصة لتطوير أسلوبها الأدبي واستكشاف موضوعات جديدة، مما أثر على كتاباتها وجعلها أكثر تنوعًا وعمقًا. وحازت مها حسن بجائزة هيلمان/هامت الأميركية في عام 2005، التي تنظمها منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقديرًا لإسهاماتها الأدبية والإنسانية. كما وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية مرتين، عن روايتيها “حبل سري” في عام 2011 و”الراويات” في عام 2015. إضافة إلى ذلك، كتبت رواية متسلسلة باللغة الفرنسية، مما يعكس قدرتها على الكتابة باللغتين العربية والفرنسية[1].
لقد كتبت مها حسن العديد من الروايات التي تناولت قضايا معاصرة، وكانت تبتعد عن التركيز على الرومانسية، مفضلة تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى. كانت أولى رواياتها “اللامتناهي – سيرة الآخر” التي نشرت عام 1995، حيث تناولت فيها العلاقات الإنسانية والبحث عن الهوية. ثم تلتها رواية “جدران الخيبة أعلى” عام 2002، التي استعرضت الصراع الداخلي للفرد في ظل الأزمات الاجتماعية. وفي عام 2009، نشرت “تراتيل العدم”، التي قدمت نصًا فلسفيًا معقدًا يعكس الأسئلة الوجودية والهوياتية. في عام 2010، كتبت رواية “حبل سري”، وهي أول رواية تكتبها بعد انتقالها إلى فرنسا، وتطرقت فيها إلى موضوعات الهجرة والانفصال. ثم نشرت “بنات البراري” في 2011، التي تعمقت في معاناة النساء في المجتمعات التقليدية. في عام 2012، كتبت “طبول الحب”، التي تناولت الصراعات الداخلية والأزمات الوجودية. كما نشرت في عام 2014 روايتي “الراويات” و”نفق الوجود”، اللتين تسلّطان الضوء على واقع الحرب في المنطقة. ومن أبرز أعمالها التي تتناول قضية اللجوء بسبب الحرب في سوريا “عمت صباحًا أيتها الحرب” (2017)، وهي رواية تعكس معاناة الشعب السوري في ظل الصراع المستمر ولجوءهم. وسيدور الحديث حول نفس الموضوع
ملخص الرواية
تبدأ الحكاية من أمينة، الأم التي رأت الحرب تدخل بيتها قبل أن تصل إلى مدينتها. كانت تؤمن أن البيت ليس مجرد جدران، بل ذاكرة العائلة وملجأ الأبناء. مع اشتداد القصف، أصبح الحي مهددًا، والجيران يرحلون واحدًا تلو الآخر، لكن أمينة رفضت المغادرة. قالت بحزم: كيف لي أن أترك بيتًا شهد طفولة أولادي؟ وحين جاء الصاروخ الأخير، لم يكن يستهدف فقط الجدران، بل استهدف ذاكرة المكان، فسقط البيت وسقطت أمينة معه، رافضة أن تنتمي إلى عالم بلا جذور. أما مها، ابنتها، فقد حملت ألم أمها في قلبها وتركته يسيل حبرًا على الورق. كانت تراقب المشهد من بعيد، متنقلة بين المنافي، تكتب عن الدمار وتبحث عن معنى لما يحدث. كانت تسأل نفسها: هل الكتابة كافية لتوثيق المأساة؟ لكنها لم تتوقف، لأن الكلمات كانت وسيلتها الوحيدة للعودة إلى مدينتها، إلى البيت الذي صار أنقاضًا، إلى الماضي الذي صار رمادًا. وعلى الجانب الأخر كان حسام يعيش رحلته الخاصة في السويد. ترك الوطن وراءه بحثًا عن حياة جديدة، لكنه اكتشف أن الحرب لم تتركه، بل تبعته إلى منفاه. كانت تصل إليه أخبار حلب عبر الهاتف، صور الدمار، أصوات الانفجارات في المكالمات الليلية. في شقته الصغيرة، وسط الثلوج، كان يحاول أن يبدأ من جديد، لكنه لم يستطع نسيان البيت الذي سقط وأمينة التي رحلت. كان يشعر بالغربة مرتين: مرة عن بلده، ومرة عن نفسه التي لم يعد يعرفها.
بينما كان حسام يعاني من غربة المكان، كان لؤي يعيش غربة الانتماء. قرر البقاء في سوريا، مؤمنًا أن الحرب ستنتهي وأن كل شيء سيعود كما كان. عندما سمع بسقوط بيت العائلة، لم يبكِ، بل قرر إعادة بنائه. كان يظن أن بإمكانه ترميم ما دمرته الحرب، لكن الطوب والإسمنت لم يكونا كافيين لترميم العلاقات التي تمزقت، ولا الأرواح التي رحلت. كان يرى في كل شارع وجهًا غائبًا، وفي كل جدار ندبة من الماضي.
في وسط هذا الخراب، كانت فرح ومرح، ابنتا لؤي، تعيشان طفولة مبتورة. لم تعرفا زمنًا بلا حرب، ولم تختبرا معنى الأمان. كبرتا وسط الدمار، بين أخبار الموت وصوت القذائف. لم تفهما لماذا أصبح البيت ذكرى، ولماذا كان على والدهما أن يقاتل الخراب بيدين عاريتين. كانت أعينهما تائهة، تبحث عن إجابة في وجوه الكبار، لكنها لم تجد إلا الصمت والحزن[2].
ملامح اللجوء السوري في روية” عمت صباحا أيتها الحرب”.
تتناول رواية عمت صباحًا أيتها الحرب للكاتبة السورية مها حسن اللجوء السوري من خلال سرد عائلي وحميمي يعكس أوجاع الحرب والشتات. وتحكي الرواية عن عائلة تعيش في حلب قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، ثم تتوالى الأحداث لتكشف عن التحولات الجذرية التي أصابت حياة أفرادها بسبب الحرب. في البداية، تُصوّر الرواية حياة عائلة مستقرة في حي سيف الدولة بحلب، حيث تمثل الأم أمينة القلب النابض للأسرة، فهي متعلقة بمنزلها بشدة وترفض مغادرته رغم تزايد القصف. تجسد أمينة التمسك بالجذور والانتماء العميق للمكان، لكنها في النهاية تلقى حتفها بعد أن دُمر البيت بصاروخ.
بعد هذه الفاجعة، يتشتت أفراد العائلة في عدة دول؛ فالبعض يهرب إلى تركيا، وآخرون يتجهون إلى أوروبا، بينما يقرر البعض البقاء في سوريا رغم الخطر. حسام، أحد أبناء أمينة، يهاجر إلى السويد بحثًا عن حياة جديدة لكنه يعاني من الغربة والحنين إلى الوطن. في المقابل، يختار لؤي، شقيقه، البقاء في حلب على أمل إعادة بناء البيت المدمر، لكنه يواجه واقعًا صعبًا في ظلّ انهيار المدينة وتغيّر الأوضاع السياسية. وتُبرز الرواية أيضًا التحولات العميقة التي طرأت على الهويّة السورية، حيث يجد أفراد الجيل الجديد، مثل فرح ومرح، أنفسهم عالقين بين ثقافات مختلفة، ما بين الوطن الذي لم يعرفوا الاستقرار فيه، والمنفى الذي لا يمنحهم الشعور بالانتماء الكامل.
فاتضح من خلال عرض ملخص الرواية أن رواية “عمتِ صباحاً أيتها الحرب“ للكاتبة السورية مها حسن من أبرز الأعمال الأدبية التي وثّقت مأساة السوريين في ظل الحرب واللجوء، حيث عالجت الكاتبة التجربة السورية من خلال شخصيات متباينة تتنقل بين الجغرافيا والذاكرة والانتماء، مقدّمة سرداً متشعباً يُحاكي واقعاً ممزقاً، ويعكس صورة الوطن المتشظي والمهاجر إلى منافي الأرض.
من خلال الرواية، تتجلى ملامح التشتت الأسري بصورة مؤلمة، إذ تفرق الحرب بين أفراد العائلة الواحدة، فيُقتل البعض تحت القصف، ويُجبر الآخرون على الهروب والانتقال إلى أماكن متفرقة. فالأم، التي تمثل الجذر والحنين والدفء، تُقتل في حلب، بينما يستقر أبناؤها في دول بعيدة مثل السويد وتركيا وفنلندا. هذا التشظي المكاني ليس مجرد واقع جغرافي، بل هو تمزق داخلي يتعمق في الوجدان، حيث يفقد الإنسان مرجعيته العائلية والاجتماعية ويعيش اغتراباً مركباً”بدأ الأمر ما يشبه اللعب”[3].
فتتجلى ملامح اللجوء السوري في رواية “عمتِ صباحًا أيتها الحرب” لمها حسن في مشاهد متداخلة ومتشابكة، تعكس التمزق الذي أحدثته الحرب في النفوس، والأرواح، والعلاقات، وتُجسد بشكل روائي عميق المعاناة التي يعيشها اللاجئ في الشتات والمنفى. إذ لم تكتب مها عن الحرب بوصفها حدثًا تاريخيًا مجردًا، بل كتبت عن تأثيراتها على الفرد، عن تلك الكسور الداخلية التي أحدثتها، عن الفقدان، والانهيار، والنجاة المشروطة، والهويات المتشققة في المنافي والنتائج السيّئة حيث تُقتل الأمّ تحت القصف، والأبناء يتفرقون في بقاع الأرض، وتجد الابنة الكاتبة نفسها في باريس، وتسعى إلى إعادة لملمة الماضي من خلال الكتابة، تلك التي تنقذها من الانهيار الكامل. في هذا السياق، لا يبدو اللجوء مجرد انتقال جغرافي، بل هو حالة من التمزق الروحي، ومواجهة قاسية مع صورة الآخر، ومع الذات المعذبة. يتجلى هذا بقوة في تجربة “حسام”، الأخ الذي وصل إلى السويد، محملًا بصورة مثالية عن أوروبا كفضاء للحرية والعدالة، لكنه سرعان ما يصطدم بالواقع البارد، حيث يعامل اللاجئ كمجرد “رقم”، في مجتمع لا يُرحب إلا شكليًا، بل ويضعه في عزلة بيروقراطية خانقة. يُعبّر عن خيبته بالقول: «لا شيء يشبه ما تخيلته» ، في إحالة إلى السقوط الكامل لكل ما آمن به أو حلم به من قبل.
هذه الخيبة لا تتوقف عند حسام وحده، بل تمتد لتطال الأم، التي وإن كانت قد ماتت في الرواية، إلا أنها تعود عبر الكتابة لتسرد معاناتها من اللجوء الداخلي، ومن الغربة داخل الوطن، قبل أن تُغترب في الموت ذاته. تقول الأم من قبرها: “نحن متنا، وما نزال نخاف من سقوط القذائف فوقنا”[4]، في تصوير سريالي للحرب التي لا تنتهي حتى في الموت، وللاجئ الذي لا مأوى له حتى تحت التراب. هذه العودة الرمزية من العالم الآخر، تجعل من الرواية نوعًا من المقاومة الوجودية؛ فالكتابة تحيي الموتى، وتمنحهم مساحة للبوح الذي حرمهم إياه الموت المفاجئ.
يتحول اللجوء في الرواية إلى تجربة نفي متعددة الأبعاد؛ نفي عن الوطن، ونفي عن البيت، ونفي عن الذات. البيت في الرواية ليس مجرد مكان مادي، بل هو رمز للانتماء، والحب، والدفء، والذكريات. عندما تهرب الأم من منزلها بسبب القصف، ثم تعود إليه لتجده كما كان، تعبر عن شعور غامر بالسلام وكأنها دخلت الجنة: “ما إن دفعت باب البيت، ولمحت أريكتي هذه، حتى أحسست بأنّ الدنيا تدور بي، كأنني أدخل الجنة”[5]. هذه العلاقة العاطفية العميقة بالبيت، تجعله معادلًا موضوعيًا للوطن المفقود، ففقدان البيت هو فقدان للهوية.
تربط الساردة مها بين الكتابة والبيت، وتقول إنها تكتب عن البيوت لأنها تمثل لها الحلم والذاكرة: «اكتشفت أنني أكتب طويلاً عن البيوت… وبيوت منحتني الحلم[6]». وهذا الربط بين فعل الكتابة وفضاء البيت، يضع تجربة اللجوء في مواجهة مستمرة مع الفقد، فكما أن البيت هو ذاكرة حية، فإن الرواية هي محاولة لحفظ هذه الذاكرة من الاندثار. و في مستوى آخر، لا تتوقف الرواية عند المآسي المباشرة، بل تقدم تأملًا عميقًا في معنى الهوية، والانتماء، والذات. تضع مها الكاتبة نفسها أمام أسئلة وجودية كبرى: من أنا؟ إلى أين أنتمي؟ وهل يمكن للكتابة أن تنقذني من هذا التمزق؟ تقول: «عبر الكتابة رحت تفككين انتماءاتك، وتحللينها، وتقتربين مني خطوة إثر خطوة» بهذا المعنى، تصبح الكتابة معادلاً للجوء، لكنها لجوء داخلي، إلى اللغة، إلى الحكاية، إلى الذات، بعد أن لم تعد الأرض ملاذًا آمنًا.
تكشف الرواية من خلال شخصية حسام أيضًا عن شكل من أشكال اللجوء المزدوج: أولاً من الحرب، ثم من الحلم الذي تحطم في أوروبا. يعبر عن شعوره بالعزلة في الملجأ قائلاً: «سيبقى اللاجئ محكومًا بالاعتقال داخل حياة ضيقة، لا أحلام ولا إذن بالعيش خارج مجتمع صغير»، يجد حسام نفسه في ما يُشبه الثقب الأسود، لا هو في وطنه ولا هو في وطن بديل، بل في مكان بيني، لا يتسع للأحلام ولا يسمح بالاندماج.
الخاتمة:
من خلال هذه الدراسة التي تناولت تجليات اللجوء السوري في رواية “عمتِ صباحاً أيتها الحرب“ للكاتبة السورية مها حسن، توصّل الباحث إلى مجموعة من النتائج التي تُضيء على العمق الإنساني والرمزي لتجربة اللجوء كما صورتها الرواية. فقد تبين أن اللجوء في هذا العمل ليس مجرد انتقال مكاني قسري، بل يُجسّد اغترابًا وجوديًا عميقًا، يتمثل في تمزق الهوية، وتشتت الذات، والشعور المستمر بالقلق والانفصال عن الماضي والمكان والأشخاص.
يظهر البيت في الرواية كرمز محوري، لا باعتباره مجرد بناء مادي، بل بوصفه معادلاً للوطن والانتماء والدفء. سقوط البيت يعني انهيار الإطار النفسي الذي يحمي الفرد، لتبدأ رحلة من التبعثر والخوف والتشظي. وقد استطاعت الكاتبة أن توزّع معاناة اللجوء بين شخصيات متعددة تمثّل أنماطًا مختلفة من المواجهة والتكيف مع الحرب؛ من بقي داخل الوطن يواجه الموت اليومي، ومن خرج بحثًا عن أمل جديد، ليصطدم بواقع المنفى القاسي وما يحمله من عزلة، وغربة، وإحساس بعدم الانتماء.
قدّمت مها حسن عبر روايتها سردًا يجمع بين التوثيق الإنساني والسرد الإبداعي، بحيث تتداخل اليوميات مع الذكريات، ويغدو الزمن غير خطي، ممزوجًا بالحنين والوجع. في هذا السياق، تتجلى الكتابة نفسها كفعل مقاومة، وكوسيلة لترميم الذات، ومحاولة لفهم ما حدث، وما يحدث، وربما التماسك في وجه عالم آخذ في الانهيار. تتحول الكتابة، لدى الساردة، إلى نوع من النجاة، وإن كانت نجاة رمزية، تحفظ الذاكرة، وتعيد تأطير الشتات بطريقة تمنح السارد والقراء على السواء شعورًا بالأمل أو على الأقل بالفهم.
كما أظهرت الرواية الهوة العميقة بين ما كان يتصوره اللاجئون عن الغرب، وما واجهوه فعليًا في واقع المنافي الأوروبية؛ فشخصية “حسام” تمثل صدمة المثقف السوري في وجه البيروقراطية الأوروبية والانعزال الثقافي والاجتماعي، ما عزّز شعور الانكسار والضياع حتى في المكان المفترض أن يكون “الخلاص”. وتنعكس مآسي الحرب في الرواية أيضًا على الجيل الجديد من اللاجئين، مثل “فرح” و”مرح”، اللتين نشأتا في بيئة مشبعة بالخوف والشتات، محرومتين من براءة الطفولة واستقرارها، وهو ما يدل على الأثر العميق والطويل المدى للحرب على بنية المجتمع السوري ومستقبله.
وقد اختارت الكاتبة أسلوبًا شِعريًا حزينًا، متدفقًا ومفتوحًا على الرموز والذكريات، لتصوغ من خلاله رواية تجمع بين التوثيق والتأمل، وبين الألم والجمال. وبذلك، فإن رواية “عمت صباحاً أيتها الحرب“ لا تُقرأ فقط بوصفها نصًا روائيًا، بل بوصفها شهادة أدبية على معاناة اللجوء، تحاول أن تُنقذ ما يمكن إنقاذه من ذاكرة مهددة، ومن وطن يتفكك، ومن إنسان لم يعد يجد لنفسه مكانًا في الخرائط القديمة أو الجديدة.
وبناء على ذلك، تؤكد هذه الدراسة أن الرواية تُشكّل مدونة سردية تفتح أفقًا لفهم أعمق لمعاناة اللاجئ السوري، ليس فقط من زاوية سياسية أو إنسانية، بل من منظور أدبي يعيد الاعتبار لتجربة فردية وجماعية، غنية بالتفاصيل، وعميقة الأثر، ومعقّدة في شعورها المستمر بالبحث عن بيت، عن وطن، عن ذات متكاملة في وجه الخراب.
المصادر والمراجع:
- : حسن، مها، عمت صباحا أيتها الحرب، منشورات المتوسط ميلانو.
- خليفة، خالد، الموت عمل شاقّ، لبنان، هاشيت أنطوان، 2016.
- الأمين،آلاء محمد الأمين، لا أحد يعلم من العدوّ، دار فيولا للنشر الإلكتروني، 2021
- وادي، طه: “دراسة في نقد الرواية” ، مصر ، دار المعارف ،
- العربي، احمد، ملتقى العروبيين، قراءة في رواية” عمت صباحا أيتها الحرب، ت-ن: 10- 3- 2020، ت-ت 5-4-2025،
- https://arabiansforum.net/archives/1084
- الكاتب غر مذكور، أراجيك، مها حسن، ت-ت: 6- 3- 2025، ما لا تعرفه عن مها حسن .. من هي؟ سيرتها الذاتية، إنجازاتها وأقوالها، معلومات عن مها حسن.
- رواية السورية مها حسن «عمت صباحاً أيتها الحرب»: ليلة سعيدة أيتها الثورة!.
[1] : الكاتب غر مذكور، أراجيك، مها حسن، ت-ت: 6- 3- 2025، ما لا تعرفه عن مها حسن .. من هي؟ سيرتها الذاتية، إنجازاتها وأقوالها، معلومات عن مها حسن.
[2] : العربي، احمد، ملتقى العروبيين، قراءة في رواية” عمت صباحا أيتها الحرب، ت-ن: 10- 3- 2020، ت-ت 5-4-2025،
https://arabiansforum.net/archives/1084
[3] : حسن، مها، عمت صباحا أيتها الحرب، منشورات المتوسط ميلانو،ط01،ص105.
[4] : المصدر نفسه، ص: 80.
[5] : المصدر نفسه، ص: 155.
[6] : المصدر نفسه، ص. 161