محمد معراج عالم
باحث بمركز الدراسات العربية والإفريقية
بجامعة جواهر لال نهرو بنيو دلهي
الملخص:
من أهم البواعث التي تفتّق لأجلها قريحة المبدعين ضياع الوطن، لأن الوطن نعمة كبيرة يتمتع بها الإنسان، وملجأ يحلم فيه المرء بما يسعد حياته ويحقق أمنياته، فلذا فطر كل إنسان على حب الوطن، فعندما تتزلزل قوائم الوطن تتهدّم قصور الأحلام التي بناها أبناء الوطن، وعندما يصيب الوطن الوهن يخسر المرء أكبر نعمة لديه، فلذا عالج الكتاب والمبدعون الشوق إلى الهويّة وألم الاغتراب في إبداعاتهم، وكلما تقدم الوطن إلى طريق الخراب تفتقت قريحة الشعراء والكتاب، وحاولوا من خلال إبداعاتهم منعه من الخوض في طريق الخراب، وتبكي أقلامهم عندما تفشل محاولاتهم في صيانة الوطن على الدمار والخراب، لأن هويّتهم تتهدّم بتهدّم الوطن، لأن الوطن أكبر هويّة للإنسان، ومن هؤلاء الكتاب الذين عالجوا قضية الهويّة والاغتراب الروائية السودانية آلاء محمد الأمين التي تصوغ أحداث الخراب والشعور بالغربة في قالب رواياتها القصيرة، وتسرد قصص أوجاع ضياع الوطن بقلب حزين وعين باكية، وذلك لأنه من المعلوم أن السودان تكتوي بنار الحرب الأهلية، وما أدراك ما الحرب الأهلية؟ هذه حرب لا يميز فيها العدوّ من الصديق، ويؤول الأمر إلى أن المرء يخاف من ظلّه، فنظرا إلى ذلك تتلاشى الأمنيات التي يتمناها المرء، فهذه هي أوجاع عالجتها الكاتبة السودانية آلاء محمد الأمين في روايتها” لعبة الحياة” حيث يوجد فيها الصراع بين الهويّة والاغتراب، فيحاول الباحث في هذا البحث الوصول إلى تحديد مفهوم الهويّة والاغتراب، وللوصول إلى افتراضية البحث يتخذ الباحث المنهج التحليلي، لأن الأوجاع الناتجة عن الصراع بين الهويّة والاغتراب وضياع الوطن لا تكتشف إلا من خلال السير على المنهج التحليلي، فلذا يستهّل الباحث البحث بالتعريف الوجيز بروايتها ” لعبة الحياة مع ذكر نبذة عن الكاتبة، ثم يتحدث عن الحرب الأهلية التي خلقت في نفوس أبناء الوطن الشعور بالغربة وضياع الوطن وأصبحوا شبه مطرودين عن الوطن، ثم يكشف القناع عن الأوجاع الكامنة في روايتها بسبب جدلية الهويّة والاغتراب حتى يصل إلى نهاية المطاف.
نبذة عن الكاتبة
الكاتبة آلاء محمد الأمين عبد الرحمن كاتبة ناشئة سودانية، وهي ابنة شخصية بارزة في المجتمع، حيث يشغل والدها منصب بروفيسور في جامعة شندي بقسم الدراسات، وهو أيضًا شيخ وإمام معروف. فترعرت الكاتبة في بيئة علمية وأدبية، وبدأت رحلتها الأدبية في سن مبكرة وهي سن الثانية عشرة، بدأت رحلتها الأدبية بتأليف الأشعار السودانية للأهل والأصدقاء وكتابةالخواطر والاقتباسات، وأصدرت أولى قصصها بعنوان “عشرون عامًا من الزيف” بالتعاون مع دار السماء للنشر الإلكتروني. نالت القصة إعجاباً كبيراً من قراءها، مما شجعها على الاستمرار في هذا المجال.
صدرت لها مجموعات قصصيّة عديدة ومنها: لا أحد يعلم العدو، الليلة المظلمة، رحلة إلى الجحيم، نيران الحرب، 5:59، لاتا، منعطف الحياة، زوجي من الجن، من أجل الوطن، رسائل لن تصل، جولييت، عام الحرب، من بعث بدواخلي، جنون، لعبة الحياة، غصون.. كما ألفت مجموعة من الكتب الجامعة مثل “عشوائيات” ورواية قصيرة بعنوان “لعبة الحياة”.
إضافةً إلى ذلك، كتبت آلاء العديد من الكتب الجامعة الأخرى، بما في ذلك: “نخوة حواء”، “كتاب السودان”، “مقتطفات من بحر الحياة”، “همسة أخيرة”، “عطر الروح”، “فكاهتي الحزينة”، “عطر المدن”، “همسات قلم”، “رسائل منتحر”، “الإدمان”، “الأمل”، “غنيمة حرب”، “يومياتي”، “قصة نجاح”، “لن أستسلم للصعاب”، “درب الأشواك”، “لا تغلق النافذة”، “أنين القلوب”، “لغة بألف لغة”، “كن ذا أثر”، “كوزموس الضاد”، “الشباب الضائع”، “لعنة الواقع مرآة الواقع”، “انتابني شعور”، “كوني تقية يا أختاه”، “السيلان”، “أسرار الحياة”، و”الفوز بالدرع والمركز الأول في كتاب” الانتماء للوطن”.
حصلت آلاء على العديد من الجوائز والشهادات في مسابقات أدبية متنوعة، منها: مسابقة كيان سطور على ورق، ومبادرة إبداع كاتب، وكيان حلم كاتب، ومبادرة حلمك عندنا، ومسابقة المقال الفلسفي، ومسابقة الإسكريبات، ومنصة شغف السودانية للارتجال. كما حصلت على المركز الأول في مسابقة القصة القصيرة بنادي القراء الذي يشمل متسابقين من الوطن العربي.
عملت آلاء كمدربة لمنصة شجن السودانية، وتولت أيضًا الإشراف على كتاب جامع بعنوان “السودان”. حاليًا، تعمل على تأليف سلسلة تتناول موضوع ضحايا حرب السودان.
مفهوم الهويّة والاغتراب
الهوية والاغتراب مصطلحان مهمان يجب تحديد حدوهما والاطلاع على مفهومهما أولا، لأن مفهومهما مدخل رئيسي للخوض في معالجة جدليّة الهوية والاغتراب المتواجدة في رواية” لعبة الحيا” لآلاء محمد الأمين. والجدير بالذكر أن كل واحد منهما نقيض الآخر، فلو اتضح مفهوم أحدهما سيتضح مفهوم الآخر تلقائيا.
الهويّة مصطلح تحدث العلماء عن تحديد مفهومها كثيرا حتى تسرّب إليها التعقيد الذي يأتي بالملل والسآمة، لأنها مصطلح فلسفي وفد إلى الأدب، فالهوية كلمة مشتقة من هو هو، والمراد بضمير هو فرد يعيش في المجتمع، فيراد بها مجموعة الخصائص والميزات التي ينتمي إليها الأفراد ويتميزون بها عن غيرهم. ولا يواجهون أي عقبة في الانتماء إليها، وخير مثال له المسلمون في الهند، لهم ميزات يتميزون بها عن الفئات الآخرى من أمثال السيخية والبوذية والمسيحية، فهم يتميزون بميزات تخصّهم دون غيرهم رغم وجود فئات أخرى، فهذا مظهر الهويّة، فلو واجهو مشكلة في الانتماء إلى مجموعة الميزات التي تميّزهم عن غيرهم فهو الاغتراب، وبكلمة أخرى”وهو مشكلة الانفصال بين الذات وبين شيء آخر، اللذان ينتميان معًا بشكل طبيعي في الأصل[1]، فلكل واحد منهما أنواع عديدة، فمن أنواع الهوية الهوية الوطنية والهوية الاجتماعية والهوية الثقافية و الهوية السياسيّة والهويّة الفرديّة. ومن أنواع الاغتراب الاغتراب الشخصي والاغتراب الاجتماعي والاغتراب والسياسي والاغتراب النفسي، وسيأتي الحديث عن تحديد أنواع الاغتراب والهوية التي عالجتها الروائيّة.
ملخّص الرواية ” لعبة الحياة” لآلاء محمد الأمين
قبل الحديث عن الصراع بين الهوية والاغتراب من المناسب تقديم ملخص الرواية، فيبدأ الباحث بالحديث عن الشخصيات والأبطال التي تدور حولها الرواية، وهو فيمايلي:
قرة العينين: هذا بطل رئيسي وهو ولدٌ في سنّ المراهقة، ماتت أمه وهو صغير، فكفّله أبوه، وفي النهاية أصيب الوالد بالمرض في الرجل وعجز عن المشي والحركة، ويمثل قرة العينين جدلية الهوية والاغتراب بشكل رئيسي حيث ينتهج لكسب الرزق طريقة خاطئة يتجلى فيها الاغتراب والشوق إلى الهويّة ، فحالفه الحظ فأصبح شرطيا عمل كممثل يدافع عن الهويّة.
عبد الجليل: والد قرّة العينين، أصيب بمرض شلّ رجله، ثم أجريت فيها عملية جراحية في السعودية بدعم من ضياء وكوثر،وتعافى منه، وبدأ يمشي.
عناقيد: أخت قرة العينين.
بوبي:كلب اقتنتها عناقيد.
أشجان، أم قرة العينين التي ماتت.
ضياء، الشرطي الذي تبنّى قرة العينين ابنه، وأوصى بنصف إرثه له.
كوثر: زوجة ضياء التي كانت عقيمة، فتبنت قرة العينين ولؤى ابنين لها.
تسابيح: أخت كوثر.
الرواية تدور حول ولد في سن المراهقة وهو قرة العينين، ماتت أمه وهو كان صغيرا، فكفلّه أبوه عبد الجليل، وصادف أن أصيبت إحدى رجلي أبيه بالشلل، وعجز عن المشي والحركة، وكانوا يعيشون في غرفة صغيرة شبه مهجورة تركها صاحبها، وتنقضي الأيام وهم لا يجدون طعاما يسدّ جوعه، فأقلق قرة العينين حال أبيه وأخته الصغيرة وهما يقضيان الليل والنهار جائعين، فأراد تكسب ما يسدّ جوعه، فخرج من المنزل بحثا عن الوظيفة، فاستغلّه تاجر المخدرات مجهول الهويّة، حيث قدّم إليه أنّه سيوظّفه كتاجر للثياب التي كانت تحمل في داخلها المخدرات ولكنه لا يعرف بمافي داخلها، فكلّف التاجرُ قرةَ العينين بأن يردّ على الاتصال، وحسب الطلب عليه أن يحمل الثوب في حقيبة ويبلّغه في المكان المطلوب إلى المشتري مقابل سعر يتلقاه، فتكسب قرة العينين ما غمر والده وأخته بالسرور، لأن الرخاء عاد إلى بيته، وذات يوم استرقّ قرة العينين السمع مما يجري من النقاش بين المدير وأصحابه حيث نطق أحدهم بكلمة” كريستال”، فاندهش الفتى من الأمر، ولم يعرف ما هو الكريستال، فذهب إلى بيت شرطي يقع على طريقه للمنزل، فذهب إليه وسأله” ما هو الكريستال” ففهم الشرطي ضياء أن أحدا يستغلّ قرة العينين، فأخبره بالحقيقة، وطلب الشرطي منه أن ينتقل مع أبيه وزوجته إلى بيته، لأن تاجر المخدرات لو أدرك أنك سمعت حديثهم، فسيقتلونك، فانتقلوا إلى بيت الشرطي ضياء، وبينما هم في بيته إذ بلغ الشرطي ضياء أن الحرب الأهلية ستبدأ في السودان، فطلب الشرطي منهم أن يذهبوا مع زوجته وأختها على متن السيارة إلى المملكة العربية السعودية، وسيلحق بهم عندما ينتهي من عمله، لأنه وهب حياته لخدمة الوطن، والوطن في أمسّ حاجة إليه، وفي السعودية أجرت تسابيح عملية جراحية لرجل والده عبد الجليل، فتعافى عبد الجليل، وطلب من ابنه أن يكب على التعلم دون الالتفات إلى التكسب، لأنه قدر على العمل، فبدأ يبحث عن الوظيفة، فوظّفته كوثر كحارس البوابة الرئيسية، وبدأ قرة العينين يتعلم، بينما هم كذلك إذ وقع عليهم نبأ استشهاد ضياء في حرب أهلية حيث كان يدافع عن الوطن فأطلقته رصاصات العدو، فحزنت زوجته، ولكن بلغ حزن قرة العينين مبلغه، لأنه كان سندا في حياته، وكان نقطة التحول في حياته، فكشفت زوجة الشرطي القناع عن السرّ، وهو أنه أوصى بجزء من ثروته لقرة العينين، لأنه تبناه كابن، لأن كوثر عقيمة فقدت قدرة الإنجاب، فأراد أن يتبنى ولد مريض له مات ولم يستطع أن يتعافي، لكنه أصبح ضحية طمع عمّه، حيث طمع عمه في مال أبيه، فقتله إسقاطا من السقف ونشر الخبر بأنه انتحر. وأكبّ قرة العينين على الدرس حتى أصبح شرطيا، وقبض على رئيس العصابة التي تتجر المخدرات.
ملامح جدلية الهوية والاغتراب في رواية” لعبة الحياة
رواية ” لعبة الحياة” تتحدث في جانب عن الشوق للهوية وفي جانب آخر تعالج ألم الاغتراب، وذلك بداية من عتبات النص، حيث سمّت الروائية الرواية ب” لعبة الحياة”، فالحياة تتلاعب بالولد المراهق الفقير الذي يعاني ألم الاغتراب ويشتاق للهويّة حتى سلك طريقا خاطئا بحثا عن الهويّة وضلّ الطريق السديد، وأضلّه رئيس العصابة التي تتجر المخدرات ” فالحياة تلعب معنا أحياناً أموراً لا نفهمها، جزء نفهمه حين نكبر وجزء يظل مجهولاً للأبد”[2]. وأما ورقة الغلاف فهي تشتمل على صورة فتى مراهق أغبر وأشعث ووضعت على كتفه الساعة، فصورة الفتى المراهق الأشعث والأغبر تدل على أنه يعاني ألم الاغتراب ويحاول العثور على الهوية، بينما تشي الساعة بأنه عثر على الهويّة بعد جهود كبيرة ومثابرة، فصورة الولد المراهق والساعة تدلّ على جدلية الهويّة والاغتراب. وكذلك كلمة التقديم التي كتبتها الروائية آلاء تدلّ على الصراع بين الهويّة والاغتراب، لأنها طرحت سؤالا يتجلى فيها هذا الصراع حيث تكتب” ويبقى السؤال: هل سيصلحُ العالم مكاناً آمناً للعيش فيه مرة أخرى؟ أم ستنتهي حياتنا ونحن نبحث عن الأمان حتى نُفنى؟[3]، ففي هذه الجملة يختفي الصراع بين الهوية والااغتراب، لأن كون العالم مكانا آمنا شوق للهويّة وانتهاء الحياة بحثا عن الأمان ألم الاغتراب.
لقد رأينا جدلية الهوية والاغتراب في عتبات النص، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تجاوزتها إلى الأحداث والأبطال والزمان والمكان أيضا، ومن براعة الكاتبة التقنية أنها عالجت الهويّة والاغتراب جنبا بجنب مما أصبح النص مشوّقا ومثيرا للإعجاب، فكون المنزل في الطرف الأخير من الحي اغتراب اجتماعي يصاب به المرء، فيواجه الفتى المراهق قرة العينين الاغتراب كل يوم، حتى أصبحت له الشمس غريبة فيقول قرّة العينين وهو يصف اغترابه” الساعة السادسة مساءاً، تبدأ الشمسُ بالغروب وترسل لنا آخر أشعة لها، مُعلنة الرحيل “[4]. ولم يقتصر الأمر عليه بل أصبح له المكان الذي يسكن فيه غريبا، حيث يصوّر روتينياته اليومية” وبقيتُ أنا أُراقبُ كل هذا مع أسرتي الصغيرة، داخل منزلنا الذي أشبهُ بالغرفة المهجورة، منزلُ يقع في آخر المدينة، وحيد ومنعزل عن بقية المنازل، فلا عمل لنا لنفعل سوى الانتظار؛ انتظار الغد الذي ربما يكون أفضل من اليوم”[5]، فاتضح من الفقرتين السابقتين أن الاغتراب موجود في الزمان والمكان، لأن الشمس ترمز إلى الزمان، لأن التقويم الميلادي تعود جذوره إلى الشمس، حيث أن ” السنة في التقويم الغريغوري شمسية، بمعنى أنها تمثل الوقت اللازم لدوران الشمس دورة كاملة في منازلها، وهي مدة تساوي 12 شهرا، وتتكون الشهور من عدد أيام يتراوح بين 28 و31 يوما”[6]، والغرفة المهجورة تدلّ على المكان، وأما الاغتراب في الأحداث فنماذجه مبعثرة في صفحات كثيرة من الرواية، فعلى سبيل المثال في الصباح يقول قرة العينين لأبيه: صباح الخير، فتجيب عناقيد قائلة:” عن أي خير تقصد! لا خير لنا في هذه الحياة، الجوع ليس خيراً والمنْفي كذلك”[7]، وهي تعني بالمنفى المنزل، ومن المعلوم أن المنفى أقسى نوع من الاغتراب،
وأما الاغتراب في الأبطال فكل من قرّة العينين وعبد الجليل وعناقيد يمثلون الاغتراب، والجدير بالذكر أن الروائية جعلت من قرة العينين بطلا رئيسيا لكي يمثل الاغتراب بشكل رئيسي، فالاغتراب الاجتماعي يتجلى فيه بوضوح، لأنه يعيش في نفس المجتمع، ولكنه بسبب الجوع يواجه وضعا مختلفا يصفه قرة العينين وهو جلس متعبا بعد جهد جهيد للبحث عن الطعام في ظلّ شجرة فقال” سمعتُ صوت بطني وهي تطلق أصوات صفير من الجوع، لأرى الناس وهم ينظرون لى، منهم من نظر وواصل عمله، ومنهم من كان يبتسم أو يضحك ومنهم من لم يكترث”[8]، وهل هناك غربة أكثر من أن الشخص يصبح ضحية الاستغلال وهو في مسقط رأسه، حيث أن قرة العينين استغلّه تاجر المخدرات والأسلحة مجهول الهويّة، لأنه عندما رآه جالسا وهو جائع، ذهب به إلى المطعم، وأطعمه، ثم طلب منه أن يعمل معه كبائع المنشطات، فرفضه مبررا بأنها غير قانونية، فهدأ الرجل قليلا ثم قال” لا بأس أيها الفتي، أنا أستبيحك عذراً لأنك؛ لا تدري حجم ومقدار النعمة التي تأتي إليك، ما رأيك ببيع الملابس اذاً؟”[9]فهكذا أصبح قرّة العينين ضحيته، عمل له لعدة أيام كبائع الثوب، ولكن المخدرات مختفية في داخل الثوب، فهكذا استمر واكتسب ما أتى برخاء في البيت، ولكنه عندما علم بالأمر تركه، وهذه هي نقطة انطلاق الصراع بين الهوية والاغتراب، والفتى قرة العينين يمثل الصراع بين الهوية والاغتراب، لأنه كان يعاني الاغتراب بسبب الفقر، ولكنه وجد عملا أدرّ عليه مالا كثيرا فتحسّن حاله المادي، فهو يصف وضعه هذا عندما استيقظ في الصباح وهو ليس مهموما ولا قلقا بشأن الوجبة” مرت الساعات ولم أفعل شيئاً سوى التفكير، حتى سمعتُ المؤذن يقول: الله أكبر…سبحان اللّه! حقاً اللّه أكبر من آلامنا وهمومنا، فلله أحلامي التي سلبتْها مني ظروف الحياة “[10]، وأردف وهو يصف تحسن أحواله” أما الآن، فلن تطير العصافير فرحاً ولن تزقزق بصوتها الشجي إلا حزناً على تغير أحوالنا “[11]، وما إن آن الأوان لكي يرفع من عائلته الفقر ويحدّد هويّته في المجتمع إذ اكتشف سرّ تاجر الملابس، وعرف أنه يستغلّه لبيع المخدرات، فتركه، وأصبح كما كان فقيرا، وكذاك يتجلى الصراع بين الهوية والاغتراب بين البطل قرة العينين والشرطي ضياء، حيث يعاني قرة العينين الاغتراب بسبب الفقر بينما يستمتع الشرطي ضياء بالهويّة بسبب رخاء البال، حيث رمى طفل الشرطي الطعام في القمامة، وأخرج قرة العينين الطعام منه، وكان والده ينظر له وهو يخرج الطعام دون أن يقول أحدهما شيئاً، فعندما أخرج الطعام كله” قال متعجباً: لا أعلم سبب أخذكَ للطعام فلا يبدو عليك الجنون”[12]، فأجابه الفتى قرة العينين” ليس لي الحق في التدخل في حياتك ولكن؛ عيب كبير منا نحن الناضجُون أن نرى الصغار وهم يلقون بالنعمة في القمامة، قد لا تحتاجون لها ولكن ليس هذا سبباً أيضاً”[13]، ففي هذا الحوار تتجلى جدلية الهويّة والاغتراب، ولكن بقي السؤال، أيهما غلب على الآخر؟
غلبت الهوية على الاغتراب، حيث فارق الاغتراب قرّة العينين، وتمتّع بالهوية التي فقدها بسبب الفقر وكان لايزال يبحث عنها، وذلك باعتناء الشرطي ضياء بقرّة العينين، لأنه أوصى زوجته بجزء من ثروته له قبل أن تصعد عائلته وعائلة قرة العينين على الطائرة للسعودية، ولما استشهد الشرطي ضياء دفاعا عن الوطن كشفت زوجته كوثر السرّ قائلة ” أنت طيب جداً كما كان يقول زوجي عنك، لقد رأى فيك الخير منذ اليوم الأول، لذلك قرر أن يهبك جزءا من ثروته ويسجلها باسمك في هذه الورقة، لقد أعطاني هذه الورقة قبل أن نصعد إلى الطائرة”[14]. فتعلم قرة العينين حتى أصبح شرطيا ناجحا وتمتع بالهويّة، وقبض على رئيس العصابة الذي كان يتجر المخدرات واستغلّه قبل سنوات وسلب منه هويته ولكن الشرطي ضياء أعادها إليه،وذهب الشرطي قرة العينين إلى الزنزانة وجرى بينه وبين رئيس العصابة الحوار الذي يشير إلى أن الهوية غلبت في النهاية على الاغتراب فقال قرة العينين بعد ما دخل في الزنزانة” “مرحباً، أتذكرني!
المسجون”رئيس العصابات سابقاً” ونبرته ضعيفة بسبب كبر سنّه: من أنت يا هذا!
كيف تذكرني وأنا لم أعد أنا، فقد سلبت مني حريتي وطمست هويتي وأصبحت بلا مبدأ في ذلك الزمان.
أنا هو ذلك الفقير، أجل ذلك الفقير الذي كان يبيع لك مخدراتك عن طريق الصناديق.
أنا ذلك الفقير الذي عصفت به الحياة وجئت أنت ودفنتني.
ولكن اليوم أنا لست ذلك الصبي الخائف الذي يخشي من الخسارة.
أنا الملازم، أنا الشرطي”قرة العينين”
أنا هو الذي زج بك في هذا السجن لتتعفن فيه ما تبقي لك من عمرك”[15].
الخاتمة
وصل الباحث من خلال دراسة الرواية” لعبة الحياة” إلى أن الكاتبة آلاء محمد الأمين عالجت قضية الهوية والاغتراب بشكل ممتاز حتى حدث صراع بينهما ولكن الهويّة غلبت على الاغتراب في النهاية، ومن براعة الكاتبة أنها بدأت الرواية بالاغتراب وأنهتها بالهويّة مما حدث تشويق فيها، والرواية ممتازة من الناحية الفنية والتقنية، والجدير بالذكر أن الكاتبة تمتاز عن غيرها من الروائيين والروائيات بتبني طريقة مبتكرة في إيجاد الأحداث، وهو أن الروائيين يدخلون بصفة عامة قصة الحب في تناول أي قضية لغرض إثارة التشويق، ولكن الكاتبة لم تدخل قصة حب في معالجة قضية الهوية والاغتراب، ولكن لم تفقد الرواية روعتها وعنصر التشويق لأن الروائية تلافت جاذبية قصة الحب بمفاجآت تسحر المتلقي وتثير في نفسه الرغبة لقراءة ماحدث في التالي، ولكن هذه طريقة مبتكرة ابتكرتها الكاتبة آلاء محمد الأمين وانفردت بها، فعليها أن تكون مستعدة لتجازو التحديات لكي تنال هذه الطريقة شعبية، ولاغرابة في أنها تلقى رواجا لو بقيت الروائية صامدة في طريقة سردها المبتكرةكالجبل الشامخ، فهي جديرة بالثناء عليها، ولكن لو تم تدقيق الرواية بشيئ من التركيز فلا تبقى فيها أخطاء حاسوبية وإملائية، فيجب الالتفات إلى هذا الجانب، ولا يسع هذا المقال الوجيز أن يغطي جميع الجوانب، والباحث اكتفى فيه بتناول الصراع بين الهويّة والاغتراب في الرواية.
المصادر والمراجع
- محمد الأمين، آلاء، لعبة الحياة، مصر، شواهين للطباعة، 2024.
- موقع حكمة، ت-ن: 13-07-2020، ت-ت: 17-8- 2024، الاغتراب: مفهومه، ومعناه، وأنواعه (موسوعة ستانفورد للفلسفة) (hekmah.org).
- الجزيرة، ت-ن: 11-3-2023، ت-ت: 18-8-2024. ما التقويم الغريغوري؟ وماذا تعني أسماء الأشهر الميلادية؟ | الموسوعة | الجزيرة نت (aljazeera.net)
- الطاهر ، بلحيا: “الروايات العربية الجديدة من الميثولوجيا إلى ما بعد الحديث جذور السردي العربي “،بيروت ، دار الروافد الثقافية ،2017.
- الزغل، سلطان: ” فضاء التشكيل وشعرية الرؤى (دراسات في قصة إلياس فركوح القصيرة “، الأردن ، دار أزمنة للنشر والتوزيع ،2010.
- عبد المجيد ، يونس: “الأصول الفنية للنقد الأدبي” ، القاهرة ، درا المعارف، 1958.
- جمعة ، لطفي: “بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي”، مركز مواطنة حمداوي.
- خضر ، ناظم: “الأصول المعرفية لنظريات التلقي”، عمان ، دار الشرق ،
- خورشيد ، فاروق: “في الروايات العربيات: عصر التجميع”، بيروت ، دار الشروق ،
الهوامش
[1] : موقع حكمة، ت-ن: 13-07-2020، ت-ت: 17-8- 2024، الاغتراب: مفهومه، ومعناه، وأنواعه (موسوعة ستانفورد للفلسفة) (hekmah.org)
[2] : محمد الأمين، آلاء، لعبة الحياة، مصر، شواهين للطباعة، 2024، ص: 143.
[3] : المصدر نفسه، ص: 4.
[4] : المصدر نفسه، ص: 5.
[5] : المصدر نفسه، ص: 5.
[6] : الجزيرة، ت-ن: 11-3-2023، ت-ت: 18-8-2024. ما التقويم الغريغوري؟ وماذا تعني أسماء الأشهر الميلادية؟ | الموسوعة | الجزيرة نت (aljazeera.net)
[7] : محمد الأمين، آلاء، لعبة الحياة، ص: 7.
[8] : المصدر نفسه، ص: 11.
[9] : المصدر نفسه،ص: 23.
[10] : المصدر نفسه، ص: 31.
[11] : المصدر نفسه، ص: 32.
[12] : المصدر نفسه، ص: 41.
[13] : المصدر نفسه، ص: 41.
[14] : المصدر نفسه، ص: 140.
[15] : المصدر نفسه، ص: 145.