عبد المتين، باحث الدكتوراة،
بقسم اللغة العربية وآدابها،
الجامعة العالية، كولكاتا، الهند.
ملخص البحث: لا يمكننا أن نعزل خلال كلامنا عن ابن شهيد بلاغته الموجهة للسان والمنتقدة لتصرف الإنسان عن مكون أساس جعله وسيلة هامة تسعفه إلى إيصال أفكار بقوة ضاربة ألا وهو مكون السخرية، وأجدر بالذكر أن السخرية عند ابن شهيد ليس الغرض منها إثارة الضحك والهزل وحسب، لأنه يتخذ السخرية منهجا مناسبا للرصد التوجيه والنقد. ولقد كان هذا المنهج شايعاً لدى الأقدمين من ذوي الفكر كسقراط، على سبيل المثال لا الحصر. في حواراته. فلم تكن للفيلسوف غاية إضحاك الناس في لحظة معينة من موقف معين، بقدر ماكانت الغاية كل الغاية هي تأسيس للمعرفة الموضوعية العقلانية، أو بعبارة أخرى تأسيس للمعرفة بالإنسان وتعميقها، وذلك قصد الخروج بالكائن البلاغي من مستوى السذاجة والعفوية إلى التربية على التفكير والعقلنة.
لقد أثنى ابن شهيد بشدة على الضحك وحسانته واتج له وحث عليه، لأنه صادر عن طبع وفطرة، حيث يقول: “وإن كنا قد أمللنا بالجد وبالاحتجاجات الصحيحة والمروجة، التكثر الخواطر، وتشحذ العقول، فإننا سننشطك ببعض البطولات، وبذكر العلل الظريفة، والاحتجاجات الغربية، ضرب شعر يبلغ بفرط غباوة صاحبة ومن السرور والضحك والاستطراف على ما يبلغه حشد أطر النوادر وأجمع المعاني” من شدة عمق نظرة ابن شهيد الايجابية للضحك استطاع أن يتغلغل إلى أعماق النفس، ويستبطن كل ما بداخلها ويصور كيانها بأسلوب تتسع فيه هذه النظرة التهكمية التي تنبعث من روح ” ابن شهيد” ودعابته وضنه.
وقد اعتمدت في مداخلتي هذه على المنهج الوصفي التحليلي، وهذا لم يمنع من استعانتنا ببعض المناهج الأخرى في بحثنا كالمنهج التاريخي المناسب للتاريخ لحياة الكاتب وبيئته والتاريخ لمصطلح السخرية ومفهومها في الثقافتين والغربية والعربية، إضافة إلى المنهج التداولي الذي استعنت به في تحليل موافق ابن شهيد اتجاه أهل عصره واتجاه مجتمعه.
الكلمات المفتاحية: ابن شهيد، سحر السخرية، مفهوم السخرية، رسالة التوابع والزوابع، الأعمال الأدبية، الفرق بين السخرية والفكاهة.
التمهيد: إن السخرية ميزة من مميزات الأعمال الأدبية منذ الزمن القديمة، كيف لا والسخرية قد رافقت وجود الإنسان، واقترنت بأفعاله وتصرفاته، فضلاً عن أقواله، ولعل الأعمال الأدبية التي تتميز بهذه السمة، تعد من الأعمال الجلبية، كما أن الأدباء الساخرين هم في الحقيقة قلة قليلة فالسخرية الحقة، التي تقوم بفعل النقد والتقويم، لا تتأتى لأي كان من الأدباء والكتاب لأنها مهمة صعبة محفوفة بالمخاطر، فلا يجرؤ على خوض غمارها إلا كاتب مقتدر، يستطيع أن يحمي نفسه بفضل تعدد الدلالة الذي تنطوي عليه عباراته وألفاظه الساخرة.
وعمله “التوابع والزوابع” من النصوص السردية العربية القديمة التي تميزت بهذه الخاصية، وقد اتخذ منها اين شهيد سلاحاً للدفاع عن نفسه منافحاً عن أدبه، ساخرا من حساده وخصومه من أهل عصره، فكانت السخرية وسيلة تواصل بينه وبين قارئه، استطاع من خلالها إيصال أفكاره ومقاصده، مستعملاً لغة السخرية والتواءاتها وانزاياحاتها وسيلة ناجعة في ذلك.
مفهوم السخرية: تعتبر مفهوم السخرية من المفاهيم التي يصعب تحديدها عند الباحث، سواء في اللغة العربية أو في الثقافة الغربية، ففي اللغة مثلاً نجد أن مفهوم السخرية يتداخل مع مفهوم الهجاء، والفكاهة، والتهكم… وكذلك في الثقافة الغربية ظل المفهوم يختلف مدلوله من عصر آخر، ومن بلد إلى آخر، بل حتي بين ناقد آخر.
السخرية لغة: مادة “سخر” فأصلها من التسخير بمعني التذليل، إذ جاء في لسان العرب: سخّرته أي قهرته وذلّلته، وسخّره تسخيراً: كلفه عملاً بلا أجرةٍ، وكذلك سخّره سخريا: كلّفه ما لا يريد وقهره، وكلّ مقهور مدبر لا يملك لنفسه ما يخلصه من القهر فذلك مسخّر فهي هُنا بمعني القهر والتذليل[1].
ويقول ابن فارس: “سَخرَ” السين والخاء، والراء، أصل مطرد مستقيم، يدلّ على احتقار واستذلال[2].
وقد نقلالأزهري عن الفرّاء قوله: سَخِرتُ منه، ولا يقال سَخِرتُ به وقد أجازهما الأخفش[3].
مفهوم السخرية في الإصطلاح: يصعب تحديد مفهوم مصطلح السخرية تحديداً جامعا مانعا، سواء في اللغة العربية أو في الثقافة الغربية، ففي اللغة العربية نجد مفهوم السخرية يتداخل مع المفاهيم الأخرى القريبة منها مثل: الهزل، والهجاء، والفكاهة، والتندر، والطرفة، والأمر نفسه في الثقافة الغربية ظلّ المفهوم مطاطاً يختلف مدلوله من عصر لآخر ومن بلد إلى آخر بل من ناقد لآخر، وربما يعود ذلك إلى حيوية هذا المصطلح كفن متطور قابل للتجديد، فالسخرية كما يقول برجسون: “شيء حي قبل كل شيء”[4]، وهذه الحيوية التي يتميز بها المصطلح هي التي جعلت من السخرية ميداناً شاسعاً يصعب الإلمام به ورسم حدوده.
الفرق بين مفهوم السخرية ومفهوم الهجاء: يعد الهجاء باب قديم من أبواب الشعر العربي وهو بمعناه الأدبي: “فن من فنون الشعر، يصور عاطفة الغضب والاحتقار والاستهزاء، وسواء أن يكون موضوع العاطفة هو الفرد أو الجماعة أو الأخلاق أو المذاهب”[5]. فهو تصوير مادّي مباشر للعواطف السلبية كالغضب والاحتقار، سواء تعلق الأمر بالفرد أو بالجماعة، وبطريقة واضحة جلية تبرز العيوب والمساوي.
ورأي إيليا حاوي هو أن مشاعر الإنسان الهجاء ما هي “سوى تعبير مادي عن تلك الضلال الشعورية الموحشة…[6]“. فالوصف المادي المشوه، والكلمات البذيئة، وإبراز اليعوب بطريقة مباشرة هي من صفات الهجاء، محاولة منه تفريغ شحنة الغضب، التي كانت بداخله.
وقد اشتهر بهذا المجال جماعة من الشعراء العرب القدماء، كبشار بن برد، الحطيئة، وأبي اعلاء المعري، إضافة إلى قصائد النقائض بين الثلاثي: جرير، فرزدق، الأخطل، وأغلب عليه هؤلاء الشعراء الذين سلكوا طريق الهجاء، كانوا يعانون من عيوب خلقية أو ظروف اجتماعية، فالحطيئة كان مغمور النسب، إضافة إلى ذملم الخلقة، وبشار بن برد وأبو العلاء المعري كانا يعانيان من فقدان حاسة البصر، والإحساس بالنقض دافع مهم من دوافع الهجاء، ففي هذا الفن الشعري وجد هؤلاء الشعراء ضالتهم من تعويض ذلك النقص، بالانتقام، وإيلام من حولهم فالهجاء في معظمه منبعث من نفوس حاقدة وغاضبة، تسعى إلى التجريح والتشهير، فدافعه الأساس هو الإيلام والعداء، وهدفه الانتقام والتحقير.
أما السخرية فهي “نوع من الهزء قوامه الاتمناع عن إسباغ المعني الواقعي طله على الكلمات، والإيحاء عن طريق الأسلوب وإلقاء الكلام بعكس ما يقال، وترتكز على طريقة في طرح الأسئلة مع التظاهر بالجهل، وقولشيء في معرض شيء آخر”[7]. وهي بهذا المفهوم أسلوب يرتكز على المراوغة، والإخفاء الموحي بالمعنى الحقيقي، على عكس الهجاء، الذي يعتمد على المباشرة والإيضاح في إبراز العيوب.
كما عرّفها آخر بقوله: “تتمثل السخرية في منهج جدلي، يعتمد الاستفهام البلاغي، إذ تعتبر طريقة في توليد الثنائية، والتعلم على البعد المعرفي”[8]. فالسخرية طريقة ومنهج يعتمده الأديب السهخر في نقد نقائص الناص وعيوب المجتمع، وهي طريقة فنية راقية، لها أبعاد ووظائف في النص. كما أن للسخرية بواعث، تدفع الأديب إلى اللجوء إليها، كالإفراج عن النفس والتعويض، ومن خلال ذلك أغراض كالإصلاح والتقويم، فالسخرية تختلف عن الهجاء من حيث البواعث ومن حيث الأهداف أو الأغراض والوظائف. وإذا كانت السخرية تفترق مع الهجاء في الأهداف والوظائف والغايات، ففيما تفترق مع الفكاهة يا ترى؟
الفرق بين السخرية والفكاهة: قد التبست السخرية بالعديد من المصطلحات القربية منها كالتهكم والهزل والفكاهة ، إلا أن الفكاهة أكثر هذه المصطلحات اختلاطًا بالسخرية من غيرها، وذلك راجع لدلالة كل منها على جانب من جوانب الضحك، إن كانت الفكاهة لا تستملح من كل شخص، وإنما تستملح من الشخص الفَكِه الموهوب[9]، فإن السخرية ملكة نجدها عند الخاصة ممن لديه استعداد فطري لتنمية هذه الملكة، وقد أشار الكاتب المصري الشهير عباس محمود العقاد إلى العبث والغرور بوصفها بابين من أبواب السخر، بل هو جماع أبوابه كافة في رأيه[10]، من هنا نرى أن الفكاهة لا يشترط فيها العبث والغرور، فالشخص الفكه ضحكه سارّ ومبهج، فيها الساخر ضحكه مؤلم ومبكٍ في بعض الأحيان، ولعله بذلك نستطيع الرد على الباحث والكاتب أحمد عبد المجيد خليفة، الذي نحَت من مصطلحي الفكاهة والسخرية ما أسماه “الفكاسخرية”[11] معتبرًا أنهما بمعني واحد، إذا نظر إلى الزاوية التي بلتقي فيها المصطلحان، والتي تمكن فيها يحدثه كل منهما، من الضحك من ناحية، وما يشتر كان فيه من هدف نقدي تهذيبي من ناحية أخري، وفي المقابل ساوى بين أثر كل منهما على الملتقي أو المستهدف بهما، كما أغفل مصدر كل من المصطلحين[12]، أعني: من الساخر؟ ومن الفكاهي؟ أم أنهما يصدران من الشخص نفسه؟ وربما يمكننا الإجابة على ذلك بالقول أن السخرية تعبير عن نوع من من اللاتكيف، كذا الخاص الكامن في شخص تجاه المجتمع[13]. وهذه النظرة لا تجدها إلا عند خاصة الناس ممن يشعرون بأن المجتمع الذي يعيشون فيه غير مقدّر آرائهم وأفكارهم، مثلما نجد ذلك واضحًا عند الشاعر أبي العلاء المعرّي على سبيل المثال، أما الفكاهة فهي “ظاهرة طبيعية ومزية إنسانية وجزء روحي من كل إنسان”[14] وقد بيّن الفرق كثير من الباحثين والدارسين بين الضحك الصادر من السخرية والضحك الصادر عن الفكاهة: “فكتبوا إن الضحك المنبعق من الفكاهة ضحك سارّ ومبهج، لكن السخرية كمؤلمة موجعة كئيبة، ولو انبعث منها أو معها الضحك فهو ضحك حارّ كالبكاء”[15] وربما ذلك راجع لطبيعة النفس الصادر عنها كل من ضحك الفكاهة أو ضحك السخرية.
أجدر بالذكر أن الضحك قاسم مشترك بين السخرية والفكاهة، لكن ضحك الفكاهة هو هدفها وغايتها، وليس لها من عرض غيره، والباعث في ذلك هو الترويح عن النفس لا غيره، فهي مرادفة للمزاح والمداعبة تبعث على الضحك الذي يدخل بدوره الانبساط في النفوس أما ضحك السخرية فهي ضحك مر، شبيه بالبكاء، وهدف السخرية هو الإصلاح والتقويم لنقائص ومتناقضات الأفراد والجماعات، فهي من هذا الجانب أرقى من الفكاهة، لأنها تحمل تؤيا الأديب وخلاصة مواقفه الناقدة، وهو من خلال ذلك يطرد غيضه، وينفسّ عن كربة النفسية، لذلك فهو “يحتاج إلى ذكاءٍ كبير وخيال واسع لإقتناص الكلمات المناسبة، التي تعبر عن هدفه المقصود…”[16]، فأسلوب السخرية غير أسلوب الفكاهة، من حيث اختيار الكلمات، والمعاني والمعبّرة عن الهدف المقصود.
وخلاصة الكلام هي أن ابسخرية تشترك مع الفكاهة في عنصر الإضحاك، لكنها تختلف عنها في الدوافع، والهدف والغرض أو الوظيفة.
السخرية سلاح أدبي: العرب بطبيعهم يميلكون إلى روح النكثة والدعابة، وخفة الروح والسخرية والتهكم، والمزاح والفكاهة، وإثار الضحك، والمرح، وسرور النفس، واشراح القلب، فخطو كتاباتهم عن الطرائق والدعابات. وقد ارتأينا في هذا المحور أن نبدأ حديثنا عن السخرية والدعابة من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وحثه على الترويح عن النفس والفكاهة واستمالة القلوب بشيء من اجل المؤانسة والسرور. فقد قال صلي الله عليه وسلم “لا خير فيمن لا يطرب ولا يطرب”[17].
وقال أبو هريرة رضي الله عنه، قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: “إني وإن داعبتكم فلا أقول إلا حقا”.
ومن مداعبته صلى الله عليه وسلم، التي اتخذت على مر التاريخ هي ما روي عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، أحملني (أي أعطيني دابة أركبها) قال صلعم: “إنا حاملوك على ولد الناقة” قال الرجل: “وما أصنع بولد الناقة؟”، فقال له النبي، وهل تلد الإبل إلا النوق”.
وقد توالت السخرية بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم حتي ومن الصحابة رضوان الله عليهم سيرا على نهج دعابة ومزاح النبي الأكرم صلوات الله عليه وسلمه عليه.
قال عمر بن العاص لمعاوية: رأيت البترحة في المنام كأن القيامة قد قامت ووضعت الموازين، فأحضر الناس للحسابات، وأنت واقف قد ألجمك العرق، وبين يديك صحف كأمثال الجبال، فقال معاوية: فهل رأيت شيئا من دنانير مصر؟.
وكان بجوار هؤلاء المنتذرين من يكره المزاح، وينفر من السخر والتنذر. لكن “سعيد بن العاص” دعا إلى الاعتدال في المزاح، وأوصى ابنه بذلك قائلاً: “اقتصد في مزاحك، فلإفراط به يذهب البهاء، ويجري عليك السفهاء، وتركه يقبض المؤانسين، ويوحش المخالطين”. ولعل التوسط بين الجد والهزل هو المطلوب في التواصل، فلا إفراط ولا تفريط، وفكل شيء ينبغي أي يكون بمقدار لا يغالب مقدار الهزل والجد، ولا مقدار الجد والهزل.
وحتي الأدباء الأعراب كان لهم حظ من الدعابة والسخرية، ويبدو أن الكاب الشهير ابن شهيد لم يكن ساخرا حد الإغتصاب ممن هم حوله وإنما كان عوان بين ذلك، وغالبا ما كان يثيره ويدعوه إلى السخرية هو عندما يرى أن قيمة الفهم الجليلة تنتهك حرمتها، كالكرم ينتهك بالبخل والشجاعة تنتهك بالجبن والشره والضرر والوشاية والغضب… قال الرشيد لـ”الجماز” كيف مائدة محمد بن يحيى البرمكي؟ فقال: شبر في شبر، وصفحة من قشر الخشخاش، وبين الرغيف والرغيف مضرب كرة، بين اللون واللون فترة نبي. قال الرشيد، فمن يحضرها؟ قال: الكرام والكاتبون، فضحك “المهدي” وقال لحاك الله من رجل.
ومرةً دخل شريك بن الأعوار على معاوية ابن أبي سفيان وكان (شريك) ذميماً، فقال له “معاوية” إنك لذميم، والجميل خير من الذميم، وإنك لشريك وما لله شريك، وإن أباك الأعور، والصحيح خير من الأعوار فكيف سدت قومك؟ فقال له: إنك معاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاتعوت الكلاب، وإنك ابن أبي حرب، والسلم خير من الحرب، وإنك ابن أمية، وما أمية إلا أمة صغرت، فكيف صرت أمير المؤمنين؟ ثم خرج وهو يقول:
أيشتمني “معاوية بن حرب” وسيفي صارم، ومعي لساني
وحولي من ذوي يزن ليوث ضراغمة تهش إلى الطعان
يعير بالدمامة من سفاء وبارت الجحال من الغواني
سأل أعرابي “عبد الملك” فقال له: إسأل الله، فقال الأعرابي: سألته فأحالني عليك، فضحك منه وأعطاه.
وتناول السخرية والفكاهة كثير من السلف، كـ”أبي الأسود الدؤولي، وأبو دلامة” والأعمش وألأصمعي وغيرهم كثير. قال أشعس: “إبعثوا لي امرأة أتجشأ في وجهها فتشبع وتأكل فخذ جرادة فتتخم.
نبذة عن حياته: هو أحمد بن عبد الملك بن محمد بن عيسى بن شهيد، المعروف بأبي عامر، أشجعي النسب من ولد الوضاح بن رزاح، الذي كان مع الضحاك يوم المرج، والوضاح هذا جد بني وضّاح من أهل مرسيه، وإليه ينتسبون فبنو الوضّاح، من أشجع من قيس عيلان بن مضر، هكذا نسبه الضبي وعليه أكثر المؤرخين.
ميلاده ونشأته: ولد أبو عامر ابن شهيد عام 383هـ (992م) في مدينة قرطبة، بالأندلس، وهي آنذاك في أزهى عصورها التاريخية، تعج بالعلماء والأدباء، ومجالس الأدب واللهو، وتربي في قصور بني عامر، إذ كان أبوه وزيرا من المقربين في الدولة العامرية، كما عرفت أسرته بالأدب، إلا أنه كما قال ابن سعيد: “أعطم هذا البيت شهرة في البلاغة”، إذ نال قسطا وافراً من معارف زمانه، وبرع في الكتابة والإنشاء والشعر.
بيئة ابن شهيد: نشأ أبو عامر ابن شهيد في مدينة قرطبة كما ذكرنا آنفا وهي آنذاك في أزهى عصورها التاريخية، تعج بالعلماء والأدباء، ومجالس الأدب واللهو، وتربي في قصور بني عامر، إذ يذكر في رسالة له في كتاب الذخيرة كتبها إلى عبد العزيز بن ناصر بن المنصور بن أبي عامر[18]، يمتّ فيها بتربيته في قصور بني عامر، إذا يعد أفضالهم عليه، وعلى أبيه منذ كان صغيراً، فقد كان أبوه وزيرا من المقربين في الدولة العامرية.
نال ابن شهيد قسطاً وافرا من معارف زمانه، وبرع في الكتابة الإنشاء والشعر، ومدح بشعره عددا من الخلفاء، وذوي الشأن في فترة الفتنة التي ضربت بلاد الأندلس (400-422هـ)[19]، فمن قصيدة يمدح بها الناصر قوله:
رعيت من وجه السماء خميلة حضراء لاح البدر من غدرانها
وكأن نثر النجم ضان عندها وكأنما الجوزاء راعي ضانها [20]
ولعل تقربه بشعره من الملوك والأمراء كان أكثر من تقربه بنثره وكتابته الفنية، التي كانت أمنية سعي إلى تحقيقها وقد كان للكتابة في بيئة الأندلسية أهمية كبرى. وبلغ من أهمية الكتابة أنها أصبحت جسرا يعبره الكتاب للوصول إلى المناصب العليا، إذ أن الوزارة تتصل قبل كل شيء آخر بالكتابة، فإذا كان الكاتب على مقدرة شعرية ممتازة صحّ له أن يبلغ مرتبة الوزارة، ويكون شعره ميزة تعنيه على ذلك، لكنه لو انفرد بالشعر دون الكتابة لما استطاع أن يبلغ تلك الوظيفة[21].
أعماله الأدبية: قد ترك لنا أبو عامر بن شهيد تراثاً أدبياً لا ريب أنها كثير، إلا أنه لم يصلنا كاملاً، أو لم يصلنا بعضه تماماً، وربما يرجع ذلك إلى ظروف العصر وأحداثه، التي أثّرت على كل البلاد، بما فيها العلماء والكتاب ومصنفاتهم، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك وصلنا البعض منها، والتي عدّها النقاد أشهر ما ترك أبو عامر ابن شهيد:
- كشف الدك وإيضاح الشك: وهو كناب مفقود، ولكن يبدو أنه كتاب في علم الحيل الخرفات[22].
- حانوت عطّار: وهو أيضا كتاب مفقود، إلا أنه توجد منه بعض النصوص في بعض المصادر، مثل: “المغرب في حلى المغرب[23]” وقد ذكره صاحب “البغية”[24]. ويبدو أنه كتاب أدبي نقدي، إذ يقول عنه إحسان عباس: “فإنه لم يصلنا، لكن الحميدي نقل عنه في “جذوة المقتبس”، وتدل نقوله على أن الكتاب تراجم لشعراء الأندلس، فهو سابق لكتاب “الأنموذج” في هذا المضمار”[25].
- الرسائل النقدية: وتعد أيضاً من أهم أعمال الكاتب، لأن فيها آراء قيمة وجديدة في ميدان النقد آنذاك يرجع الفضل فيها إليها، وهي متواجدة بكثرة في ذخيرة ابن بسام[26].
- شعر ابن شهيد: وقد خلف ابن شهيد تراثا شعريا ضخما، جمعه وحققه في ديوان: الأستاذ يعقوب زكي، كما جمعه أيضاً: شارل بلا عام 1963م، وكتب مقدمته الأستاذ بطرس البستاني[27].
خصائص أعماله: لقد أجمع القدماء على وصف أعمال ابن شهيد بالبراعة، وأثنوا على هذا الأعمال ونعتوه بنعوت الجودة، فهذا الثعالبي يقول: “إن أعماله في غاية الملاحمة”[28].
وذلك ابن حيان يصف أعماله بقوله: “وله رسائل في فنون الفكاهة قِصار وطِوال، برز فيها شأوه، وبقّاها في الناس خالدة بعده…”[29].
ومن خصائص أعمال ابن شهيد كثرة الاقتباسات وتضمينات والتلميحات، فالقارئ لأعماله يجد فيها الكثير من المخزون الثقافي والموظف، فنجده مثلاً في وصفه للثعلب يقول: “وحتي تصف ثعلباً فتقول: أدهى من عمرو، وأفتك من قاتل حذيفة بن بدر، كثير الواقائع في المسلمين، مغرى بإراقة دماء المؤذنين، إذا رأى الفرصة انتهزها، وإذا طلبته الكماة أعجزها، وهو مع ذلك بقراط في إدامه، جالينوس في اعتدال طعامه، غذاؤه حمام أو دجاج، وعشاؤه تدرج أو درّاج”[30].
من خلال هذا الوصف لقد نلاحظ كثرة التضمينات والتلميحات والإشارات إلى الأسماء وشخصيات تاريخية معروفة، وأيضاً نجد أن كثرة الاقتباسات والتلميحات في أعمال ابن شهيد تعد مطلبا من مطالب القرن الرابع إلى الخامس الهجري عموماً، سواءً في مغربه أو مشرقه، بل إن ذلك في عصر الكاتب ابن شهيد، يعد دليلاً على سعة الثقافة، وكثرة الإطلاع مما يرسخ قدم الكاتب في مجال الإبداع الأدبي لأن ذلك يعد شرطاً في كل مبدع.
الجدير بالذكر يمكننا أن نحدد أهم خصائص الأعمال الفني لابن شهيد الأندلسي، ونجمل هذه الخصائص كما يلي:
- يحذو اعمال ابن شهيد حذو نثر الكتاب المشارقة كالجاحظ وعبد الحميد الكاتب وبديع الزمان الهمداني، فتميز أعماله بأهم الخصائص الكتابية في العصر العباسي مثل: استخدام السجع، والجناس والبديع، والإكثار من التلميحات والتضمينات والاستشهاد من القرآن الكريم والشعر العربي، والأمثال المأثورة، والإشارات التاريخية.
- تميز جانب كبير من رسائله الأدبية بطابع الهزل والسخرية والفكاهية في أغلب الأحيان حتي غلبت على هذا النثر الفني، وأصبحت ميزة بارزة من مميزاته.
- جاء أعماله الفني في الغالب في شكل أوصاف، عارض بتلك الأوصاف الكاتاب المشارقة، ويظهر ذلك من خلال رسائله الوصفية، التي يبدو من خلالها معجباً أيما إعجاب بقدرة البديع الكبيرة على الوصف، وإلى جانب ذلك تميزت أوصافه بالدقة في استقصاء جزئيات الموصوف، والتركيز على الجانب المادي فيه وخير الأمثلة وصفه للبرغوث والبعوضة والثعلب ووصفه الجميل للإوزة الوارد في رسالة “التوابع والزوابع”.
التعريف بـ”رسالة التوابع والزابع”: هذا هو الإنتاج الأدبي الأكثر شهرة، من بين أعمال ابن شهيد وهي رحلة خيالية إلى عالم الجن، عرض فيها أبو عامر إنتاجه من المنظوم والمنثور، على توابع الشعراء والكتاب العرب المشاهير، مستعرضاً آراء هولاء، مظهراً منهم الاعتراف له بالإجادة، بل يومئ أحيانا إلى تفوقه على بعضهم، بالإضافة إلى مافي هذا العمل من آراء أبي عامر في مختلف القضايا النقدية المطروحة في ذلك الوقت، كما سخر في هذه الرسالة ممن كان يكيد له الحقد والحسد من أهل عصره، ومن العصر وما ساده من فسادٍ آنذاك. وقد تبرز سخرية الكاتب وتتجلى أكثر في إنتاجه هذا فهو مليئة بالسخرية من بعض رجال عصره على اختلاف مجالاتهم، ومن العصر الذي عاش فيه.
آلية السخرية في النص: إن السخرية قد تعد من أبرز الآليات، التي ساهمت في تأليف نص التوابع والزوابع كونها ساهمت في بنائه وتكوينه، كما أنها شغلت حيزا مهما من مساحة النص، فمن بداية النص إلى نهايته نجد السخرية تتجلى وتتمظهر في صور مختلفة وأنماط متعددة، فمن السخرية اللفظية، التي عكست أفكار المؤلف ونقده لما كان سائدا في الساحة الأدبية في عصره، وما كان يعانيه كأديب من بعض حساده ومبغضيه، إلى نوع آخر من السخرية، وهي السخرية السلوكية، التي كشف من خلالها الكاتب، وفضح بعض التصرفات المناقضة والمخالفة لآداب الجماعة في عصره، فأزال القناع عن تلك المظاهر الزائفة، التي يبديها بعض الناس، ويخفون ما يناقضها. كما اتج الكاتب من سخرية الصورة سلاحا لتشويه صورة خصومه، من الحساد والمبغضين، وإبراز هذه الصورة في أسوء تصوير مادي، وفي المقابل إبراز الذات المبدعة وتفوقها في الميدان الشعري والنثري.
وقد كانت السخرية السردية في نص هذا تشتغل وفقا للعناصر السردية المكونة لبنية النص من سرد، ووصف، وحوار، وشخصيات، فكل عنصر من هذه العناصر صاحبته السخرية، وعملت عملها فيه، وسنتطرق إلى كيفية اشتغالها في كل واحد من هذه العناصر، كآلية بارزة، وأداة إجرائية استخدمها ابن شهيد لغرض إجلاء رؤيته النقدية للقاري الذكي، الذي يستطيع اكتشافها وتفسيرها.
استخدام الرمزية في النص: يعد الرمز نوع من الإشاراة والإيماء، وهو من الوسائل اللغوية التي استعملها الكاتب في ألفاظه الساخرة، أنه استخدم أسماء بعض الحيوانات التي عرفت منذ القدم ببعض الصفات كالحمق والطيش والجبن وغيرها، والتي تميز سلوكها وتصرفها، فاتخذ مثلا من اسم الإوزة رمزا لأحد شيوخ اللغة في زمانه. كما اتخذ من اسم البغلة رمزا لرجال السياسة في عصره، وسماها “بغلة أبي عيسى”، فهذا الحيوان وما يرمز له من بلادة وحمق، في ذهن المتلقى، إضافة إلى ضخامة الجسد، يكون مثار سخرية خاصة إذا عرف المتلقى أن ذلك الحيوان، هو فقط رمز من الرموز، يمثل إحدى الشخصيات في عصر الكاتب فتزداد السخرية، وتعظم، والحوار الذي دار بين الكاتب وبين تلك البغلة يكشف عن ذلك، إذ يجيبها بعدما سألته عن حال إخوانها في المجتمع عصره، قائلاً: “ومن إخوانك من بلغ الإمارة، وانتهى إلى الوزارة”[31]، فدلت هذه العبارة أن اسن البغلة هما، ما هو إلا رمز لرجال السياسة في عصره، فهُمْ أشبه مايكونون البغلة، في تفكيرهم وسياستهم وإدارتهم وتسييرهم لأمور الحكم، فقد بلغوا مراتب عليا لكن دون فائدة ترجى منهم، ولعل ما حرم منه الكاتب من اتصال بهؤلاء الحكام، هو ما جعله يسخر منهم، أو يرمز لهم برموز ساخرة.
الإصلاح والتقويم في النص: كان ابن شهيد ناقدا، نافذ البصيرة، ذا حساسية نقدية عالية، أحس نقائص ومتناقضات العصر والمجتمع وأفراده، فسخر من تلك الأوضاع وانتقادها، لكن لم يكن لمجرد السخرية في حد ذاتها أو لمجرد إشباع حاجاته ال وحية وإراحة نفسه بتلك السخرية فقط، بل كان لسخريته بعد أسمى من ذلك ألا وهو لغرض الإصلاح والتقويم الذي نلمحه في الكثير من مواضع السخرية في النص. ولعل السخريو هي أبرز تلك الوسائل التي نعالج بها مثل هذه العيوب والنقائص في الأفراد، لأن الساخر يسلط الضوء على تلك العيوب فيُبرزها أكثر للعيان ولما يحس المسخور منه بأنه مثار سخرية، أو أن صفاته وسلوكه يضحك منه غيرهن فيرتدع بهذه الطريقة ويحرص على تجنب ما يضحك منه الآخرين، فتكون السخرية هنا أنجع طريقة لردع هؤلاء وربما تكون فاعليتها في الإصلاح والتقويم أكثر من أي وسيلة أخرى.
وحينما رجعنا إلى أعماله نجد أن ابن شهيد من الأدباء الذين سعوا إلى الإصلاح في مجتمعاتهم، عن طريق أعماله الأدبية، رغبة في تغيير تلك الظواهر السلبية إلى الأفضل والأحسن، وأنه لم ينس مظاهر الفساد وتقلب الأوضاع في عصره، وما لحق البلاد من أضرار من جراء الفتنة وتبدل الأوضاع السياسية، فأخذ على عاتقه التصدي لتلك الأوضاع بسلاح السخرية، راجيا في تلك الإصلاح والتغيير. ويتجلى البعد الإصلاحي أو التقويمي لسخرية ابن شهيد في كثير من المواضع في أعماله كما يقول:
وأصبحت في خلف إذا ما لمحتهم تبينت أن الجهل إحدى الفضائل
وما طاب في هذي البرية آخر إذا هو لم ينجد بطيب الأوائل
أرى حمرا فوق الصواهل جمة فأبكي بعيني ذلّ تلك الصواهل
وربت كتاب إذا قيل زوّروا بكت من تأنيهم صدور الرسائل[32]
وقد يبدو من خلال هذه الأبيات الشعرية أنها تعبير صارخ من ابن شهيد عن تغير الأوضاع في عصره إلى الأوسوء، فأصبح بين جيل من الناس، ينتمى وهو بينهم لو كان جاهلا، لا يعى حقيقة ما يجرى إلى درجة أن الجهل في نظره أصبح إحدى الفضائل، ذلك أن هذا الجيل من الخلف لم يتبع طريق من بقله من الأجدادا الأوائل، بل هو سائر على طرق حديثة مختلفة عما كان يألفه، فشبه فرسان عصره بالحمر، التي تمتطي الصواهل، فيبكي لذلك المظهر الذي دلّ فيه الجياد. وحاملوا الرماح في عصره من حماة الوطن، فهم أشبه ما يكونون بالجوارى الحسان، اللواتي يحملن مغازل في الحي، فلا تبدو على هؤلاء صفة الرجال الشجعان الأقوياء الذين هم أهل للذود عن الوطن وحمايته. ونستشف من دلالة هذه الأبيات الساخرة شعور الحسرة والألم اللذين كان الكاتب يحسّهما إزاء هذه الأوضاع التي يعيشها عصره في مختلف الجوانب، ومن خلال ذلك تبدو رغبة الكبير في إصلاح الفساد الذي عمّ المجتمع.
والجدير بالذكر أن رصد ابن شهيد لتدني الأوضاع في عصره، يدل على أن سخريته ذات رؤية بعيدة، وهدف أسمى، فهو يرفض ويعبر بلغة ساخرة عن هذا الرفض، ويسعى من خلال ذلك إلى الإصلاح، ومن وراء إبراز العيوب والنقائص إلى التقويم، وينتمى ويرغب في مجتمع مثالي خالٍ من تلك النقائص.
وفي الفصل الرابع من رسالة التوابع والزوابع وفي لقاء ابن شهيد لحيوان الجن، يلتقي بغلة، يجعلها رمزا لرجالالسياسية في عصره، والحوار الذي دار بينه وبينها ينكشف عن سخريته من هؤلاء الرجال، الذين يتقلدون مناصب في الدولة، وهم مثل تلك البغلة عقلا وتفكيراً ، ولا ريب أن “السياسة هدف طبيعي للسخرية، إذ هي مسرح دائم للرشوة، والفساد والمنفعة الطبقة”[33].
وأحداث الفتنة والتقلباتالسياسية، التي شهدتها بلاد الأندلس، وخاصة قرطبة مسقط رأس الكاتب والمنافسة على المناصب السياسية، لأناس ليسوا أهلاً للسياسية فحكم البلاد رجال تنقصهم الحكنة السياسية والخبرة، والتفكير الراشد، والتخطيط السياسي الصائب، لذا تصدى أديبنا لهؤلاء، بسخريته منهم، ومن عقولهم قائلاً في لقائه للبغلة: “وقالت لي: البغلة ما تعرفني أبا عامر؟ قلت: لو كان ثمة علامة! فأطامت لثامها، فإذا بغلة أبي عيسى، والخال عن خدها، فتباكينا طويلا، وأخذنا في ذكر أيامنا، فقالت: ما أبقت الأيام منك؟ قلت ما ترين، قالت: شبّ عمرو عن الطوق! فما فعل الأحبة بعدي…..”[34].
لقد أشرق من هذا الحوار تبدل الأوضاع السياسية عما كانت عليه من قبل، إذ أصبحت الحالة السياسية أسوأ من ذي قبل، في هذه الفترة بالذات، وفي قول الكاتب: فتباكينا طويلاً وأخذنا في ذكر أيامنا” ما يدل على الحنين للماضي القريب ولما فيه من أحوال يسودها الاستقرار، ويحكمها رجال أكفاء. وعندما تسأله البغلة: “ما أبقت الأيام منك؟ فيجيبنا: “ما ترين، فتقول: شب عمرو عن الطوق”، وفي دلالة هذا المثل ما يعبر عن تبدل الزمان في هذا العصر، وبعدها تسأله عن الأحبة والأصدقاء، فيجيبنا قائلاً: “شب الغلمان، وشاح الفتيان، وتنكرت الخلان، ومن إخوانك من بلغ الإمارة وانتهى إلى الوزارة”، ففي هذا الجواب ما يشير إلى تغير الأصدقاء والخلان، وتبدل أحوال السياسية في هذا العصر، فأصبح أشباه البغال يحكمون البلاد، ويسوسون أمورها في الإمارات والوزارات، ونسوا عهد الأصدقاء. كما أن هذا الحوار يعبر عن حالة الفنسية التي تمر بها الكاتب، من تحسر وألم على ما آلت إليه الأوضاع في عصره من اتضاع وفساد سياسي، فأخذ يسخر من ذلك، من خلال حواره مع تلك البغلة، التي جعل من اسمها رمزاً لهؤلاء الساسة.
استنتاج البحث: وفي الاختتام يمكننا أن نقول إن السخرية لها تأثير قوى، وفاعلية لا يستهان بها في التغيير والإصلاح وتقويم العيوب، وذلك لما لها من تأثير في النفوس، أقوى من تأثير وسائل ماذية أخرى. ومن خلال تجلي السخرية في النص بوصفه نصا سرديا قديما وجدنا أن السخرية اشتغلت كآلية إجرائية داخل النص، وقد لازمت السخرية النص من بدايته إلى نهايته، وبين تلميح وتصريح، وقد تنوعت لغة السخرية في نص التوابع والزوابع فعلى كستوى الألفاظ تنوع المعجم اللفظي للنص، وغمتاز بشعبية الألفاظ، وأسلوب الترميز والتلميح. ولاريب أن لأوضاع العصر الذي عاش فيه ابن سهيد أثره في نفس الكاتب كونه إنسان محب لوطنه، فقد أحب قرطبةوتغني بحبها كثيراً لذلك استاء لأوضاع عصره التي تغيرت في كل الميادين الاجتماعية، فكان من أبعاد سخريته البعد الإصلاحي التقويمي، فمن مقاصد الكاتب في نصه التقويم والمعلجة لأوضاع العصر، والذي عبر عن رفض لما آل إليه، راغبا في التغيير والإصلاح وقد لمحنا ذلك من خلال نصه التوابع والزوابع.
[1] ابن منظور، لسان العرب، مج 15، دار صادر، بيروت، 2005م، ص 59،60.
[2] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، مطبعة الحلبي، ط3، 1980م، 3/144.
[3] الزبيدي، تاج العروس، دار ليبيا للنشر، ط1، بنغازي، مادة سخر، 3/313.
[4] هنري برجسون، الضحك، ترجمة: سامي الدروبي وعبد الله الدايم، دار اليقضة العربية، ط1، دمشق، 1964م، ص 13.
[5] محمد حسين، الهجاء والهجاؤون في الجاهلية، دار النهضة للطباعة والنشر، ط3، بيروت، 1970م، ص 12.
[6] إيليا حاوي، فن الهجاء وتطوره عند العرب، دار الثقافة، بيروت، ص7.
[7] جبور عبد النور، معجم المصطلحات الأدبية، دار العلم للملايين، ط1، بيروت، 1979، ص 138.
[8] سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتب اللبناني، ط1، بيروت، 1985م، ص 106.
[9] فتحي محمد معوّض أبو عيسي، الفكاهة في الأدب العربي إلى نهاية القرن الثالث الهجري، ص32.
[10] عباس محمود العقاد، حجا الضاحك المضحك، ص38.
[11] فن الفكاهة والسخرية عند شعراء مصر المملوكية، ص16.
[12]فن الفكاهة والسخرية عند شعراء مصر المملوكية، ص15.
[13]هنري برجسون، الضحك،ص11.
[14]شفيق طبارة، الفكاهة في التاريخ، مجلة الأدب، 1/41، س9، عام 1944م.
[15] أحمد بن على آل مريعن مفهوم السخرية في الأدب وقيمتها، المجلة العربية.
[16] باسم ناظم المولى، الفكاهة في مقامات بديع الزمان الهمداني، دار الكتب والوثائق القومية، العراق، 2012، ص 85.
[17] العقد الفريد، ابن عبد ربه، ج2، ص 307، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، مصر، سنة 1942م.
[18] ابن بسام، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، ج1، 1989م، ص 193.
[19] ابن سعيد، المغرب في حل المغرب، تحقيق وتعليق: شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، ط3، 1/79.
[20] المرجع السابق، ص79.
[21] فايز القيس، عبد النبي، أدب الرسائل في الأندلس في القرن الخامس الهجري، ط1، دار البشير، عمان، 1989م، ص 145.
[22] عبد الله سالم المعطاني، ابن شهيد الأندلسي وجهوده في النقد الأدبي، منشأ المعارف بالإسكندرية (د ط، د ت)، ص 43.
[23] راجع: بعض النصوص من حانوت عطار في كتاب المغرب في حلى المغرب لابن سعيد 1/85-86.
[24] الضبي بغية الملتمس، تحقيق: روحية عبد الرحمن السويفي، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت لبنان، 1997م، ص 164.
[25] إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، نقد الشعر من القرن 2هـ – 8هـ، دار الشروق عمان، ط2، 2006م، ص 483.
[26] ابن بسام، الذخيرة، 1/231.
[27] عبد الله سالم المعطاني، ابن شهيد الأندلسي وجهوده في النقد الأدبي، نقلا عن يعقوب زكي: ديوان ابن شهيد، دار الكتاب العربي، القاهرة، مراجعة محمودمكي، وشارل بلاث، ديوان ابن شهيد، دار الكشوف، بيروت، ط1، 1913م.
[28] الثعالبي أبو منصور، يتيمة الدهر، 2/57.
[29] ابن بسام، الذخيرة، 1/192.
[30] ابن شهيد، رسالة التوابع والزوابع، ص 126-127.
[31] ابن شهيد، رسالة التوابع والزوابع، ص 149.
[32] ابن شهيد، رسالة التوابع والزوابع، ص 113.
[33] إليزابيث دور، الشعر كيف نفهمه ونذوقه، ترجمة: محمد إبراهيم الشوش، ط1، بيروت، 1961م، ص 89.
[34] ابن شهيد، رسالة التوابع والزوابع، ص 149.
قائمة المراجع والمصادر:
- الأندلسي، أبو عامر بن شهيد، الديوان، مجع وتحقيق وشرح، محي الدين ديب، المكتبة العصرية ااطباعة والنشر، صيدا بيروت، 2002م.
- الزبيدي محمد مرتضى، تاج العروس، ج3، دار ليبيا للنشر، ط1، بنغازي.
- الثعالبي أبو منصور عبد الملك، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، تحقيق: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000م.
- الضبي أحمد بن يحي بن عميرة، بغية المتلمس في تاريخ رجال الأندلس، تحقيق: روحة عبد الرحمن السويفي، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، لبنان، 1997م.
- الشنتريني أبو الحسن على، تحقيق: إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، القسم الأول، ج1، 1989م.
- المراكشي ابن عذارى، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق: ج. س. كولان وأ. ليفي بروفنسال، دار الثقافة، بيروت،.
- العقد الفريد، ابن عبد ربه، ج2، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، مصر، سنة 1942م.
- عبد الله سالم المعطاني، ابن شهيد الأندلسي وجهوده في النقج الأدبي، منشأة المعارف بالإسكندرية.
- عبد الفتاح عوض، السخرية في روايات بايستير، دراسة لغوية سيكولوجية، عين الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط1، القاهرة، 2001م.
- هنري براهسون، الضحك، ترجمة سامي الدروبي، وعبد الله عبد الدايم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م، ص 23.
- عبد العزيز شرف، الأدب الفكاهي، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، ط1، 1992م.
- عبد الحليم حفني، التصوير الساخر في القرآن الكريم، المهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1992م.
- عبد الرحمن الجبوري، السخرية فس شعر البردوني ـــــ دراسة دلالية ـــــ المكتب الجامعي الحديث، طذ، العراق، 2011م.
- عبد الرحمن شاكر، الفكاهة والضحكن عالم المعرفة، الكويت، 2003م.
- زكي مبارك، النثر الفني في القرن الرابع الهجري، ج2، المكتبة التجارية الكبرى، ط2، مصر، د ت.
- حامد عبده الهوال، السخرية في أدب المازني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982م.
- جميل جبر، نوادر الجاحظ، سلسلة عالم الفكاهة، دار الحضارة، الجزيرة.
- المقري أحمد بن محمد التلمساني، نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: يوسف الشيخ ومحمد البقاعي، ج2، دار الفكر للطباعة، والنشر والتوزيع، ط1، بيروت، 1989م.
- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، مطبعة الحلبي، ط3، 1980م، 3/144.
- أحمد أمين، فيض الخاطر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ج1، 1943م.