سيد شاه خليل الله بشير
باحث الدكتوراه بالقسم العربي بالجامعة العثمانية ، حيدرآباد ، الهند
علم التصوف في الهند:
إن تاريخ التصوف الإسلامي في الهند يدلنا علي أن المجتمع الإسلامي لم يزل و لا يزال متأثراً بالتصوف منذ فتحها الغزنويون. ثم بدأ نفوذه يزداد يوما فيوما ، حتي لا تكاد تجد عالماً أو مصلحاً إلا وهو متسمك به ، وذالك لأن العلماء و الفضلاء السابقين كانوا يعتبرونه نوعاً من الإحسان و وسيلة مجربة لتربية المسلمين وتزكيتهم –
فالتصوف الإسلامي بلاريب وجد خير ملجاءٍ له في هذه المنطقة ، حتي أنه قد قام بعض الشيوخ لتصنيف الكتب في هذا العلم الشريف ، ففي مقدمتهم : الشيخ أبوالحسن علي بن عثمان الهجويري (م: 465 هـ) , فانه صنّف كتاباً عظيماً “كشف المحجوب ” في علم التصوف بالفارسية – ([1])
في القرن الخامس الهجري بلغ التصوف بالهند قمة الرقي والازدهار في القرن السابع الهجري في عصر الشيخ معين الدين الجشتي الأجميري (المتوفي : 627 هـ) و انتشرت من هنا سلاسل وطرق شتّي له ، ومن أشهرها الطريقة القادرية والطريقة الجشتية والطريقة النقشبندية والطريقة السهروردية و غيرها-
فجملة القول أن التصوف الاسلامي لم يزل رقي في هذه القارة ، وكثير من الهنود اعتنقوا الاسلام بأثر التصوف الإسلامي ، ولكنىه مع مرور الزمان قد تأثر بالفلسفة اليونانية وغيرها . لأن كثيراً من المتصوفة الجهلة أحدثوا فيه أموراً من البدع والمنكرات وأدخلوا فيه الرياضات و المجاهدات المشابهة بالرياضات الهندوكية و البوذية و قام كثير من العلماء البارزين و الصالحين بإصلاح التصوف ، و أسهموا سهماً كبيراً في تطهيرها تصنيفاً و تأليفاً ، شرحاً و تدريساً ــ
و من هؤلاء المحدثین الکبار و العلماء الأعلام ؛ الشیخ الشاه عبد الحق بن سیف الدین بن سعد الله البخاری الدهلوی ۔ وهو أحد مشاهير علماء الهند ، و علم من أعلام العلوم الإسلامية ، و منارۃ من منارات السنة المحمدية ، و يُعد من رواد النهضة الحديثية و الفقهية في الهند وهو أول من نشر علم الحدیث بأرض الهند تصنیفاً و تدریساً ، وأنه بنفسه كانت مدرسة و شخصيته موسوعية ــ
اسمه و أسرته و مولده:
هو عبد الحق بن سيف الدين السيفي القادري بن سعد الله بن فيروز الشهيد بن الملك موسي بن الملك معز الدين بن آغا محمد ترك البخاري ، لم يذكر الشيخ نسبه فوق آغا محمد ترك البخاري في كتابه “أخبار الأخبار” ، و كنيته أبوالمجد و معروف بلقبين المحدث و الشاه –
ولد الشیخ فی شهر محرم سنة 958 هــ الموافق ینایر 1551 م بمدینة ’’دلهي‘‘ ، و نشأ نشأۃ صالحة ، و تربّی تربية دينية ، وترعرع فی جو علمی امتاز بالشرف ، والطهارۃ ، و العلم ، و الفضل ، و تلقی دروسه الابتدائية من والدہ ، و بعد الانتهاء من المرحلة الأولی ، اتجه الي حفظ القرآن الكريم والعلوم و الفنون العقلية و النقلية و تلمذ علی العلماء الأجلة والأساتذۃ المتضلعین فی العلوم الإسلامية و فنونها ، و بذل جهداً عظیماً فی طلب العلم ۔ ([2])
رحلته إلي الحرمين الشريفين في طلب الحديث الشريف و التصوف:
و بعد إكمال الدراسات العليا في العلوم الإسلامية ، سافر إلی الحرمین الشریفین فی طلب علوم الحدیث النبوي و التصوف في سنة 996 هـ ، وأخذ الحدیث الشريف و التصوف عن كبار محدثيهما و قرء عليهم الحديث الشريف ــ و مكث الشیخ فی الحجاز أربع سنوات مكتسباً عن محدثيها و علماءها العلوم الإسلامية عامة و الحدیث الشریف علی صاحبه الصلاۃ والتسلیم خاصةً ۔ و من أشهرهم: الشیخ عبد الوهاب بن ولی اللّه المتقی الهندی تلمیذ خاص للشیخ علی المتقی صاحب ’کنز العمال‘ ، و القاضی علی بن جار الله بن ظهیرۃ القرشی المخزومی المکی ، و الشیخ أحمد بن محمد أبی الحزام المدنی ، والشیخ حمید الدین بن عبد الله السندی المهاجر و أمثالهم ۔ و أجازوه جميعاً إجازة عامةً و أثنوا عليه ــ ([3])
في مجال التدريس و الإفادة:
رجع الشيخ الدهلوي إلی الهند سنة 1000 هــ و قام بنشر علم الحدیث بتأسيس مدرسةٍ خاصةٍ مختلفةٍ عن المدارس الأخري فی دلهی ، و تُعد أول مدرسة في شمال الهند ، و کان یجتمع فيها كثير من الطلاب من البلدان المختلفة لتحصيل الحديث الشريف و الإجازة فيه ۔ و أقام بدلهی 52 سنةً و نشر العلوم لا سیما الحدیث الشریف بحیث لم یتیسر مثله أحد من العلماء السابقین فی دیار الهند ۔ توفي الشيخ الدهلوي سنة 1052 ه بدلهي ، و دفن بها ــ
و إنه إلي جانب عكوفه علي نشر علم الحديث الشريف في مدرسته ، كان له إهتمام بالغ في مجال التصنيف و الـتأليف في الموضوعات العديدة في جميع العلوم الإسلامية نحو: التفسير ، و الحديث ، و النحو ، و البلاغة و علم اللغة و السير و غيرها ، و عدد مؤلفاته يبلغ أكثر من ستين كتاباً ، و ذكر المؤلف نفسه تسعة و أربعين كتاباً في قائمة مؤلفاته باسم ” تاليف القلب الأليف بذكر فهرس التواليف” ـــ و لا يوجد ذكر أحد عشر تأليفأ فيها لأنه ألفها بعد وضع هذه القائمة ــ
شيوخه في التصوف:
وقد تلقي الشيخ التصوف والكمالات الروحية من الشيوخ الذين يأتي ذكرهم فيما يلي:
- من والده الشيخ سيف الدين القادري (المتوفي: 990 ه ) الذي كان من أتباع الشيخ أمان الله الباني بتي (المتوفي: 957 ه) في الطريقة القادرية.
- من الشيخ سيد موسي الكيلاني (المتوفي: 978 هـ) ، وقد بدأ ياخذ منه التصوف ولم يتجاوز الدهلوي السنة الثامنة والعشرين من عمره ، وضريح الشيخ سيد موسي معروف في منطقة “أوش” في ملتان بضريح سيد موسي الشهيد ، وكان من أسرة الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره ـــ ([4])
- بايع الشيخ عبد الحق الوهاب المتقي (المتوفي: 1100 هـ) من أقطاب مكة المكرمة و كان شيخاً للشاذلية من الطريقة القادرية كما كان شيخا للطريقة الجشتية أيضاً ــ ([5])
- بايع الشيخ الخواجة باقي بالله الدهلوي (المتوفي: 1042 ه) في الطريقة النقشبندية وكسب الأوصاف لهذه الطريقة من الذكر والمراقبة وغيرها ـ و ذُكر” أن الشيخ الدهلوي بايع الشيخ باقي بالله علي حكم الشيخ عبد القادر الجيلاني (المتوفي: 561 ه)” ــ ([6])
إضافةً إلي مبايعة لهؤلاء الشيوخ الأربعة ، فقد بايع الشيخ عبد القادر الجيلاني أيضاً في عالم الرؤيا بحضور الرسول صلي الله عليه وسلم الذي بشره بأنه سوف يكون شيخا جليلا و صوفيا يوما من الأيام ــــ ([7])
الشيخ عبد الحق الدهلوي صوفياً:
إن التصوف الحقيقي هو روح الإسلام و خلاصة الإيمان ، و هو تفسير كتاب الله و شرح سنة الرسول – عليه الصلاة و التسليم – و لكن مع مرور الزمان المتصوفة الجهلة و الضالة قد أدخلوا فيه البدع و المنكرات و المجاهدات التي لا تلائم بالشريعة و السنة المطهرة ، و كان قرن صاحبنا – القرن العاشر الهجري – معروفاً بالبدعات و الخرافات و الأوهام ، و رجال التصوف كانوا يخالفون الشرع في عباداتهم و معاملاتهم ، و شاهد صاحبنا بأم عينه أن الصوفيه الجهلة هجروا الكتاب والسنة و نبذوهما وراء ظهورهم واخترعوا البدعات و المنكرات وسموها بأسرار الطريقة ، و أعرضوا عن العمل بالشريعة الظاهرة , بل قال بعضهم: “إن الصلوة والصوم وغيرهما من الأعمال الشرعية : هي “عمل الأيامي”, وأما الرجال فلهم أعمال أخري – نعوذ بالله من أفكارهم السيئة- ([8])
و في هذا الجوّ شمّر عن ساعده بتطهير التصوف من البدع و المنكرات و إزالة الشوائب عنه و إحذار الناس من المتصوفين الجاهلين و قدّم التصوف الحقيقي و أثبت كل شيء من كتاب الله و السنة المطهرة تصنيفاً و تأليفاً و يؤمن بأن الشريعة تفوق علي الطريقة ، و يعمل بوصية شيخه الشيخ عبد الوهاب المتقي قولاً و فعلاً: (كُن فقيهاً صوفياً و لا تكن صوفياً فقيهاً) – أي كن طالباً لتحصيل علوم الشريعة من القرآن الكريم و الحديث الشريف و الفقه و غيرها أولاً ، ثم اتجه إلي علوم الطريقة و الحقيقة ــــ
أن الشيخ عبد الحق الدهلوي دافع التصوف الاسلامي الحقيقي و سعي سعيا مشكوراً لإصلاح التصوف المخلوط بالفكرات الأجنبية ، و أنه ولو كان معروفاً بالمحدث ولكنه لم يكتف بنهل العلوم الظاهرة بل حصل أيضا علي العلوم الباطنة من المشائخ الكبار، حتي برع فيها ، كما يبدو من مؤلفاته القيمة التي ترشدنا إلي آرائه الجليلة في التصوف-
أسلوبه العلمي في الكتابة و التأليف:
و له الكتب و الرسائل و مطولات ، و شروح و تعليقات في شتي العلوم و الفنون الإسلامية ، و إن أسلوبه واضح و علمي ، و يمتاز علي أسلوب علماء زمانه بجمال اللفظي و المعنوي ، وفي مولفاته عبارات جلية و واضحة ، و يشرح المؤلف المصطلحات العربية و الحديثية بطريقة سهلة و بساطة ، و لم يكتب قط عن موضوع لم يستوفه دراسة و بحثاً ، و لم يحط به إحاطةً تامةً ، و يسلك مسلك الاعتدال حذراً من الإفراط و التفريط في جميع مولفاته ، و يحاول التقريب بين الشريعة و الطريقة بوجه خاص و يظن أن التفريق بين الشريعة و الطريقة يدل علي الضلالة و الغواية ، و يظن أن التصوف الحقيقي هو روح الإسلام و خلاصة الإيمان كما يقول نفسه في كتابه ” شرح فتوح الغيب”:
” هذه حقيقة أن علم التفسير مقدماً علي العلوم الإسلامية الأخري، و علم التصوف هو تفسيرُ كتاب الله و تبيين سنة الرسول صلي الله عليه و سلم و ثمرتهما ــــ ([9])”
تعريف وجيز لآثاره في علم التصوف:
- تنبيه العارف بماوقع في العوارف (بالعربية): – هي رسالة صغيرة باللغة العربية تشتمل علي ثلاث عشرة ورقة ، ألفها الشيخ الدهلوي لنصرة قول الشيخ عبد القادر الجيلاني ” قدمي هذه علي رقبة كل ولي الله” ، اعترض الشيخ شهاب الدين أبو الحفص عمر السهروردي البغدادي (539 – 632 هــ) عليه في كتاب المعروف في علم التصوف “عوارف المعارف” اعتراضاً أن الشيخ الجيلاني قاله في حالة السكر و الجذب ، فرد صاحبنا عليه أن الشيخ عبد القادر الجيلاني نطقه في حالة صحوٍ و علي أمر الله عز وجل ـــ
و لم تطبع هذه الرسالة حتي الآن ، و توجد نسختها الخطية في مكتبة رامبور في الفهرست (الرسالة في بيان قول: قدمي هذا علي رقبة كل ولي الله) ، حصل الباحث عليها و لكن هذه ليست سالمة – ([10])
- تحصيل التعرف في معرفة الفقه والتعرف (بالعربية): رتب الشيخ الدهلوي هذا الكتاب علي قسمين : القسم الأول في التصوف ، والقسم الثاني في الفقه – وترتيبه ترتيب منهجي وعلمي و قد وزّع كتابه هذا بصورة منظمة متناسقة ، فألقي الضوء في بداية الكتاب علي تعريف التصوف واشتقاقه و وجه التسمية بكلمة الصوفي وذكر افكار القوم علي الصوفية ثم ردّهم ، و ذمّ المتصوفة الجهلة و مدح الصوفية المحققين –
لم يطبع هذا الكتاب حتي الآن، و لكن يوجد في شكل المخطوطة في كتابخانه مجلس شوراي ملي بتهران ، إيران ([11]) التي تشتمل علي 219 صفحة ، عدد الأسطر: 17 و في بعض الأوراق 16 ورقةً، كتب الشيخ محمد أنوار الحق الدهلوي القادري هذه المخطوطة بخط جميل و واضح بالحبر الأسود و لكنه عنون بالحبر الأحمر مثل كلمة (قاعدة) و (وصل) في شهر جمادي الأولي سنة 1301 هــ في مدينة غوليار بمدهية براديش ـــ
قام الباحث محمد أصغر أسعد بتحقيق و تعليق علي هذه المخطوطة لنيل شهادة الدكتوراة تحت إشراف الأستاذ ظهور أحمد أظهر بالقسم اللغة العربية و آدابها بالكلية الشرقية بجامعة بنجاب بباكستان سنة 1996م –
وقام الشيخ محمد عبد الحكيم الشرف القادري بترجمتها إلي اللغة الأردية باسم(تعارف فقه و تصوف) طبع بمكتبة اعتقاد بدهلي سنة 1996-
- شرح فتوح الغيب(بالفارسية): شرح الشيخ الدهلوي “فتوح الغيب” للشيخ عبد القادر الجيلاني ، شرح الدهلوي كلا منها بلفظه و أبرز نكات قيمة في شرحها من مادته العلمية ، وقد شرح بعض الكلمات المستعملة في مصلطحات الصوفية علماً بأن الشيخ الدهلوي كان له صلات قلبية قوية بالشيخ عبد القادر الجيلاني في مجال السلوك والطريقة- طبع الشرح من مدينة لاهور سنة 1283 هــ ، ثم طبع في نولكشور لكهناؤ سنة 1298 هـــ و نسخته الخطية موجودة في المكتبات المختلفة منها: مكتبة بانكي بور([12]) و مكتبة الآصفية بحيدرآباد ([13]) و الجمعية الآسوية بمدينة بنغال ([14]) ــ
- ترجمة غنية الطالبين: قد قام الشيخ الدهلوي بترجمة الكتاب الشهير للشيخ الجيلاني بإسم “غنية الطالبين في طريق الحق” من اللغة العربية إلي اللغة الفارسية ــ لا توجد أي نسخة لها – ([15])
- مرج البحرين في الجمع بين الطريقين: ألف الشيخ الدهلوي هذا الكتاب في العلوم الظاهرية والباطنية والفقه والكلام في ضوء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية علي صاحبها الصلاة والتسليم باللغة الفارسية. ويشتمل هذا الكتاب علي ثلاثة عشر فصلاً- طبع بالـمطبعة المحمدية بكلكتة سنة 1274 هـ ــ
- توصيل المريد الي المراد به بيان الاحزاب والاوراد: بين في هذه الرسالة الأوراد والأحزاب والأدعية المستجابة باللغة الفارسية ، و طبعت بمطبعة مفيد عام بآكرة سنة 1299 -([16])
- انتخاب المثنوي المولوي المعنوي: ذكر الشيخ الدهلوي تأليفه هذا في فهرس كتبه ، كان مشتملا علي ألفين و ثلاثمائة سطر و لكنه مفقود الآن –
- نكات الحق والحقيقة من باب معارف الطريقة: جمع الشيخ فيه مسائل التصوف و أسراره باللغة الفارسية ، طبع بمطبعة احتشامية بمرادآباد سنة 1891 م ، و طبعت ترجمته الأردية باسم (لطائفِ حق) ــــ ([17])
- جواب بعض كلمات شيخ احمد سرهندي: هذه رسالة صغيرة أرسلها الشيخ إلي الشيخ أحمد السرهندي رداً بليغاً و علمياً علي بعض الكلمات و آراءه التي ذكرها الشيخ السرهندي في رسائله –
أفكاره حول التصوف:
الشيخ الدهلوي لم يكن من الذين يظنون ان التصوف بدعة و ليس ثابتاً بالكتاب والسنة والإجماع ، ولا من المتصوفة الذين يزيغون عن طريق الحق , بل كان يري أن يجتنب هاتين الطائفتين ــ ومن ميزات شخصيته العلمية أنه كان ذا صلة قوية بالتصوف وكان يؤثر الشريعة الظاهرة علي الطريقة ، عاملاً بوصية شيخه عبد الوهاب المتقي وهي:
” أن لا يقدم الظاهر علي الباطن ولا يكتفي بالظاهر عن الباطن” – ([18])
ووصّاه أيضاً بأن : لا يتكلم بالحقائق والدقائق ، بل يبين للخلق علم المعاملات ، وما ينتبهون به من العيوب ، ولا يتكلم إلا في أبواب الدين والملة ، و فيما فيه ترويج الدين وتجديد الشريعة وحفظ عقائد الدين وأحكام السنة ، ولا يقع في إشارات الوجودية وتاويلات الباطنية ــ
وقال أيضاً: “كن فقيها صوفيا ولا تكن صوفيا فقيها ــ” ([19])
والشيخ الدهلوي كان يسلك مسلك التوقف والتسليم في الكلمات المنقولة من أهل الحقيقة من الموهمات والمبهمات ، و الشطحيات ، ولا يخرج عن دائرة الاعتدال ووصاه شيخه المتقي:
“فإن رأيتم فيما ينقل من كلمات أهل الحقيقة ما يخالف الشريعة عارضوه تارة بنفي نسبتها اليهم و أخري بتاويلها و تطبيقها بالحكم الظاهر والحق القويم ، فإن لم يتيسر التطبيق والتاويل ، فالأحوط : التوقف والتسليم ــ” ([20])
ومن عادات الشيخ الدهلوي أنه في غالب الأحيان يرجع خلال تاليف كتبه في التصوف إلي كلام ائمة المحققين الجامعيين بين الطريقين ، المتفق عليهم بين الفريقين ، وذالك من أمرين: اولاً! لانه يري في هذا الباب والأسلوب سلامة و عافية و وقاية من زلة اللسان والقلم _ والثاني: لأن الأقوال التي نقلها في كتبه كانت للمشائخ الذين كانوا ذوي منزلة عالية عند الناس ، فلذالك انهم كانوا يرغبون في دراسة كتبه وفي استماع كلامه – ([21])
ومما يدل علي جهوده الكريمة في التوفيق بين التصوف والفقه أنه صنف كتابين جليلين في الصلة بين الفقه و التصوف و هما: مرج البحرين في الجمع بين الطريقين بالفارسية ، و تحصيل التعرف في معرفة الفقه والتصوف بالعربية ، وهما بلا شك كانا جامعين بين الشريعة والطريقة ، فيقول في العلاقة بينهما:
“ومن سوء فهمنا أن نظن أن التصوف ضد للشريعة حاشا وكلّا ، فلا مغايرة و لا اختلاف بينهما ــ” ([22])
وصاحبنا يري من اللازم العمل بالكتاب والسنة في العبادات ، والعادات ، والمعمولات والعقائد ، ويري أن كل ما يخالف سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم فهو باطل و مردود- وقال في موضع:
“من لم يسلك مسلك التقوي في الاعتقاد والعمل , ولم يتمسك بالكتاب والسنة فهو ليس من الصوفية ، بل عدّه المحققون من الطائفة الباطنية والحشوية ـــ” ([23])
وقال الشيخ الدهلوي في أهمية علم التصوف: “أن علم التفسير والحديث كليهما مقدم علي العلوم الاسلامية الأخري و أما علم التصوف فهو تفسير كتاب الله وشرح سنة رسول الله و ثمرتهما ــ” ([24])
ونحن نري أن الشيخ الدهلوي لا يدافع عن الصوفية الكرام فحسب ، بل ردّ ردّاً عنيفاً علي المتصوفة الجهلة من الباطنية والإباحية والملامية وغيرهم من الذين اخترعوا البدع والمنكرات وانتحلوها علي الدين المتين ودسّوها في التصوف الإسلامي فضلوا و أضلوا ، وبالإضافة إلي ذالك أعرضوا عن العمل بالشريعة الظاهرة ، بل رأو أنفسهم مستغنين عن العمل بالكتاب والسنة ، فهؤلاء كلهم عنده لصوص دين وقطاع طرق-
وكذالك الشيخ الدهلوي ينكر التصوف المخلوط بالمجاهدات والرياضات غير الإسلامية و يقول: “لو كانت المجاهدات والرياضة مخالفتان للشريعة فلا فائدة منهما ــ ” ([25])
ومن محامد الشيخ الدهلوي أنه أول من بذل جهده في نشر مصنفات الشيخ عبد القادر الجيلاني بالهند ، كما أنه ترجم كتابه “فتوح الغيب” إلي الفارسية ليستفيد منه كل من يعرف اللغة الفارسية بالهند وبخارجها ــ
رتب الشيخ الدهلوي سبع و عشرين قاعدة نقلاً عن كتاب “قواعد التصوف علي وجه يجمع بين الشريعة والطريقة” للشيخ زرّوق ، ثم شرح الشيخ الدهلوي كلا منها بلفظه و أبرز نكات قيمة في شرحها .
قال الشيخ الدهلوي في قاعدة (11) :
“نظر الصوفي في المعاملات أخص من نظر الفقيه ، إذ الفقيه يعتبر ما يسقط به الجرح والصوفي ينظر فيما يحصل به الكمال ، وأخص أيضاً من نظر الأصولي ، لأن الأصولي يعتبر ما يصح به المعتقد ، والصوفي ينظر فيما يقوي به اليقين وأخص أيضاً من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث ، لأن كلا منهما يعتبر الحكم والمعني ، ليس إلا , والصوفي يزيد بطلب الاشارة بعد إثبات ما أثبتناه ، وإلا فهو باطني ، خارج عن الشريعة ، و فضلا عن التصوف- ” ([26])
أقول: في هذا الكلام ترجيح وتفضيل للصوفي علي الفقيه ، إذ نظره إلي الكمال في العلوم والأعمال ، ففي العلوم إلي حصول اليقين ، واليقين عند القوم أخص منه عند العلماء ، المفسر بالاعتقاد الجازم ، الثابت الوقع بزيادة الاعتبار ، الاستيلاء علي القلب بالذوق و الحال ــ وفي الأعمال بالأخذ بالعزيمة في كل الاحوال ، أو جلها عملا بقوله صلي الله عليه واله و صحبه وسلم : إن الله يحب أن يوتي عزائمه ــ ([27]) والرخصة ياخذ حكم العزيمة بمشاهدة الترخيص والترفية والرفق من الله الكريم المتعال-
الحواشي
[1]) لمعات التنقيح ، ج : 1 ، ص: 52 ــ
[2]) أخبار الأخيار ، ص: 301-302 ــ
[3]) حياة الشيخ عبد الحق الدهلوي للنظامي ، ص: 99 ــ
[4]) أخبار الاخيار , ص: 200 ــ
[5]) المكاتيب والرسائل : ص: 272-282 ــ
[6]) ” ترجمة عربية لــ ” الشيخ المحدث عبد الحق الدهلوي – حياته و آثاره لنظامي : ص: 128 ــ
[7]) زبدة الأثار منتخب بهجة الأثار: ص: 4 ــ
[8]) كتاب المكاتيب، رقم المكتوب 34 ، ص: 278 (علي هامش كتاب اخبار الأخيار) ــ
[9]) شرح فتوح الغيب ، ص: 420 ــ
[10]) رقم النسخة : 133، 1/ 339 –
[11]) رقم النسخة الخطية، 10080 ، رقم الفن 11364 – توجد هذه النسخة عبر موقع المجلس الشوراي –
[12]) الرقم: 1387 –
[13]) فهرس المخطوطات : 1/ 480–
[14]) تحت الرقم : 60– راجع : حياة الشيخ الدهلوي للنظامي ، ص: 181- 183 –
[15]) المصدر السابق نفسه-
[16]) المصدر السابق – ص: 179 –
[17]) المصدر السابق ، ص: 186 –
[18]) كتاب المكاتيب: المكتوب: 57, ص: 366-
[19]) نفس المرجع ، و مرج البحرين ، ص: 76ــ
[20]) المصدر السابق، المكتوب: 57 ص: 250- 252 ــ
[21]) تذكرة الشيخ الدهلوي لخليق نظامي : ص: 92 ــ
[22]) مرج البحرين ص:60ــ
[23]) كتاب المكاتيب: ص: 89 ـ
[24]) شرح فتوح الغيب ص: 420 ـ
[25]) كتاب المكاتيب: ص: 274 ـ
[26]) تحصيل التعرف في معرفة الفقه و التصوف – النسخة الخطية – : ص: 38 ـ
[27]) رواه ابن حبان : 2/59
المراجع و المصادر:
- ابن حبان : أبو حاتم محمد بن حبان البستي ، ” الصحيح لابن حبان ” ، المكتبة الأثرية ، سانكله هل ، باكستان ، 1983 –
- خليق أحمد النظامي: ” حياة الشيخ عبد الحق الدهلوي “، مكتبة الرحمانية ، لاهور ، باكستان ــ
- عبد الحق الدهلوي: عبد الحق مسكين بن سيف الدين بن سعد الله الدهلوي التركي البخاري:
- ” أخبار الأخيار في أحوال الأبرار ” ، مدينة پبلشنگ کمپنی ، کراچی ، پاکستان ، (ترجمه الأردية: سبحان محمد – محمد فاضل) ، 1332 م –
- ” زبدة الآثار منتخب بهجة الأسرار” ، بكسنگ کمپنی ، مؤمبائي ، الهند –
- ” شرح فتوح الغيب (الفارسي) ” ، ترجمه بالأردية ظهور أحمد جلالي ، صفه اکیڈمی ، لاھور ، پاکستان ، 2000 م –
- ” لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح ” ج: 1 – 10، تحقيق : تقي الدين الندوي ، دار النوادر ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولي 1434 ه / 2014 م –
- ” مرج البحرين في الجمع بين الطريقين” ، ترجمه الأردية ثناء الحق الصديقي ، طيب اكيڈمی ، ملتان ، پاکستان ، 2001 م –
- ” المكاتب و الرسائل ” علي هامش كتاب ” أخبار الأخيار”، مطبع مجتبائي ، دلهي ، 1332 م –
- محمد أكرم الندوي : ” ترجمة عربية لــ ” الشيخ المحدث عبد الحق الدهلوي – حياته و آثاره لخليق أحمد النظامي” ، دار القلم ، دمشق ، 1434 ه / 2013 م –