حسنور إسلام
في ظل انهيار ظلمات الدجى، وزي من انتهاء غمات الصبا، انكسرت بيضة بيضاء وخرجت من داخلها عصفر أحوى. وردد يغوص فيها ويغوط في كنف حنونها، مقلبا أحداقها إلى أي جهة منتهاها، تلقي عليه الناهور شذية أندائها، وتبدي السماء عليه أقهر أثلاجها، وكأن النسيم هيجه نعومة هذا الطائر، فهو يختفي في أحضان أمه كما تخفى الأعين السرائر، كأن الحظ لم يهبط معه فإنه داعر. تضرعت الأم، فما رجع إليها إلا أصواتها، وندائها خاضعة ذليلة. ساف ترنمها بطرق أبواب الأدياك، وراح يصيح حتى انفلق فجر الصباح. بينما يغطي أولو ناصيته ويحجب جرمه، لأن لا يتخذه الأثلاج الطاغية غرضهم، وأن لا تهب الأجواء عليه عواصفهم. فما لبث غير ساعة إلا قطع الصباح قارعة العتمة، وناح طيور تغرد في الغصنة، فشاع الضوضاء في العرين والغابة، وتجافى الببغاء والبوم والحجل والبخعة بطانا من مضاجعهم، وأخذوا يتطايرون هنا وهناك تتبع المعيشة والأطعمة تؤوي بها إلى في فراخهم. شعر العصفور بأن وجه الشمس البشاشة تعانقه بحرارتها، وضوئها يشع شبح أمها، فأتى مأواها الحلوب وتقرب بها، وسأله أدنى الأكلة تجعله في فم فراخها. فما مضى إلا مليا إذ جائت الأم ببعض الثمرات الفائقة، وأخذ تشبع وتروي بعد ما عطشان في نوائب السدفة. فبدأ الولد يرقص ويضحك كالعرناس يختفي تحت قدمي أمها، ويطل أبصاره على بطنها وظهرها. كأن جل النصيب وجميع الحظوظ انحل في فناءها. مضى الأيام على هذه النعمة الفاخرة. يتكئ على نمارق مصفوفة، ويأخذه النعاس ظهر زرابي مبثوثة، له مجد الفراعنة من العظمة الرفيعة. وصاحبه أفراخ أخرى من الغداق والنسر والأدياك والبلبل إلى غير متناهية. فقد تلذذ هذا الولد بأنواع من الملاهي واللذات منذ نعومة أظفاره إلى ريعان الشباب، يلحقه أترابه بدماثة خلقه على الحطب ما يغنيه من الدمار والتباب، ينقل ويحرك جسمه بفناء عشه ليس له فيها عتاب، يلهو ويلعب بعرصات ذوي الأحلام والألباب.
اختلفت الأزمنة والأجيال، وانصرمت الليالي والأنهار، مضت حقبة من العصور والأدهار حتى نزلت بهم القارعة، وانحلت لهم النازلة بأن جائت حية أفعى مع رفدها الطائشة وصممت السكونة في هذه الغابة الناعمة، وهيأت نفسها ورهطها لإخراج جميع الطيور باستئصال عشها، واختطاف العرين بتشريد من أبدعها، وتهويل العقارب والديدان المضطر إلى ترك ملجأها وإدلاج السم في اليم والنهر والعيون الموصلة إلى بيوتها. وكان العصفور قد عشش حضن الغصن الذي خطرته الأفعى ببالها أن تعيش باقي حياتها في داخله.
اهتزت الأرض من تحت قدمي الطيور ودكت بين عيني العصفور وتزلزلت أمام جميع الصدور وانتشرت الأهوال والرعوب بعد اكتمان السرور. وكيف لا ومنبته يهدم عيانا ومأواه يدمر اقتلاعا، وملعبه يفنى انتزاعا، فرغب مع فتيانه في العداوة مع هؤلاء القساة الجبار ، واجترئوا على تأصيلهم مع المعاول والأشجار. وهل يصمت شبح وقصره في طريق الانتحار، أيطمئن رجل و بناءه في الأمواج تنهار، أم يتولى الذاعر قدمه إلى الوراء و روضته تدمر بالأخطار. حقيقة، لا امتراء فيها بأن إنسانا فاجرا كان أو عاندا لا يرتضي بمثل هؤلاء الأخبار، إذ ينزعج قلبه إن صارعت دون أي فرار !. احتفلت الطيور لأخذ ثأر العدوان وإغراء نفوسهم على الجهاد دون أي نسيان واستشراف الحقوق دون احتمال الطغيان. فقال بعضهم لبعض
كيف نستطيع أن نأخذ الثأر مع من هو أقوى منا ؟ حقيقة ما هذا إلا هزل، ما يريد به العصفور إلا بور وخجل ! أجاب العصفور قائلا “والله لا نغادر أحدا يتهتك حقوقنا بإخراجنا من مأوى أمنا. إذ نحب وطننا والعيش فيه شعارنا، وإنا لنذود معا ولانكونن متفرقين، بل نحكم على الأعداء لسنا بخائفين، ندفع الأذى عن عشوشنا كما يدفع عنا ضررنا، ونحميه كما يحمينا من أشعة الشمس الطاغية وأثلاج الليل القاطعة والديمة ذو أمطار غزيرة”.
إذن من يقودنا ! إذ لا نطيق على الحرب مع أعدائنا إذ غابت السادة عنا ! أنا رائدكم في هذا النطاق الواسع. لماذا تظنون بالأخطار الباطلة، و تضيعون أوقاتكم بالملاهي والهزلة، ما هذا إلا محاولة شنيعة، يراد بها تفريق الجمعة. ظنوا بأنفسكم الخير !
إذن كنت رائدنا فما لنا إلا أن اتباعك في درء هذه المسألة المنحولة من الحيات الأفعى. ولكن ما نحاول شيئا إلا وجدنا به عوضا أشبع منها في هذه القضية التائهة. فلنفين أبائنا وأمهاتنا فيك يا عصفور الحنون فلننطلق معا إلى المحاربة !
فما لبث الطيور إلا أمالوا أنفسهم إلى القتال بالأفعى. وجرت المعركة بينهم حتى ألت الحية ورهطها مغادرة الغابة إذ تحملوا كثيرا من هجمات الصغيرات عليهم بالمعاونة السماوية. كأن رب جل شأنه أهبط عليهم ملائكته لنصرتهم ولكن لا يرونهم. وفاز العصفور الصغير وأهل الغابة أجمعون. وهنأهم جل من كان فيها من الحيوانات. وأتاه القاصي والداني لمطالبة السكونة نحو قصورهم لكن أولو رفض جميع المتطلبات. وشعر الفرحة والبهجة بسكونها في الغابة، مأوى أمه وعش حنونه. واختارت الحياة الباقية فيه.
حب الوطن، من أين تنبع هذه المحبة ؟ هل يضطر أحد أن نحب وطننا ؟ أو يخاطبنا الجنان والقلوب عن نؤد بين أفراد قومنا ؟
حقيقة إنها محبة من غير أرومة وأصل. يتدفق قلوبنا إذا انطلق أحد أن يبدد أوطاننا. أو يبور أقوامنا لأنها شعبة من الإيمان، الله يجعله في قلوب كل سكان. آدمي كان أجرام، كل يتلذذ بهذه النعمة من رب المحبة والانسجام. ينبع من جميع جوانح أجسادنا ويحرك أخطارنا إلى مجالات غير متناهية.