Main Menu

محمود درويش، صوت فلسطين وشاعر الإنسانية

حسنور اسلام

المقدمة

من الحقائق الناصعة التي لا تقبل الجدال أن الشعر مرآة الحياة والمجتمع، تنعكس في طياته شؤون المعيشة والمهجة وقضايا المجتمع والبيئة وتكشف من خلاله أحوال البقعة في الكرة الأرضية، ما زال الشعراء يتخذونه منوالا لتسليط الضوء على رؤيتهم تجاه الأحداث والنزاعات الجارية في المنطقة. فإذا كان الشعر بحرا يفيض بمعاني الوطنية والإنسانية فإن الشاعر محمود درويش هو السفينة التي تجوب عباب هذا البحر حاملة كآبة الوطنية وأوجاع البشرية، ذلك هو القلم الذي انحنى أمامه الحرف ليكتب عن الدولة المصلوبة على صدر النكبة وعن الإنسان الساعي لنقض قيود الظلم و العنف والتشرد والغلظة، لقد كان درويش عاكسة شفافة تتجلى أوضاع الأرض الفلسطينية وآمالها، كأنه طائر فينيق ينبعث من رماد المعاناة ليحلق في فضاء الإنسانية.

عبقرية محمود درويش

ما زال اليوم الثالث عشر من آذار سنة 1941م تذكارا في أنصع صفحات التاريخ، إذ انبلج فيه هذا الفجر المنير في قرية البِــرْوة بمنطقة الجليل بفلسطين ثم ظل يتيه من مولده إلى لبنان بعد السادسة من عمره، كأن الحظ نزع منه منذ نعومة أظفاره، فقد نزح مع عائلته إلى لبنان في نكبة 1948م، إلا أن الحنين إلى المأوى الأصلي أسفر عن عودته إلى قريته متوغلا مختفيا، لكنه خسأ للعثور على أطلال جدران قريته التي دمرها القوة المسلحة، فاستقر في الضيعة المتجاورة البروة. لقد شكل هذا الألم المبكر وجدان درويش الشعري وجعله شاهدا حيا على مأساة شعبه المعصومة، وصمم أن لا يتيح للاحتلال أن يعوقه من الصدع بالحق عن آلام الشعب الفلسطيني، وقد أحاطه هذا الخيال إحاطة الأسورة بالمعصم.

أتم تعليمه الإبتدائي في قرية دير الأسد بالجليل ثم انضم إلى راكاح (الحزب الشيوعي الإسرائيلي) بعد إنهاء دراسته الثانوية في قرية كفر ياسيف وعمل محررا ومترجما في جرائد مثل الاتحاد ومجلة الجديد كما أصبح مشرفا على تحرير المجلة فيما بعد، بالإضافة إلى اشتراك في تحرير جريدة الفجر وغيرها. لقد أفضى تصريحاته السياسية ونشاطاته التوجيهية إلى اعتقاله مرات من قبل السلطة الإسرائيلية بدءا من 1961م إلى 1972م حيث توجه إلى الاتحاد الشيوعي للدراسة في موسكو. إنما ساعده تنقلاته على  تعرف آفاق فكرية وثقافية مستحدثة، إلا أنه لم يلبث إلى أن انتقل إلى القاهرة.

إنما اتخذ الشاعر درويش جريدة الأهرام مطية أفكاره الأدبية والإنسانية مسجدا شوقه القومية وآمال شعبه في الحرية، مستحضرا روح النضال في صرصرة يرنها قلمه. لاحقا، انضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية حيث أصبح أحد أعمدة الأعمال الثقافية والنضالية قبل انتقاله إلى لبنان لمواصلة مسيرته الوظيفية ضمن مؤسسات النشر والدراسة. ثم استقال من اللجنة التنفيذية احتجاجا على اتفاقية أوسلو، لكن خروجه من العمل السياسي المباشر لم يعقه من مواظبة عطائه الكفاحي، إذ قام بتأسيس مجلة الكرمل الثقافية ليظل منبرا للفكر والإبداع ومرجعا لمن يهتم بقضايا أرض القدس.

 

دراسة في شعر درويش

في ظل من النكبة والمنغصات الشرسة وزي من المفاوضة والهدنة الفشلة وبين أصوات الدباباة والصواريخ وصراخ الأرض المغتصبة انبثق صوت محمود درويش شاعرا حمل القضية الوطنية في حروفه المرتجلة، ما انفك يسلط الأضواء على معاناة شعبه ووطنه المسيطرة، حيث جسد آلام اللجوء وأحلام العودة وحوّل المأساة إلى الملحمة الأدبية المزعجة.

مراحل شعر درويش

لقد قام الأدباء والنقاد بتقسيم شعره إلى جَمّة مراحل مزخرفة، كما قسم الناقد السوري حسين حمزة مسيرته الشعرية إلى ثلاث مراحل؛ الاتصال والانتصال والانفصال متواليا. انتمى الشاعر في المرحلة الأولى (الاتصال) إلى التيار الرومانسي في القصيدة العربية الحديثة محتذيا بشعراء أمثال بدر شاكر السياب ونزار قباني. وقد تمكن في المرحلة الثانية (الانتصال) على استخدام الرمزية وتطور دلالات شعره من تلك الحاضرة في الأبعاد الأيديولوجية، بما أسفرت عن إحالات الشاعر في التاريخ والحضارة والأزمة البشرية. كما ظهرت قصائده مفعمة بالإشارات الأسلوبية والإلماعات التناصية. وفي المرحلة الثالثة والأخيرة (الانفصال) انفضى الشاعر تدريجيا عن خطابه الأيدولوجي المباشر للخيبة في النظرية القومية العربية التي تسببت في تحلية الحقيقة الذاتية كاشحا الجلدة الموضوعية.

صوت فلسطين

إن من سجية مواليد أرض القدس تحلية ألسنته بالقصائد المزعجة  تحمل قضايا الأمة، تعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث الإعلامية منذ باكورة عمره، وما الشاعر محمود بمنأى عن تلك الجبلة الأرضية إذ انخرط في ساحة الشعر من السنة السابعة، إلا أنه ذاع صيته في الآفاق بعد مطبعة دواوين مزعجة للجلسة التشريعية الصهيونية.

أوراق الزيتون

لقد ظل العام  1964م محفورا في سجلات التاريخ إذ أطلق الشاعر ديوانه الثاني  “أوراق الزيتون” الذي لاقى انتشارا واسعا في أوساط الشباب لملامسته روح الكفاح المسلحة ضمن الأشعار الرومانسية المتضمنة بالثورة الغاضبة. غدا الديوان مزعجة بالنسبة إلى الاحتلال لتضمنه قصيدة “بطاقة هوية” التي قرضها في الخامسة عشر من عمره ردا على العسكري الذي سأله عن قوميته.

إنها القصيدة التي زعزعت أعاصف الانتداب البريطاني، ووقعت كخنجر في قلب الاحتلال لينبت وردة في أرض البركة. “سجل أنا عربي” كان كالرعد يدوي في سماء المقاومة معلنا هويته التي لا تنحني ولا تمحى، وإنها كالشجرة التي تمتد جذورها في الأرض رغم محاولة الاقتلاع. يقول الناقد اللبناني إبراهيم العريس تسببت القصيدة إلى اعتقاله سنة 1965م.

“سجل برأس الصفحة الأولى

أنا لا أكره الناس

ولا أسطو على أحد

ولكنني إذا ما جعت

آكل لحم مغتصبي

حذار.. حذار.. من جوعي

ومن غضبي”

يوميات جريح فلسطيني

عبر الشاعر عن تنديداته حول أعمال السيطرة الإسرائيلية الشرسة بقصيدته “يوميات جريح فلسطيني”، عرض خلالها معاناة فلسطيني اليومية، كمواجهة برقية تهديدية وتلاقي رصاص الدبابة والمسدسات والبنادق الهجومية. ويضطر إلى إشباع جوعه بالمحاكاة والأوجاع والأحلام المزيفة. بالإضافة إلى ذلك يحث على التزام بلدته ولو حلت بهم القارعة العالمية مع التهديد بأن شعره ليست مجرد قصيدة، بل سيبقى كأداة كفاحية. تمثل القصيدة شهادة حية على صمود الشخص الفلسطيني أمام الجبال الشاهقة ورفضه الإذعان على مدى طول الحياة

                جندي يحلم بالزنابق البيضاء

عندما رعد الشعب الفلسطيني عليه وبرق لانضمامه إلى الحزب الشيوعي بموسكو، وظلوا يهجونه حتى آل الأمر إلى إظهار كاريكاتير المسجى عليه “درويش خيبتنا الأخيرة”، قرض هذه القصيدة معلنا موقفه مع أبرز رموز الكفاحية الفلسطينية. احتوى الشعر عن أحلام جندي فلسطيني الذي يرى المرافقات المكثفة التي يتنعم بها جميع الناس في مسيرته اليومية.

مديح الظل العالي

صنف الشاعر الديوان بعد خروج الاحتلال من بيروت، احتوى وصف مساهمات المقاومين وما لحقه من مشقة وتشريد في تحقيق أحلامه، وأن هذه القصيدة الغاضبة المثيرة حلمت بين سطورها شخصية ياسر عرفات الذي يعد رمزا للدفاع الفلسطيني.

عابرون في كلام العابر

ما هي إلا بيان شعري يحمل أبعاد الإنسانية والوطنية، راسخا مكانة الشاعر كصوت يدعو العرب والأمة والعالم لمدافعة الحقوق الفلسطينية.

شاعر الإنسانية الرحبة

لقد اتخذ الشاعر من قصائده جسرا يمتد بين أوجاع الأمة المهضومة وآلام العالم جمعاء ولم يحصرها في حدود البقعة الفلسطينية بل ضمنت كلماته جميع الفئات التي تكاثرت عليها سواعد القوى الباطلة وحامت فوقها صقور السياسة التافهة. تجاوز القومية الضيقة ليبرز أن الحرية والعدالة والكرامة وكل الحقوق المحورية تجمع البشرية تحت مظلة واحدة، فأصبحت قصائده رسائل عالمية تناجي ضمير الحيوية.

في قصيدته “أحن إلى خبز أمي” عبر الحنين للوطن، هو ذات الأمل الذي يشعر به الجميع زمن اغتراب من بلدته، إنه حاول لطمس الصراع والتزام التعايش السلمي في قصيدته “الجدارية”، فإنها تناولت موضوعية الحياة والموت بأسلوب فلسفي يبرز وحدة مصير البشرية. استخدم درويش رموزا كونية أمثال الأرض والسماء والبحر والشجر ليجعل مساحة شعره تتسع كل الثقافات والحضارات بالإضافة إلى انعكاس معاناة من يعيش تحت سيطرة القهر والضياع.

إرث مخلد

ولدرويش ما يزيد على ثلاثين ديوانا من الشعر والنثر بالإضافة إلى ثمانية كتب، ومن أبرز قصائده عصافير بلا أجنحة، العصافير تموت في الخليل، عاشق من فلسطين، وأنت منذ الآن غيرك وغيرها. وحصل على جوائز مثل لوتس ولينين. توفي الشاعر في 9 أغسطس عام 2008 في الولايات المتحدة إثر خضوعه للعملية الجراحية ودفن برام الله.

 الخاتمة

إن محمود درويش ليس مجرد شاعر، بل صوت خالد لفلسطين وشاعر للإنسانية جمعاء. بكلماته الثائرة وبلاغته الفريدة، جسّد معاناة شعبه وأحلامه، وخلّد قيم الحرية والكرامة. ستبقى قصائده منارة للأجيال القادمة، تلهم النضال من أجل العدالة والسلام في كل بقاع الأرض.

المصادر والمراجع

  • محمود درويش: شاعر فلسطين الذي سجل تراجديا الأرض والإنسان، مقالة رأي، الدكتور محمد عبيد الله، موسوعة الجزيرة، مارس 2024.
  • محمود درويش: شاعر الجرح الفلسطيني، بحث من عند الكاتب فتحى خطاب، أغسطس 2019، قناة الغد.
  • الالتزام السياسي والإنساني في بدريات محمود درويش، مقالة من عند الكاتب عبد الله الحمير، القدس العربي، سبتمبر 2023
  • وأنت تخوض حروبك، فكر بغيرك: الإنسانية في شعر محمود درويش، سيد محمود، العدد 68 من المجلة الإنساني، سبتمبر 2018.
  • الحمولة الرزمية للقضية الفلسطينية في شعر محمود درويش، أبعادها الدلالية وتجلياتها الجمالية، ورقة بحث من عند الدكتوراة صفية بن زينة والدكتور نور الدين نديم، العدد 11، مجلة اللغة العربية وآدابها، جويلية 2023.
  • تجربة محمود درويش في الشعر العربي: خارج النص، الوثائقية من قناة الجزيرة، 2022م.
  • تأملات الشاعر الفلسطيني محمود درويش الغائب الحاضر، تأملات قناة الجزيرة، 2023م.
  • أوراق الزيتون، محمود درويش، الأهلية للنشر والتوزيع، ديسمبر 2013م.