محمد شاهد
الباحث بقسم اللغة العربية وآدابها
جامعة علي كره الإسلامية
لايعزبن عن البال أن الجزيرة العربية كانت موطن اللغة العربية وآدابها عبر العصور ولكن المشهد اللغوي والأدبي مر بمراحل تاريخية فظهرت فنون جديدة و بدأت نزعات أدبية عديدة وقد تفوت آداب اللغة العربية من اتصال العرب بغيرها.
يمتاز أدبنا العربي بخصائص كثيرة سواء من حيث التنوع أو الأساليب. وإذا كان قد أصابه في عصور الركود والانحلال، شيء من التخلف في بعض نواحيه، لا يزال يعاني من آثاره حتى اليوم. فإنه مع ذلك لم يفقد شيئاً من حيويته، وروعة خصائصه القديمة، التي جعلت منه خلال العصور الوسطى أعظم الآداب الحية، وأغناها، وأخصبها وأوسعها مدي.
ومما لاشك فيه أن الأدب العربي ، يتمتع من حيث الأساليب البيانية بتنوع، قلما يحظى به أي أدب آخر من الآداب القديمة أو الحية، من هذه الأساليب البيانية التي يكاد ينفرد الأدب العربي بأصوله وتقاليده الراسخة، التي جعلت منه فنا حقيقياً من فنونه، فن التوقيعات.
فالتوقيعات الأدبية تُعد فناً أدبياً نثرياً احتل مكانة لائقة به في تاريخ الأدب العربي بين سائر الفنون الأدبية النثرية، كالخطابة، والكتابة، والرسائل، والوصايا، والمواعظ ، والمقامات.
ولكن هذا الفن قد ضعف بعد العصرين العباسي والأندلسي حتى كاد أن يختفي. ولعل الذي دفعني إلى هذه الدراسة: أن فن التوقيعات من الفنون التي وقع عليها كثير من الضيم والحيف، إذ لم تحفل بها أقلام الكتاب والباحثين، ولم تعطها حقها من البحث والعرض، كما حفلت بغيرها، وأتاحت لها عديدا من الصفحات في كتبها.
بعض مصادر التوقيعات الأدبية التي تعرضت لهذا الفن و دونت أطيافا منه بين طياتها كما يلي:
العقد الفريد لابن عبد ربه، ونقد النثر لقدامة بن جعفر، و كتاب الوزراء والكتاب لابن عبدوس الجهشياري ، ونثر الدر لأبي سعد، وأدب الكاتب لأبي بكر الصولى، و لطائف اللطف و تحفة الوزراء للثعالبي وما إلى ذلك.
لقد تتبع الباحث في كتابة بحثه هذا مقومات فنية معروفة مثل الأمانة في نقل المعلومات، والتحليل الموضوعي، والحيادية في استنباط النتائج وفق المنهج التحليلي الوصفي في التعامل مع التاريخ و النص من التوقيعات.
الفنون النثرية في العصر العباسي:
عصر الدولة العباسية هو عصر الإسلام الذهبي الذى بلغ فيه المسلمون من العمران والسلطان ما لم يبلغوه من قبل ولا من بعد. أثمرت فيه الفنون الإسلامية، وهو الآداب العربية، و نقلت العلوم الأجنبية، و نضج العقل العربي فوجد سبيلا إلى البحث و مجالا للتفكير.
تختلف هذه الدولة عن الدولة الأموية فالدولة الأموية كانت عربية خالصة، أما الدولة العباسية فقد اصطبغت بصبغة فارسية، لأن الفرس هم الذين أوجدوها و أيدوها، و أطلق الخلفاء أيدي الموالي في سياسة الدولة فاستقلوا بشؤونها واستبدوا بأمورها. فضعفت العصبية العربية، و علا صوت الشعوبية، ونتج من ذلك دخول العناصر الفارسية والتركية والسريانية والرومية والبربرية في تكوين الدولة.[1]
في هذا الاندماج السياسي والثقافي غلب الفرس على العرب في الشؤون بعضها حتى اتسعت دائرة اللغة بما اقتضاه تمدن الدولة و نقل العلوم عن الفارسية والهندية واليونانية من المصطلحات العلمية والألفاظ الإدارية والسياسية والاقتصادية والمنزلية.
واقتبست العربية من الفارسية غير الألفاظ كثيرا من الأساليب، كالتبجيل في الخطاب، والاحتشام مع المخاطب، و إسناد الشيئ إلى الحضرة والجناب والمجلس، و إحداث الألقاب والنعمة للخلفاء والوزراء والكتاب والقواد.
الإنشاء مظهر العقل، و مرآة الخاطر، يتأثر بما ينال المدارك والمشاعر من عوامل الحضارة، ونتائج العلم و ظواهر العمران. ولقد كان لذلك الإنقلاب العباسي أثر عظيم في العقول والميول ظهر على أقلام الكاتبين وألسنتهم. فقد استنوا عيون المعاني. و تخيروا شريف الألفاظ، مما لم يكن حوشيا ولا سوقيا، و فتحوا أبواب البديع ، و عنوا بالتنميق والتنسيق.[2]
فظهرت عدة أنواع من النثر العربي منها مثل الكتابة، والخطابة، و التوقيعات، والرسائل، والمقامات وغيرها من الفنون الأدبية المخترعة في العصر العباسي الذهبي.
فن التوقيعات :
فن التوقيعات من أشهر أشكال الفنون النثرية التي اشتهر بها العصر العباسي، وتطورت بشكل كبير في هذا العصر وقد أقام الباحثون للمقامات فنًا خاصًا بها لما فيها من بلاغة وروعة.
التوقيع لغة بمعنى التأثير، و قد جاء عند العرب: بعير موقع الظهر أى : به آثار الدبر، و هي قروح تصيب الإبل في ظهورها من جراء الحمل ويقولون : وقع الكلام في نفسه أى أثر فيها.
والتوقيع : إصابة المطر بعض الأرض وإخطاءه بعضا، والتوقيع في الكتاب: إلحاق شيء فيه بعد الفراغ منه، وقيل: هو مشتق من التوقيع الذي هو مخالفة الثاني للأول. قال الأزهري: توقيع الكاتب في الكتاب المكتوب أن يجمل بين تضاعيف سطوره مقاصد الحاجة و يحذف الفضول وهو مأخوذ من توقيع الدبر ظهر البعير، فكأن الموقع في الكتاب يؤثر في الأمر الذي كتب الكتاب فيه ما يؤكده ويوجبه.[3]
بعد أن ذكرنا المعاني اللغوية لكلمة التوقيع يجدر بي أن أذكر معنا الاصطلاحي. هذه الكلمة قد اكتسبت معنى اصطلاحيا لا يتنافر مع المعاني اللغوية السابقة وإنما يتفق معها و يرتبط بها.
تُعرف التوقيعات على أنها التذييل الذي يقوم به الخليفة على الرسالة المتوجهة إليه من الوالي أو أحد الوزراء أو غيرهم ممن يشغلون مناصب سياسية رسمية في الدولة، وتعتبر التوقيعات بناءً على هذا أمرًا رسميًا ديوانيًا بالكامل.
ويعرفها الأديب العالم اللغوي المصري شوقي ضيف على أنها “التوقيعات عبارات موجزة بليغة تعود ملوك الفرس ووزراءهم أن يوقعوا بها على ما يقدم إليهم من تظلمات الأفراد في الرعية وشكاواهم، وحاكاهم خلفاء بني عباس ووزراؤهم في هذا الصنيع .[4]
يقول قدامة ابن جعفر معرفا التوقيعات : ” هي تعليقات الوزراء والرؤساء على ما يرفع إليهم من الرسائل والقصص.[5]
وكانت تشيع في الناس ويكتبها الكتاب ويتحفظونها وظلامته، وقد سموا الشكاوى والظلامات بالقصص لما يحكي من قصة الشاكي وظلامته، وسموها بالرقاع تشبيها لها برقاع الثياب.
أن التوقيع فن أدبي نثري له مذاقه وخصوصيته واستقلاله، وأنها لم تعرف في العصر الجاهلي؛ لعدم انتشار الكتابة بينهم، وكذا في صدر الإسلام؛ لقلة من يجيدون الكتابة أيضا، وأنها فن عربي خالص نشأ في رحاب الإسلام، وما ذهب إليه بعض الباحثين من القول بفارسيته غير صحيح ، وأنها لم تقتصرعلى الأدباء، بل تعدتهم إلى الوزراء والقواد، والكتاب الموهوبين، وأنه لا بد لصاحب التوقيع ‘ الموقع ‘ أن يكون مرسوما بالفصاحة والبلاغة والمروءة و قوة الحجة وليس ضروريا أن يكون التوقيع الأدبي ابتكارا من صاحبه، فقد يكون آية من القرآن الكريم أو حديثا نبويا، أو بيتا من الشعر، أو حكمة بالغة أو مثلا سائرا أو قولا بليغا، و على هذا فقد كان فن التوقيعات في العصر العباسي الأول ثروة عظيمة في المشاركة في بناء الدولة. وفي توجيه سياستها إلى الرعية، كما أنه أفاد التاريخ، و أغناه بكلمات و عبارات، و أقوال غاية في البلاغة والإيجاز و ذلك لارتباطه منذ نشأته بدواوين الخلفاء والوزراء.[6]
ومن التوقيع ما يأتي بصور طريفة وعجيبة. فمثلا يأتي التوقيع بحرف واحد. من ذلك ما حكي أبو منصور عن ابن النصر العتبي قال: كتب بعض خدم الصاحب ابن عباد إليه رقعة فوقع فيها، فلما ردت إليه لم ير فيها توقيعا، وقد تواترت الأخبار بوقوع التوقيع فيها، فعرضها علي أبي العباس الضبي وزير فخر الدولة البويهي. فما زال يتصفحها حتى عثر بالتوقيع وهو حرف – ألف- واحدة، وكان في الرقعة «فإن رأي مولانا أن ينعم بذلك فعل» فأثبت الصاحب أمام (فعل) ألفاً يعني «أفعل» ولا شك أن ما فعله الصاحب يعد من التوقيعات المستظرفة المستملحة.[7]
والتوقيع الأدبي ليس التوقيع المعروف الآن (الإمضاء) وإنما هو أقرب ما يكون إلى ما يطلق عليه في لغة الإدارة الحكومية (الشرح على المعاملات والرسائل الواردة) (التوجيه) عندما يرفع الأمر أو الطلب إلى صاحب القرار، ويعلق عليه بما يراه.[8]
مر بنا الحديث عن المفهوم اللغوي و الاصطلاحي لكلمة التوقيعات، ومن المعلوم أن هذا المفهوم قد تطور مع مرور الزمان ، قد تحملت هذه الكلمة معان متعددة وتوسعت مفاهيمها بغير انتقاص معانيها ما مضت.
لقد ظهرت في عهد الخلفاء الراشدين عندما استدعاها اتساع الدولة الإسلامية حيث اضطر الخلفاء والأمراء والولاة إلى الكتابة برأيهم على ما يرفع إليهم من مظالم ومطالب. ومما ساعد على وجود ما يسمى بالتوقيعات الأدبية عناية الخلفاء والسلاطين وأمراء بإنشاء ما يسمى في ذلك العهد بديوان الإنشاء وكان هذا الديوان يلقى العناية الكاملة من رجال البلاط ويمهدون إلى رجال هذا الديوان السبل للاضطلاع بالمناصب التي تؤهلهم لها مواهبهم الأدبية والفنية وكان يلي هذه المناصب من نبغ من المحدثين من رجال الأدب ذو البديهة الحاضرة والفطنة والبلاغة وكان منصب الموقع بديوان الإنشاء يعادل بعض الوظائف القضائية.
ثم انتشر هذا الفن الأدبي في العصر الأموي ثم عنى العباسيون بفن التوقيعات وأبدعوا فيه ولهم توقيعات مشهورة ومحفوظة وكذلك أبدع الأندلسيون في هذا الفن ثم ضعف هذا الفن بعد ذلك حتى كاد أن يختفي.
خصائص التوقيعات :
التوقيعات تعددت خصائصها ، و يمكن جمعها و توضيحها فيما يلي:
الإيجاز البلاغي.
دقة الصياغة.
متانة التركيب.
قوة المعنى.
نفاذ التأثير.
تنوع أساليبها؛ حيث يمكن أن تكون خبرية أو إنشائية.
تضمنها للعديد من الاقتباسات، مثل الاقتباسات المأخوذة من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، إضافة للأمثال، والحكم، وأبيات الشعر.
تضمنها لمفاهيم دلالية كثيرة.
الإيقاع الموسيقي البارز.
جدية الخطاب وصرامته.
تضمنها للاستعارات والتشبيهات التي تدل على ذكاء صاحبها.[9]
و يمكن لنا أن نرد على من رأى أن فن التوقيعات قد أخذه العرب عن الفرس، وذلك بالأدلة التالية:
1 ـ إن العرب قد عرفوا هذا الفن قبل أن يتصلوا بالفرس اتصالاً مباشراً، كما أنه لا فرق بين توقيعاتهم قبل اتصالهم بالفرس، وبعد أن اتصلوا بهم.
2 ـ التوقيعات قائمة على ما يلائم النظرة العربية التي تميل بفطرتها إلى الإيجاز، ومقدرة على البيان، وسرعة خاطر.
نشأة فن التوقيعات :
التوقيعات فن أدبي نشأ في حضن الكتابة، وارتبط بها، ولذلك لم يعرف عرب الجاهلية التوقيعات الأدبية ولم تكن من فنون أدبهم، لسبب بسيط وهو أن الكتابة لم تكن شائعة لديهم بل الذين كانوا يعرفون الكتابة في هذا العصر قلة نادرة، لذلك كان الأدب الجاهلي يتضمن الفنون الأدبية القائمة علي المشافهة، والارتجال، كالشعر والخطابة، والوصية، والمنافرة، وغيرها من الفنون القوليَّة القائمة على ذلاقة اللسان، والبراعة في الإبانة والإفصاح، وإصابة وجه الحق ومفصل الصواب كالحكم والأمثال، كذلك لم تُعرف التوقيعات في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الكتابة أيضاً لم تكن شائعة، وقد جاء الإسلام، وليس يكتب بالعربية غير سبعة عشر شخصاً. قد يصادف الباحث كثيراً من العبارات التي تتشابه وتتماثل مع التوقيعات في أسلوبها ومعناها ومبناها من حيث الهدف والغاية، والجرس الموسيقي والايجاز وجودة السبك، غير أن المؤرخين لم يعدوا هذا اللون من الأقوال من فنون التوقيعات لسبب واحد، وهي أنها صدرت عن صاحبها مشافهة، ولم تدون في حينها في أعقاب رسالة أو رد مكتوب، من ذلك علي سبيل المثال: ما روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي تميمة الهجمي: «إياك والمخيلة، فقال يا رسول الله: نحن قوم عرب، فما المخيلة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبل الإزار» فقوله: سبل الإزار أقرب إلي فن التوقيعات غير أنها قيلت في حينها مشافهة ولم تدون في أعقاب رسالة.[10]
ومن أقدم ما عرف من هذا الفن ما جاء عن الخليفة الراشد – أبو بكر الصديق – في توقيعه على رسالة خالد بن الوليد . فقد كتب خالد رضى الله عنه إلى أبى بكر الصديق يستشيره في أمر الحرب وكيف تكون فكتب له أبو بكر «احرص على الموت توهب لك الحياة» وما أروعة من توقيع وما أجملة من حكمة بالغة خالدة أصبحت شعار للمجاهدين الصادقين ويبدو أن مثل هذا التوقيع لقي استحسانا من خالد بن الوليد ورجالة فأمر بإذاعته بين الجند وأنتشر خبر هذا التوقيع حتى حاول الكثيرين من بعدة السير على منواله فكان ذلك بداية لهذا الفن الجميل.؟
ثم شاعت التوقيعات في عهد عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، لشيوع الكتابة، وامتد هذا الشيوع بصورة أوسع في عصر بني أمية، أما في العصر العباسي ومع ازدهار الكتابة الفنية وتعدد أغراضها، وحلولها محل الخطابة في كثير من شؤون الدولة وقضاياها، فأصبح الكاتب البليغ مطلباً من مطالب الدولة تحرص عليه وتبحث عنه لتسند إليه عمل تحرير المكاتبات، وتحبير الرسائل في دواوينها التي تعددت نتيجة لاستبحارها واتساع نطاقها، وكثرة ما يجبي من الخراج من الولايات الإسلامية الكثيرة المتباعدة، وأصبح لا يحظي بالوزارة إلا ذوو الأقلام السيالة من الكُتاب والبلغاء المترسلين، كالبرامكة- الذين نبغوا في كتابة التوقيعات حيث عمدوا في كتاباتهم إلى الاختصار الشديد.
وقد أنشأ العباسيون للتوقيعات ديوان خاص سمّي بديوان التوقيعات، واسند العمل فيه إلى بلغاء الأدباء والكتاب ممن استطارت شهرتهم في الآفاق وعرفوا ببلاغة القول، وشدة العارضة، وحسن التأني للأمور والمعرفة بمقاصد الأحكام وتوجيه القضايا.[11]
عوامل ازدهار التوقيعات في العصر العباسي:
ازدادت العوامل التي ساهمت في جعل التوقيعات فنًا مزدهرًا بهذا الشكل في العصر العباسي، ومن أبرز هذه العوامل:
رغبة الخلفاء العباسيين لتثبيت حكمهم وضرورة ذلك في أول فترة خلافتهم بعد توليهم الحكم بعد بني أمية، فقد أدت التوقيعات إلى فرض حكم العباسيين، وفرض سيطرتهم عبر الأوامر التي كانت تلقى من الخلفاء على هيئة التوقيعات.
تميز الخلفاء العباسيون بالثقافة والأدب؛ الأمر الذي كان جليًا من بلاغة توقيعاتهم واللغة الأدبية المميزة المستخدمة فيها.
اختلاط العباسيين بالحضارات الأخرى، ولا سيما الحضارة الفارسية، والتي اشتهرت بالتوقيعات، فأخذوا عنهم هذا الفن، وأضافوا إليه لمسة عربية.[12]
أنواع التوقيعات :
بعد أن تحدثنا عن عوامل ازدهار التوقيعات يجدر بنا أن نتعرف على أنواعها، وهي ما يلي :
- قد يكون توقيع الخليفة أو الوزير أو الكاتب آية من القرآن الكريم.
من ذلك أن يحيى البرمكي كتب إلى هارون الرشيد وهو بالسجن يستعطفه : من عبد أسلمته ذنوبه و أوبقته عيوبه، وخذله رفيقه، ورفضه صديقه، ومال به الزمان، ونزل به الحدثان فأصبح في الضيق بعد السعة، و عالج البؤس بعد الدعة … إلى قوله فمن مثلى الخطأ، ومن مثلك الإقالة، مد الله عمرك و جعل يومي قبل يومك. والسلام.
فلما قرأ الرشيد الخطاب وقع في أسفله بهذه الآية الكريمة، ” و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون “[13]
- وقد يكون التوقيع من الخليفة أو غيره حديثا نبويا : ومثل ذلك؛ ما وقع به المنصور في رقعة رجل من العامة يطلب فيها بناء مسجد في محلته، فوقع له : ” إن من أشراط الساعة، أن تكثر المساجد، فقد في خطاك، يزد في أجرك “
- وقد يكون التوقيع بيتا من الشعر : و من ذلك ما كتب به قتيبة بن مسلم الباهلي إلى سليمان بن عبد الله بن مروان الخليفة الأموي يتهدده بالخلع فوقع سليمان في كتابه : زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا أبشر بطول سلامة يا مربع.[14]
- وقد يكون التوقيع مثلا سائرا : ومن ذلك، ما وقع به علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ” في بيته يؤتى الحكم “[15]
- وقد يكون التوقيع حكمة بالغة : ومثال ذلك ما وقع به جعفر بن يحيى البرمكي، في قصة متنصح ” بعض الصدق قبيح “[16]
- و قد يكون التوقيع قولا بليغا مؤثرا : ومن ذلك، ما كتبه المهدي إلى صاحب خراسان في أمر جاءه، ” أنا ساهر وأنت نائم “[17]
أصحاب التوقيعات في العصر العباسي :
إننا نجد في العصر العباسي التأثر بالآداب والثقافات الأجنبية، مثل: الفارسية، والهندية، واليونانية، ولكن رغم ذلك فقد كان للعرب أصالتهم في فن الإيجاز الذي ظهر جلياً واضحاً في أمثالهم وحكمهم ثمَّ توقيعاتهم. وقد برع من أصحاب التوقيعات في العصر العباسي: أبو جعفر المنصور، وابنه المهدي محمد أبو عبد الله، و هارون الرشيد وابنه المأمون عبد الله أبو العباس، وكثير من وزراء الدولة العباسية.
رفع صاحب خرسان إلى المنصور العباسي عبد الله أبو جعفر، رسالة، ظهر للخليفة منها أن عامله أساء في التصرف، فوقَّع عليها بقوله: «شكوت فأشكيناك، وعتبت فأعتبناك، ثمَّ خرجت على العامة، فتأهب لفراق السلامة». و(أشكيناك) أي أنصفناك، وقضينا على أسباب شكايتك، و (أعتبناك) أي قبلنا عتبك. والمنصور هنا يخبر عامله على خرسان الذي أساء التصرف بأنه أحسن إليه، ولكنه أساء إلى الناس، فوجب عزله على الفور.
وكتب إلى المنصور أيضاً عامله بمصر، يشكو نقصان نهر النيل، فوقَّع على الكتاب بقوله: «طهر عسكرك من الفساد، يعطك النيل القياد». ومعنى (القياد) الزمام، والمراد وفرة الخير، والمنصور العباسي هنا يبين لعامله بمصر أن الفساد، وما يرتكبه جنوده من موبقات، هو السر في نقصان نهر النيل، وأن هذا النقصان ما هو إلا عقاب من الله تعالى، لا يزول إلا بصلاح الحال والأحوال.
ورفعت إلى الخليفة المهدي محمد أبو عبد الله، قصة رجل حبس في دم، فوقَّع فيها بقوله: «ولكم في القصاص حياة». والقصاص هو إقامة الحد على الجاني، والمهدي يبين في توقيعه أن من قتل فجزاؤه القتل، وبهذا يعم الاستقرار والسلام المجتمع، وهذه إشارة من المهدي بأن الواجب قتل هذا الرجل.
وبعث إلى الخليفة المهدي أيضاً عامله بأرمينيا يشكو له سوء طاعة الرعية، فوقَّع إليه بقوله: «خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين». والعرف هو: المعروف، والجاهلين: المعتدين، والمراد هنا: السفهاء والحمقى. والمهدي يأمر عامله بأن يأمر بالمعروف، ويعفو عن أصحاب الهفوات، ويتجنب السفهاء والحمقى قدر الإمكان.
ووقَّع الخليفة هارون الرشيد إلى صاحب خراسان، وقد بدا تذمر الرعية عليه: «داو جرحك لا يتسع». فهو ينصح عامله بخرسان أن يتدارك أمره، ويحسن معاملة الناس قبل فوات الأوان.
ووقَّع الخليفة الرشيد أيضاً في حادثة البرامكة، بقولـه: «أنبتتهم الطاعة، وحصدتهم المعصية». الرشيد يبيّن رأيه في حادثة البرامكة، فيقول: إنهم حين كانوا مطيعين، يفون بالعهد للخلفاء، عظم شأنهم، وحين خانوا قضت عليهم خيانتهم. وقولـه (أنبتتهم الطاعة، وحصدتهم المعصية): شبه فيه البرامكة وقد ظهروا بسبب إخلاصهم، بالبذور التي تنمو، وتترعرع، ثمَّ شبههم وقد نكبوا بسبب تمردهم وخيانتهم بالزروع التي تحصد، ثمَّ حذف المشبه به في كل من الصورتين، وأبقى في الكلام ما يدل عليه وهو أنبتت، وحصدت، وهما استعارتان مكنيتان، سر جمالهما أنهما يظهران أثر الطاعة، وأثر المعصية في صورة مادية ملموسة هي صورة البذور وهي تنمو، والزروع وهي تحصد.
ووقَّع المأمون العباسي، عبد الله أبو العباس، في قصة عامل كثرت منه الشكوى: «قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت». فالمأمون العباسي يأمر عامله الذي كثرت منه الشكوى، وتضجر الناس منه، يأمره بالاعتدال في الحكم، وإلا عزله عن العمل. فن التوقيع ،[18]
نماذج التوقيعات المختارة :
بعد ظهور العصر العباسي قد تطورت فنون أدبية عديدة في النثر العربي. وقد كتب أحمد بن محمد بن عبد ربه في كتابه الشهيرة ‘ العقد الفريد ‘ في التوقيعات، فهو يخاطب من سعد بن أبي وقاص كتب إليه سعد في بنيان بيته فوقع في أسفل كتابه : ” أ أبن ما يلنك من الهواجر و أذى المطر”[19]
و قد وقع الخليفة الراشد عثمان غني رضي الله عنه في قصة رجل شكا عيلة عليه : ” قد أمرنالك ما يقيمك و ليس في بيت المال فضل المسرح ” .[20]
وقد وقع عبد الملك بن مروان في رد كتاب من الحجاج بن يوسف الثقفي: ” جنبنى دماء بن عبد المطلب فليس فيه شفاء من الطلب ” .[21]
حينما حصل عمر بن عبد العزيز على رسالة من حاكمه لبناء المدينة وقع : ” ابنيها بالعدل و نق طرقها من الظلم “.[22]
و توقيع هشام بن عبد الملك في عريضة أسير : ” نزل بحدك الكتاب ” .
هكذا توقيع أبي العباس السفاح : ” من صبر في الشدة شارك في النعمة “.[23]
حينما شكا أهل الكوفة في حاكمهم إلى الخليفة وقع في ردهم : ” كما تكونون يؤمر عليكم “
وقع المنصور : ” سل الله من رزقه “
وقع المهدي في عريضة سجين يستعطفه و يسترحم لحياته : ” ولكم في القصاص حياة لأولى الألباب “
إن فترة هارون الرشيد غنية جداً من حيث إعطاء أبعاد جديدة لفن التوقيعات الذي كان يعمل مع فريق من الأدباء يحيى بن خالد وولديه الفضل وجعفر وعامر بن مسعود وغيرهم ممن أعطوا لوناً جديداً في فن كتابة الملاحظات على وثائق الدولة كواجب إداري. لقد كانوا حريصين دائمًا على أن رأوا أن كتاباتهم هي قطع من الجمال الأدبي بطريقة أو بأخرى.
لقد كان جعفر بن يحيى بارعا حتى الكمال في فن كتابة الملاحظات وتسوية القضية في حين، بعض الأحيان هو يعبر عن معنى واحد في عبارات عديدة منها مثل : ” العدوان أوبقه، والتوبة تطلقه” ، و ” الجناية حبسته والتوبة تطلقه ” ، و ” لكل أجل كتاب ” ، و” لا تبعد من ضمك ” وما إلى ذلك.[24]
و كان المأمون الرشيد متضلعا في توقيعاته مع حسن نظام الخلافة ، أنه قد كتب إلى عمرو بن مسدة في الرعايا المظلومين : ” يا عمرو عمر نعمتك بالعدل فإن الجور يهدمها “
وفي قضية أخرى وقع إلى أبي عباد: ” يا ثابت! ليس بين الحق والباطل قرابة “
وقع إلى ابن قحطبة : ” لا تنس نصيبك من الدنيا “
وفي مقام آخر وقع : ” ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة “
و وقع إلى مديره بالبلخ : ” لا تؤخر عمل اليوم للغد “[25]
الخاتمة :
وبعد أن طوفنا مع نماذج مشرقة من التوقيعات الأدبية الجميلة المعبرة بقى أن نتساءل أين نحن الآن من هذا الفن الجميل؟ و الإجابة أنه قد اندثر أو كاد ولذلك أسباب كثيرة منه ضعف القدرة على إبداع التوقيعات الأدبية المناسبة. ومنها منظومة التسلسل الإداري. فهذا يعد مسودة الخطاب وذلك يؤثر عليه وهذا يعتمده ويوقع عليه فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإدارة الحديثة تحرص على وضوح التوجيه ودقة الشرح أكثر من حرصها على بلاغة الشرح وجمال التعبير.
ومما لاشك فيه أن التوقيعات ازدهرت في العصر العباسي الأول، استمراراً لازدهارها في العصر الأموي، ثمَّ ضعف شأنها، حين مال النثر الفني إلى الصنعة والإطالة، وذلك لأنَّ قوام التوقيعات هو الإيجاز والتركيز. وختاماً لهذه السطور ندعو الباحثين إلى دراسة علمية منهجية لفن التوقيعات، ذلك الفن الذي نسيناه أو تجاهلناه، فلعل هذه الدراسة تكشف لنا عن أبعاد نفسية واجتماعية وأدبية وسياسية يمكن أن يوضحها لنا هذا الفن النثري الأصيل في أدبنا العربي.
المصادر والمراجع :
- تاريخ الأدب العربي، أحمد حسن الزيات، ص ١٥٣ ، دار المعرفة، بيروت، الطبعة العاشرة ٢٠٠٦م
- الدراية : الدكتور سعيد أحمد غراب ، فن التوقيعات في العصر العباسي الأول : ” دراسة موضوعية و فنية “
- العقد الفريد ، أحمد بن محمد بن عبد ربه، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، ١٩٨٩م
- فن التوقيع، https://ar.m.wikipedia.org
- فن التوقيعات في العصر العباسي، ميساء لغلاص ، https://mawdoo3.com
- فن التوقيعات الأدبية فن إسلامي خالص، الأستاذ صلاح عبد الستار محمد الشهاوى https://www.darululoom-deoband.com/arabic/articles/tmpt
- الفن ومذاهبه في النثر العربي، شوقي ضيف ، القاهرة، ١٩٥٦مالقرآن الكريم
- لسان العرب للإمام العلامة ابن منظور، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة
[1] . تاريخ الأدب العربي، أحمد حسن الزيات، ص ١٥٣ ، دار المعرفة، بيروت، الطبعة العاشرة ٢٠٠٦م
[2] نفس المرجع السابق، ص ١٥٦
[3] لسان العرب للإمام العلامة ابن منظور، ج ١٥ ، ص٣٧٢، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة
[4] الفن ومذاهبه في النثر العربي، شوقي ضيف، ص٤٥٦ ، القاهرة، ١٩٥٦م
[5] ( الدراية، ص ١٠٥٩ ، نقلا عن كتاب نقد النثر لقدامة بن جعفر، مطبعة مصر، شركة مساهمة مصرية بالقاهرة، ١٩٢٩ ، ص١٠٢
[6] الدراية : ص١٠٤٤، الدكتور سعيد أحمد غراب ، فن التوقيعات في العصر العباسي الأول : ” دراسة موضوعية و فنية “)
[7] التوقيعات الأدبية فن إسلامي خالص، الأستاذ صلاح عبد الستار محمد الشهاوى
[8] التوقيعات الأدبية فن إسلامي خالص، الأستاذ صلاح عبد الستار محمد الشهادة،https://www.darululoom-deoband.com/arabic/articles/tmp
[9] فن التوقيعات في العصر العباسي، ميساء لغلاص. https://mawdoo3.com
[10] فن التوقيعات الأدبية فن إسلامي خالص، الأستاذ صلاح عبد الستار محمد الشهاوى https://www.darululoom-deoband.com/arabic/articles/tmpt)
[11] نفس المرجع السابق تلخيصا
[12] فن التوقيعات في العصر العباسي، ميساء لغلاص. https://mawdoo3.com
[13] سورة النحل، آية، ١١٢
[14] العقد الفريد، ج٤/ص٢٠٨
[15] الدراية، ص ١٠٦٨ نقلا عن جمهرة رسائل العرب، ٤/٣٧٤
[16] العقد الفريد، ج٤/ص ٢١١
[17] الدراية، ص ١٠٦٩ نقلا جمهرة رسائل العرب ج٤/ص٣٨٤
[19] العقد الفريد، ج٤/ ص ٢٥٦
[20] نفس المرجع السابق، ص ٢٥٦
[21] نفس المرجع السابق، ص ٢٥٧
[22] نفس المرجع السابق، ص ٢٥٩
[23] نفس المرجع السابق، ص ٢٦٢
[24] العقد الفريد، ج٤/ص٢٦٥-٢٦٦
[25] نفس المرجع السابق، ص ٢٦٩-٢٧٠