الدكتورة سميه رياض الفلاحى
آراضى باغ ، اعظم كره
كلما سمعت عن قرية و عيشتها فكانت تضطرب فإنها ولدت و تربَت و ترعرعت فى بيئة مدنية.
هل هناك تنقطع الكهرباء طوال اليوم ؟ و كيف يعيش الناس بدون الكهرباء؟ كانت تسأل من كل شخص.
شابة سامحة قصيرة القامة ، بشاشة الوجه ، و أسمر اللون و شديدة الذكاء و معروفة باصابة الرأى و براعتها و فطنتها فى الصف وهى بنت وديعة حب لأبويه فكانت تواظب على رعاية والديها من طعامهما و علاجهما و قضاء اجتياجاتهما.
كانت تخاف من عيشة القرية كما يخاف المرء من العدوَ و تبغى الفرار منها كما يفرّ الرجل من الأسد.
توالت الأيام ….
و كانت تعيش عيشة هادئة منذ طفولتها حتى دخلت المدرسة الإبتدائية ثم التحقت بالمعهد المتوسط و امتازت بين صديقاتها بأنها كانت تتحدث بكلام متواضع و اعتزت بعلمها و براعتها.
و ذات يوم فى الصباح ، فى الساعة العاشرة هى جالسة على الأريكة سمعت دق الباب و سألت من؟
أنا …. فريحة ….. أنا مستعجلة …. افتحى الباب.
سارعت بفتح الباب و نصرتها ، و هى التى هربت من مكايد أشرار الناس.
ماذا حدثت ؟ تسألها…..
و كانت تبكى بحرقة و تلعنهم و تقول أن الويل لهم و رأت سامحة رأسها محطم بحجر فأسرعت إلى العون الطبى حتى نجحت فى تسديد الجرح. و جاء وقت العشاء فشعرت بالجوع و النوم فتناولت العشاء ثم نهضت من هنا و استسلمت نفسها إلى النوم حتى استيقظت فى صباح مبكر … و سمعت رنينات السيارات من سقف الشقة. أخذت الفرشاة لتنظيف الأسنان ثم استحمت و غيرت لباسها ثم فكرت فى واقعة الأمس و غرقت فيها إلى وقت طويل حتى تنبهت من صوت جليستها التى لا تقضى أوقاتها إلا بإعانتها ولا تدور فى الأسواق والمخازن الكبرى إلا معها.
سمعت صوتها و نهضت مدهشة ثم مكنت فى نفسها و ذهبت إلى طاولة الطعام الكروية ثم تناولت الفطور من بيتزا و شاي و برجر دجاج مع ثمرات طازجة موضوعة فى الصندوقات الخضروية.
ثم ذهبتا إلى الكلية معا و تحادثتا بألفة و شفقة. دخلتا الصف و تحيتا على جميع رفقاء الدروس حتى جاء الأستاذ و بدأ المحاضرة فكانت فريحة غارقة فى الخيال البعيد كأنها تحلم و دق الجرس فتنبهت و صرفت وجهها ….
و كانت سامحة تفكر فى شخصيتها بالدقة و كذلك تبوأت مكانة مرموقة بين صديقاتها ولا تزال تمضى السنوات حتى جاء يوم العيد فكانت تحلم أنها ستعقد علاقتها بالصاحب الجليل و كانت تتمنى أن تعيش عيشة رغيدة معه.
و كانت تستريح برؤية والديها فى جميع الأوان و تكلم نفسها بصوت عال أحياناً و بصوت خفى فى بعض الأحيان و كانت تشتاق إلى أدوات المكياج و حصلت على شهادة للمكياج تحت إشراف المرأة التى برعت فى هذا المجال.
و مرَت الأيام حتى جاء يوم خطبتها اثناء الحظر الكامل من أجل كوفيد 19 . و بدأت تحلم عيشتها الزوجية السعيدة مع رجل أجنبى و يتسنى لها أن تتزوج معه فى حفلة الزواج فى بيت قريتها و رحلت إلى بيت زوجها القروى الحريص المتملق و لم تدر عليه و خصائله السيئة و كانت تعيش بالفرح و الطرب دون مبالاة بمستقبلها الخائب.
راحت تقيم فى بيت المصاهرة و تبالى بإعانة أهل البيت بالخلوص و الرضا و تظهر ضحكتها فى كل وقت و تصمم فى نفسها أن تلعب معه فى كل ميادين الحياة الزوجية و تحلف بأنها ستحاول لتكميل ضيق المعاش فى كل مرحلة من المراحل الصعبة و سافرت إلى مدينة دلهى لتشترى الأدوات المكياجية و الملابس الرخيصة القطنية و رجعت إلى بيتها و استمرت على محاولتها الكاملة للبيع لكى تنجح فى إزالة ضيق المعاش.
فكانت تحس بالافتقار و ضيق الكسب و تشعر بحزن ثقيل ينوء به قلبها فى كل آن و تحاول لتدفع المضايقة حينما تعانى من ظلم الزوج فكان يلعنها و يلومها و يضربها بالسوط و الحجر و حتى حاول أن يحترقها و لكنها أرضته بكل ما تفرد من خدمته و كانت تبكى فى نفسها و دموعها لا تزال تتساقط و تتدحرج على السلم و يظل رأسها يتخبط بين الدرجات.
و تمرَ الأيام ….
و كانت تعيش مستكينة إليه و تظهر فرحها أمام أبويها و كانت تتجشم من معاناة الأسرة و تتوق لزيارة والديها منذ شهرين حتى جاء موسم الشتاء فكانت مضطرة و مضطهدة لأنها لم تعرف البرد فى حياتها من قبل و حينًا واجهت البردة فى بيتها الريفية فكانت تضطرب و تحس بالرعشة فى بدنها ولكنها تحاول لأن تقضى حياتها على عادتها.
و لما اشتدت البرودة فاضطرت إلى لزوم بالغرفة ولا تخرج من الغرفة إلا لتحضير الأطعمة و تجهيز الأدوات اليومية للأسرة و كانت تواظب على اهتمام الوعى بعمل نافع. و كانت مخلصة فى أداء واجباتها و لكنها تفأجأت بالألم العصبى و العضلى حتى أصبحت صاحبة الفراش فلم تكن تتحمَل إرضاء أسرتها و كانوا يؤامرون عن اخراجها من البيت ولكنها تؤدى واجباتها بالفرحة والسرور و تؤد أن تقضى حياتها معهم بدون غضب و صخب.
و مضت الأيام حتى تعبت من آلامها كما أنها لا تجد وقتًا طويلًا للاستراحة فواجهت بمرض الغشى والغيبوبة وهم يتنفرونها و يهددونها ولكنها لم تعثر على مؤامرتهم السيئة.
و كانت تشتاق لتسافر إلى بيت أبيها و تلقى صديقاتها الطفولية و حاولت لحجز التذكرة الهوائية ولكن منع زوجها و قال:
كيف يمكنك أن تذهبى بعيدة منى و أنا أحبك حبًا شديدًا ولا يمكن لى أن أكون بدون صحبتك؟
عليك أن تذهب معى . أجابت :
ولكن كيف ؟ ما عندى فلوس لحجز التذكرة ولا شقة فى المدينة وهنا اشتد مرض والديَ و أريد أن أبيع كلى لمعالاجاتهما. ابتزَ هو ولكنها لم تعثر .
و بدأت تبكى و تسيل دموعها و قالت :
لا حاجة ببيع الكلى …..
ساهتم بمعالاجاتهما فهما قرَة أعينى.
رفعت الجوَال و اتصلت رقم أخيها.
كيف أنت يا أختى ؟ سأل أخوها.
أنا لست بصحيحة فهو جميل يريد أن يبيع الكلى لمعالاجاة أبويه و كانت تغصَ صوتها و تبكى بشدة البكاء.
لا تبكى ولا تقلقى يا أختى الحبيبة.
سوف اهتم بمعالاجاتهما الطبية و أرسل إليكما الروبيات … قال أخوها.
فقاطعت التكلم …..
و تنفست بالطمأنية ….. و نظر إليها بالاشمئزاز.
و فرح فى القلب ثم مرح ….
و كانت تريد أن تروح إلى أبويها فى ثوان ….
ماذا تفكر يا حبيبتى ؟ سأل زوجها.
أنا أفكر فى زيارتى إلى والدى و قضاء أيامى فى صحبتهما العافية. أجابت :
هل أنت تريد أن تتركنى وحيدًا فى هذا البيت و أنت بعيدة منى؟ أنت روحى و نفسى . ألقى إليها كلمات معسولة .
لا، أنا لا أريد أن أبعد منك ….
فغيَرت إرادتها للسفر فى الغد ….
استمرَت والدتها على اتصالها و أصرَت بلقاءها …
سوف آتى إليك يا أمى الحنون . أنا اشعر بوجودك شعورًا حارَا.
و أنا مستعدة و سأحاول لحجز التذكرة القطارية …. وعدت أمها … و وضعت الجوَال …. و هو يبتسم … و هو خائنًا ….
ماالوضع عن التذاكر ؟ سألت زوجها.
لم أجد حتى الآن … و سوف أحاول مرة ثانية فى يوم الغد. و كانت تهتم بشؤون الترتيب و تجهيز الأمتعة بالتحمس و هو يظل واقفًا بجوارها و يريد أن يختنقها بغضب.
ماذا حدث ؟ سألت سامحة بالحيرة.
فخلف و قفز قفزًا سريعًا و قال أنا فقط أمزح …
ثم تحوَلت و رفعت الجوَال و اتصلت رقم زوجة أخيها..
التقطت الجوَال زوجة أخيها من جانب آخر و تحيَتا بعضهما ببعض و سألت هل أنت حجزت التذكرة؟
لا ، اليوم …. ممكن سيكون الغد إن شاء الله . أجابتها .
هل أنت بخير ؟ و أنت متحمسة للسفر ؟
بالضبط … ضحكت بصوت عال .
انقطع الاتصال ….
آن وقت المساء ….
سمعت زوجة أخيها رنين الجوَال و نظرت الرقم الجديد و التقت … من أنت ؟
أنا جميل ، و كان يبكى بصرخة البكاء.
ماذا حدث ؟ سألت سعاد …. و كانت تصرخ ….
سامحة أصيبت بمرض خطير و هى فى حالة الإسعاف ….
و هو يتنفس تنفسًا سريعًا ….
و كانت سعاد تصرخ كصرخ الحمار و أخذت جلبابها و وضعت على مناكبها و سرعت كمجنون و ركبت السيارة حتى وصلت المستشفى فتخبطت كما يتخبطها الشيطان و كانت تعول كنبح الكلاب حتى دهش الناس حولها و يتحيرون ….
ماذا حدثت …. ماذا حدثت …. ماذا حدثت؟
كانت تسأل كطفل صغير ….
و لما رأت فغشيت …..
فما مضى وقت ….
جمع الناس فى بيتها و النساء يعلن و يبكين حتى رأت أخت سامحة علامة الاختناق فى عنقها فصرخت ….
ماذا وقعت ؟ وقفت النساء يسألن ….
والله ما فعلنا شيئًا …. أجابت أم جميل :
و سوف نقوم بحلف القرآن ….
قالت أختها لم ينزل الله القرآن للأيمان و الحلف ، بل للعمل و هو الكتاب لا ريب فيه . هدى للمتقين. فمن يرتكب بجريمة و هو حرام فما يمنع من أن يأخذ القرآن فى يده للحلف؟
لأفعلن شيئًا بعمل قانونى … أجابت أختها ….
هل هناك أحد من يشهد على هذا الجرم العظيم؟
و هم يغيبون عن أهل سامحة و يتصامتون و يتناجين النساء بعضهن ببعض.
جمعت النساء من قريتها و كلهن يبكين فلم تر سعاد مأتماً مثل هذا فى حياتها ثم رجعن خائبات إلى بيوتهن.
اصبروا فإن الله مع الصابرين.
تمتمين النساء و كلهن يدعون لها بالمغفرة و الرحمة عند الله و نامت سامحة على ضفة القرية للأبد.