Main Menu

دراسة ” وداعا أيها الملل” لأنيس منصور

د. وصي الله الندوي

إذا كان سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض فقد جاء أنيس منصور ليمسح بها الأرض، ذلك أن سقراط صرف الفلسفة من البحث في الأمور العلوية التي تخص الآلهة إلى البحث في الأمور الأرضية التي تهم الإنسان، صرفها إلى البحث في الفضيلة والمعرفة وما ينبغي أن يكون عليه سلوك البشر، ولكنها على أيام أنيس منصور أصبحت تبحث كما يقول: “لا أقول في الأمور الأرضية وكفى، بل في الأمور الأرضية والأرضية جدا، في كنه مرض الإنسانية في منتصف القرن العشرين، القلق والسام، التوتر والألم، العبث والضياع، الإحساس باللاجدوى والشعور بالغربة والغرابة والاغتراب”[1]. وكلها عند أنيس منصور أسماء لمسمى واحد هو “الملل”، فمن الملل يصدر كل شيئ وإلى الملل يرتد كل شيئ، ولذلك فهو يرى:

“أنه في البدء خلق الله السماوات والأرض، وأنه شعر بالملل وبعد ذلك خلق آدم وحواء، وآدم وحواء شعرا بالملل في الجنة فارتكبا أول خطيئة، وملأ الحياة على الأرض فارتكب أحد أبنائهما أول جريمة، وهكذا كل شيئ، فليس الماء أصل الأشياء كما قال حكماء اليونان، وليس هو النار ولا الهواء ولا التراب وإنما هو الملل الأسمى أو الملل في أعلى درجاته أو هو باختصار الملل الخلاق”[2].

الملل إذن هو الركيزة المحورية التي تدور عليها أغلب مقالات هذا الكتاب، أو هو الحدس الفلسفي البسيط الذي يبدأ منه الكاتب ويعود إليه أبدا، ذلك أن أنيس منصور شأن كبار كتاب الوجودية يتخذ من حياته مادة لكتاباته وما حفلت به هذه الحياة من زلازل باطنية عنيفة وأزمات وجدانية حادة استطاع أن يعبر بها حقيقة وجودية هامة هي أن الفلسفة لابد أن تكون وليدة تجربة حية أو تجربة وجودية. ومن هنا كان أنيس منصور بحق الكاتب الوجودي الأول في ثقافتنا العربية لأن الارتماء في أحضان مذهب من المذاهب الوجودية يناقض الوجودية الحقة في أساسها، وأساس الوجودية عند كل كاتب من كتابها الكبار أن يستقل الفرد بتفكيره وشعوره وعمله عن كل قيد من قيود المذهبية، فليس وجوديا على الحقيقة ذلك الذي يقول إنه وجودي على مذهب هيدجر كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي أو وجودي على مذهب كيركجارد كما يقول الدكتور زكريا إبراهيم أو وجودي على مذهب سارتر أو كامي كما يقول الكثيرون. لأن تقليده في حياته لحياة إنسان آخر يلغي حياته المستقلة ويجعله تابعا من توابع التقليد الذي تثور الوجودية عليه[3].

إن أنيس منصور إذ يتخذ من تجاربه الحية قاعدة لإطلاق كتبه وكتاباته وهو يشارك كبار كتاب الوجودية في الابتداء من نقطة ذاتية خاصة تعبر عن تجربة وجودية، هذه التجربة هي التي يفلسف بها حياته ويحيا بها فلسفته، وعن طريقها يصدر من الداخل ليلتقي بالخارج، على أن هذه التجربة تأخذ بالضرورة صورا متعددة تبعا لاختلاف كل كاتب عن الآخر، فهي عند كيركجارد قد اتخذت صورة قشعريرة صوفية قوامها الخطيئة واتخذت عند هيدجر صورة شعور حاد بأن الوجود للعدم أو أن الوجود سائر حتما نحو الموت، واتخذت عند سارتر صورة شعور مريض بالغثيان ما دام الوجود في نظره حزمة من الأشياء المتلازجة لا يربط الواحد فيها بالآخر صلة روحية، وما دام الأمر كله لا يعدو أن يكون تلامسا يلتزج فيه وجود بوجود. أما عند البير كامي فقد اتخذت هذه التجربة صورة إحساس أليم بأن كل ما في الوجود عبث فنحن نولد ونحيا عبثا، نسعى ونشقى عبثا، نعمل ونأمل عبثا، والحقيقة أن الكل باطل والكل إلى انتهاء، وهذه هي النهاية اللامعقولة لكل موجود[4]. وبعد هؤلاء جميعا تجيئ هذه التجربة لتتخذ عند أنيس منصور صورة شعور غامض حنون، كأنه الخدر، كأنه التثاؤب، كأنه اللاشيئ أو اللامعنى، إنه حالة فقدان كل شيئ لفحواه وفقدان كل شيئ لجدواه، إنه حالة أن تفقد استطعامك لأي شيئ، أن تأكل ولا تتذوق، أن تستلقي ولا تنام، أن تشتهي ولا تحب، إنه باختصار حالة انعدام الوزن أو استواء الطرفين، هذه الحالة هي التي يطلق عليها أنيس منصور اسم الملل بكلماته: “أنا في حالة الملل لا أعرف بالضبط إن كنت أنا المرض أو أنا المريض، ولا أعرف إن كنت أنا المريض الذي انتقلت عدواه إلى غيره أو أنا ضحية لمرض الآخرين”[5].

وعند كاتبنا الفيلسوف أن الذي يشعربالملل ليس هو الذي لا يرغب في الحياة، وليس هو الذي لا يرغب في الموت: “لأن الذي لا يرغب في الحياة يرغب في الموت، والذي لا يرغب في الموت يرغب في الحياة، فكلاهما يرغب في شيئ. ولكن الذي يمل أو الذي يتململ هو إنسان لا يرغب حتى في الرغبة”[6].

هكذا استطاع أنيس منصور أن يشخص هذا الداء الذي أصيب به قرننا العشرون، هذا المرض الذي هو مرض الأمراض، وهذا السم الذي هو سم السموم، هذا السم المضاد للطبيعة كلها، والذي يسمى الملل. وهو ليس الملل العارض ملل التعب أو ملل الحيرة، وليس هو الملل السطحي الذي يرجع إلى الفقر أو البطالة أو سوء الطالع وإنما هو الملل العميق، الملل الكامل، الملل الخالص، فكتاب “وداعا أيها الملل” هو التعبيرالفلسفي عن هذا الجو. والآن نحلل بعض مكونات هذا الجو أو بتعبير أصح لنحلل فلسفة الملل عند أنيس منصور:

المعنى الدرامي للحياة

كما وصفنا أن كتاب “وداعا أيها الملل” هو بحث في كنه مرض الإنسانية في منتصف القرن العشرين، ذلك لأن أنيس منصور يرى أن الإنسانية مريضة في هذا العصر وأن مرضها هو مرض الأمراض، تماما كما وصف الكاتب الإنجليزي الشاب كولن ويلسون كتابه “الغريب” (The Outsider) بأنه دراسة تحليلية لأمراض البشر النفسية في القرن العشرين فهو الآخر يرى أن الإنسانية مريضة في هذا القرن، وكلاهما يخصص الجزء الأكبر من كتابه لتشخيص هذا الداء الذي تعانيه الإنسانية، ثم يقترح الدواء الذي يفضله يمكن للإنسانية أن تشفى من مرضها الدفين. إلا أن كولن ويلسون يصف هذا المرض بأنه مرض “الغربة”[7] بينما يصفه أنيس منصور بأنه مرض “الملل”. ويلتمس كولن ويلسون الخلاص في الرؤية الصوفية أو الكشف الروحاني أو فيما أسماه طريقة النمو المتسق للإنسان. أما أنيس منصور فـهو:

“يلتمس الخلاص في الحب تارة وفي العمل تارة أخرى أو فيهما معا على اعتبار أن الحب هو الشحنة الوجدانية للعمل، وأن العمل هو الذي يضع حدا لحالات التفرج السلبي والتأمل الحيادي ليتخذ موقفا إيجابيا من نفسه ومن غيره”[8].

ولكن ما هي طبيعة هذا الملل؟ كيف يصاب به الإنسان وكيف يمكن أن يشفى منه الإنسان؟ عند أنيس منصور “أن ظاهرة الملل تبدو لأول وهلة ظاهرة اجتماعية، ذلك لأن من صفات الإنسان الذي يصاب بالملل أنه لا يتلاءم مع المجتمع الذي يعيش فيه. فالذي عنده ملل يشعر أنه ليس على صلة بالواقع، إنه منعزل، إنه معزول، إنه منقطع، إنه مقطوع، وإنه لا توجد لديه وسيلة للاتصال بالعالم الخارجي”[9].

لكن ظاهرة الملل في الحقيقة ليست مجرد ظاهرة اجتماعية، فالشخص الذي يعاني تجربة الملل هو الشخص الذي يرى الإنسان على حقيقته، تلك الحقيقة التي تحجبها عن العين طبيعة الحياة في المجتمع، ولأنه يدافع عن الحقيقة وحدها ولا يقبل غيرها، كما نراه دائما إما ثائرا على المجتمع أو منعزلا عن المجتمع، وهذا هو السبب في أن الإنسان الملول إن صح هذا التعبير يكون هدفا لحملات كل الذين يعيشون من المساومة مع ضمائرهم، وكل من لا عقيدة لهم سوى الدعاية الفارغة، وكل من لهم قلب طيب إلى حد العبط. ومن هنا نرى أن ظاهرة الملل عند أنيس منصور لها جانب سيكولوجي وجانب ميتافيزيقي فضلا عن جانبها الاجتماعي، وأنها تمر بمراحل ثلاث هي على التوالي، مولد الملل، ثم حياة الملل، وأخيرا موت الملل.

مولد الملل

يرى أنيس منصور أن مولد الملل كان على أيدي ثلاثة رجال كبار استطاعوا أن يفتتحوا القرن العشرين، إن لم نقل إنهم هم الذين صنعوه صنعا، والصنعة والصناعة والتصنيع هي من علامات هذا القرن، قرن الأشياء المصنوعة. أليست كل نواحي البيئة الطبيعية الريفية تصبح بحكم تقدم المدنية بيئة صناعية؟

يصف أنيس منصور كلا من هؤلاء الرجال بالصياد الذي مد يده إلى الشبكة فوجد بها زجاجة مقفلة، فلما فتحها خرج منها مارد جبار كان محبوسا في قاع البحر منذ ألوف السنين. الصياد الأول هو كارل ماركس الذي فتح الزجاجة فخرج ماردها على هيئة رجل كادح يطالب بحقه في الخبز، والصياد الثاني هو سيجموند فرويد الذي خرج مارده من زجاجة اللاشعور على هيئة غريزة جائعة تطالب بحقها في الجنس، والصياد الأخير واسمه اينشتين خرج مارده على هيئة طاقة هائلة سجلت أول انفجار ذري عرفه التاريخ. هؤلاء الرجال الثلاثة الذين وجد أنيس منصور أنهم بمثابة القوى العاملة في القرن العشرين:

“هم أنفسهم الكاتب الإنجليزي ت. اي. لورانس  (T.E. Laurence)والرسام الهولندي فان جوخ (Van Gogh) وراقص الباليه الروسي نيجنسكي (Nijinsky) الذين رآهم كولن ويلسون على أنهم غرباء يمثلون نماذج ثلاثة لمرض الغربة الذي أصيب به قرننا العشرون. وكما تمثلت قوة الخبز في كارل ماركس وقوة الجنس في سيجموند فرويد وقوة الطاقة في اينشتين وحاول كل منهم أن يقضي على دء الملل ولكنه فشل، إذ حاول ماركس أن يقضي على الجوع فحسب، وحاول فرويد أن يشبع الغريزة فقط، واكتفى اينشتين بالتحكم في المادة. كذلك حاول الثلاثة الآخرون أن يشفوا من مرض الغربة بالسيطرة على أنفسهم، لكن سيطرتهم لم تكن كاملة. ذلك أن لورانس حاول أن يسيطرعلى عقله فحسب، وفان جوخ على انفعاله، ونيجنسكي على جسده. ومن هنا ذهب كولن ويلسون إلى أن الرجل المثالي هو الذي يجمع بين فكر لورانس الثاقب وانفعالات فان جوخ الجامحة وإدراك نيجنسكي لإمكانيات جسده تماما”[10].

كما ذهب أنيس منصور إلى أن سعادة الإنسان الحديث لن تتحقق إلا إذا جمع بين هذه القوى الثلاث، الخبز والجنس والطاقة، في نوع من التعايش السلمي، أما بقاؤها هكذا في حالة هدنة مسلحة أو حرب باردة فهو ما يسبب شقاء الإنسان، وهذا ما عبر عنه بقوله:

“ونحن نريد أن يتحول الوحش، هذا النمر إلى قط، هذا السيد الظالم إلى إنسان طيب مطيع، هذه الجماهير إلى قوى عاقلة، هذه الغرائز إلى طاقات سامية. والزجاجات ما تزال مفتوحة، والمفاوضات بيننا وبين هذه العفاريت دائرة، لا أمل في أن تدخل هذه العفاريت إلى زجاجاتها لنرمي في أعماق البحر، ولكننا بالعقل نحاول أن نروض القوى الجبارة وبين عقلنا وهذه القوى الهائلة تهتز حياتنا وسعادتنا”[11].

يصف أنيس منصور الشعور بالملل بحالة انقطاع التيار الكهربائ ونحن نرى الأشياء، أو بحالة انقطاع الماء الساخن ونحن نستحم: “فالملل هو الذي يجعل كل ما حولنا غريبا، أو يجعلنا نحن غرباء في هذا العالم، فالشعور بالغرابة والشعور بالغربة والشعور بالاغتراب هو بداية الملل. ولذلك فوسائل الاتصال بالغير ميتة، فالإنسان حي ولكن مواصلاته ميتة. إنه جثث ألفاظ وقبور معان”[12].

حياة الملل

اختار كولن ويلسون مثلا على الغريب النموذجي في الأدب الحديث بقصة هنري باربوس H. Barbusse “الجحيم”، ذلك البطل الذي كان يمعن في الغربة فيلجأ إلى غرفته في الفندق يغلق بابها ويقف على الفراش ليراقب ما يدور في الغرفة التالية من ثقب في الحائط، إنه ينظر ويرى الغرفة التالية وهي تدعوه إلى عريها، هذه الغرفة ليست إلا الحياة وقد خلعت ملابسها، ولذلك فهو كما يقول باربوس: “كان يرى أكثرمن اللازم، ويعرف أكثر من اللازم”.

وكذلك فعل أنيس منصور، اختار مثلا نموذجيا للملل فيلم “الليل” للمخرج الإيطالي العظيم انطونيوني: “كل شيئ في القصة وفي أبطال القصة يؤكد معنى الملل، أناس في حالة ملل أو ملل على هيئة أناس”. وقصة الفيلم خالية من الحوادث فمن معاني الملل ألا تكون هناك حوادث، كل ما هناك أننا نشاهد رجلا وزوجته في طريقهما إلى أحد المستشفيات، الزوجة وجهها جامد لا يتحرك، أما الزوج فهو في حالة غريبة من فقدان النطق. إنه لا يتكلم وإذا تكلم فهو لا يقول شيئا، لم يعد عنده ما يقوله، وإذا وجده فإنه لا يجد الدافع لكي يقوله، وإذا وجد الدافع كان الدافع الوحيد هو ألا يقول شيئا[13]. هذا الزوج أديب، وقد صدرت له قصة جديدة ولكن لا تبدو عليه السعادة، والاثنان يزوران رجلا مريضا، وهذا المريض سعيد بصوت آلات البناء وبصوت الطائرات النفاثة والصواريخ، إنه سعيد لأنه مريض، لأنه في إجازة إجبارية، ويبدو أن هذا المريض هو الآخر أديب، وتنتهي الزيارة وتبدأ مشكلة كل يوم “أين تذهب هذا المساء؟” أما الأديب فعنده حفلة أقيمت في نادي القصة بروما بمناسبة ظهور قصته الجديدة:

“الذين يمشون وهم نيام”. وتضيع الزوجة في زحام الاحتفال بزوجها فتتسلل إلى الخارج، إلى شوارع روما لتتسكع في الطرقات وتتفرج على الناس والأشياء. وأخيرا يعودان إلى البيت، الزوجة تدخل إلى الحمام وتلقي نفسها في البانيو، والزوج غارق في ملله، في ملابسه. “وليست ملابسه إلا مللا مصنوعا من القماش”[14].

ويقترح الزوج بلا حماسة أن يذهبا إلى بيت أحد الأثرياء، وتوافق الزوجة بلا حماسة على الذهاب. وهناك نشاهد “عشرات من الأغنياء من النساء والرجال يلعبون، أو يقطعون الليل، أو يهربون من الملل. كل واحد قرفان، الكلام قرف، الوجوه كاذبة، أو لا هي كاذبة ولا ي صادقة، محايدة، أناس لا يعرفون ماذا يفعلون”. وفي حديقة القصر نرى الزوجة تروح وتجيئ بلا صمت وأيضا بلا كلام، وزوجها مشغول عنها أو بعيد عنها. وقبيل نهاية القصة تعترف الزوجة بأن الأديب المريض في المستشفى كان يحبها، كان يعبدها، كان يقول لها: أنت. بعكس الزوج الذي لم يكن يقول لها إلا: أنا.

وفي نهاية القصة تخبره الزوجة بوفاة الأديب المريض فلا يتأثر ولا يهتز لأن شيئا لم يعد يهزه، لأن شيئا لم يعد يحركه.. لا الحياة ولا الموت، لا الكلام ولا الصمت ولا حتى الأدب. “إنه يعلن أنه لن يكتب بعد اليوم شيئا” ونهاية الفيلم كأنها بدايته: ملل في ملل. وكأن أعمالنا وأقوالنا ما هي إلا صلوات لإله جديد اسمه الملل، “فالزواج قاتل للحب، والتعود قاتل للزواج، والملل قاتل للجميع. وهذه هي حياتنا، ملل في ملل، أناس يمشون وهم نائمون، يمشون دون أن يدروا، وينامون دون أن يدروا، ويقتلون أنفسهم دون أن يدروا. إنهم دائخون، نيام، نيام، عراة كأبناء نيام نيام. حيوانات كأبناء نيام نيام. يأكل بعضهم  البعض كأبناء نيام نيام. والنتيجة “النتيجة هي شقاء أبناء هذا العصر”[15].

ولكن ألا توجد وسيلة للخلاص من الملل؟ هل الملل قد أصبح كلون البشرة لا يمكن أن يزول إلا بزوال صاحب البشرة؟ هل الملل أصبح كالبقع الموجودة في جلد النمر لا أمل في غسلها؟ أيوجد هناك أمل؟ ويرد أنيس منصور على تساؤله بأنه: “لا راحة لأبناء هذا العصر إلا بالمعجزة”. ولكن من أين لنا هذه المعجزة؟ هل نلتمسها في العلم؟ لا، في الدين؟ لا أيضا، في الحب؟ نعم، إذن فالحب هو خير دواء لعلاج الملل بالقضاء عليه”[16].

موت الملل

ولكن لماذا يرفض أنيس منصور معطيات العلم مع أننا نعيش فعلا في عصر العلم والعلم قد حقق لنا الكثير من المعجزات؟ الحقيقة أن أنيس منصور لا ينكر أننا نعيش في عصر العلم، وأن الناس أصبحوا يؤمنون بالعلم والعلماء والآلة الحديثة، وأن إيمانهم هذا بالعلم جعلهم يكفرون بالكلمة والعبارة، بالفن والشعر، بالذوق والخيال. ولكنه يرى أن إيماننا بالعلم هو سر شقائنا، فالآلات والسيارات والتليفزيون لم تحقق لنا سوى الوحدة والعزلة والانفراد، والطب أصبح عاجزا عن علاج أبسط الأمراض، والأسلحة انقلبت ضدنا، فبدلا من أن تحقق لنا السلام والأمن جعلتنا في حالة طوارئ، في حالة استعداج للقتال. فالعلماء هم حقا أنبياء هذا العصر ولكنهم أداروا ظهورهم للناس واتجهوا بوجوههم إلى المادة، فلم يبق أمامنا إلا الدين. ولكن رجال الدين ليست لهم كلمة مسموعة في عصر العلم، إنهم ينادون بالسلام الذي افتقده الناس والحب الذي لم يعرفوه، وصوت رجال الدين يجيئ من الداخل، من داخلنا، من أنفسنا، ونحن هاربون من أنفسنا، ولذلك فنحن لا نسمع صوت رجال الدين[17]. إذن فلابد لنا من سبيل آخر غير العلم والدين نلتمس فيه المعجزة، وننتظر المعجزة مع أننا نحن المعجزة. إن المعجزة في داخلنا وليست في الخارج، ولكي ندرك هذه الحقيقة لابد لنا من لحظة باهرة. هذه اللحظة عند أنيس منصور هي لحظة المرض:

“ففي لحظة مرضنا، فقط في لحظات المرض نشعر بوحدتنا، بإنسانيتنا. ويجيئ لنا من تحت الغطاء الثقيل والجلد الثقيل صوت مكتوم يذكرنا بأن الحياة ليست جريا ولا هربا وإنما هي أن نتوقف وأن نتأمل وأن نتذوق وأن نتكلم وأن نفتح أيدينا وأن نضمها وأن نعانق أنفسنا، نعانق إنسانيتنا، حقيقتنا، فنحن أعظم ما في الكون”[18].

تلك هي الحقيقة “نحن أعظم ما في الكون”. ومن هذه الحقيقة ينطلق أنيس منصور ليجد الحل، فإذا كان الطوفان الحديث اسمه الملل فإن نوحا الجديد اسمه الحب، وهنا تنشأ المقولة الثانية في فلسفة أنيس منصور وهي العمل، فإذا كان الحب هو أحد وجه العمل فالعمل هو الوجه الآخر، والاثنان معا “الحب والعمل” وجهان لحقيقة واحدة هي الإنسان. الإنسان الذي يحب ما يعمله أو يعمل ما يحبه، وبذلك يكتمل الكوجيتو الفلسفي عند أنيس منصور ويصبح منطوقه الجديد “أنا أعمل لأنني أحب، إذن فأنا موجود”.

الهوامش

[1] وداعا أيها الملل، أنيس منصور، علق عليه جلال العشري، ط: الدار القومية للطباعة والنشر، ص 10

[2] نفس المصدر، ص 13

[3] نفس المصدر، ص 48

[4] نفس المصدر، ص 49

[5] نفس المصدر، ص 11

[6] نفس المصدر، ص 5

[7] نفس المصدر، ص 204

[8] نفس المصدر، ص 205

[9] نفس المصدر، ص 6

[10] نفس المصدر، ص 51

[11] نفس المصدر، ص 9

[12] نفس المصدر، ص 10

[13] نفس المصدر، ص 81

[14] نفس المصدر، ص 85

[15] نفس المصدر، ص 105

[16] نفس المصدر، ص 91

[17] نفس المصدر، ص 106

[18] نفس المصدر، ص 107