Main Menu

تنيرة

راضية بن عريـــــبة

أستاذة التعليم العالي بجامعة شلف كلية الآداب والفنون -قسم الأدب العربي

قصة من واقع الدّنيا عذاب الرّحيل وآلام الدّهر المعاناة والتضحيّة مشاعر الصّدق وأخرى للخيانة القصة مرآة المجتمع

       وقعت أحداث هذه القصّة في أجمل  قرى تلمسان وأجمل مزارعها ،فترعرت بين جوانب الحقول الصفراء، في قرية “العربيات” هناك من جعل لها هذا الاسم لما يشاع من سكانها أنّهم بالعامية” عروبيّة” أي عَرَب لهم شموخهم وعزّتهم ولكن يطغى عليهم الجهل الذي يعمي البصيرة .

وهناك من قال أن لفظة العربيات هي لفظة معربّة من كلمة فرنسيّة قالها أحد المعمَّرين المعروف باسم “الرّومي” أنّها ؟!Arrêt des bête أي “محطّة الهائم” وحين تداولها البدويّون بينهم ربطوا في الكلام وليجعلوا كلمة واحدة، أبدلت فيها A  عينا ،وحذفت كلمة الجمع (Des)  وذلك أصبحت “عربيات”.

 ولكنه ضعيف لا يقوله إلاّ من عاش بعيدًا عنها لا يعرف حقيقتها المختفية وراء أَهَالها السُّمْر .

    أسدل اللّيل ستاره على قرية “العربيات” في ليلة من ليالي الصّيف الحارّة ،الكلّ خارج البيوت هذه القرية لا تعرف السّكينة كباقي القرى المجاورة لمدينة “تلمسان”، الحركيَّة الدائمة ليلا والحديث الطّويل في السّمر عن فلان وفلان جعل منه قصيرًا امتدّت نسماته إلى سقف كلّ بيت لينتهي عند صياح الدّيك، فيتّجه كلّ واحد إلى مَأواه ليستقبل قمر يوم جديد ويودّع شمس صبح فات الأيام الحارة تحْرق القلوب قبل الأجساد، ضمن ذا الذي يواجه ألسنتها وهي تلسع جسده والنّخيل وجلده المتجعّد غير أطفال القرية، الملائكة السَّمْر يطوفون كالأشباح البريئة على هذه الجنّة الصَّفْراء هكذا كانت قبل سبعيْن سنة حدودها مقبرة ووَادي الصّفاح هذا الوادي الذي لازال ينبع بقطرات الماضي يروي هنا قصّة “تنيرة” الشاب الذي لَمْ يُعْرف اسْمه وراء هذا اللّقب والكلّ يجهل اسمه الحقيقيّ.

قيل أنه كان طويل القامة، أسمر البشرة، بني العَيْنَيْن، أسْود الشّعر، لم يكن وسيمًا، بل إنّه كان دائم الابتسامة التي حين اخترقت قلب “فاطمة”: بنت العمّ لم تنجو من عذابه في اليوم الذي كانت تغسل فيه الصّوف مع بنات القرية حين أقبل “تنيرة” ليْمْلأ جرّته بالماء ويودّعها كان كثير التّرحال من قرية إلى قرية، وكان كلّما عاد إلى قرية “العريبات” إلاّ وسافر في اليوم الموالي من عودته.

عاطفة الحبّ بين “تنيرة” و “فاطمة” تُوجت بالزفاف بعد عودته الأخيرة من قرية “بني سكران” المجاورة، زفّت صاحبة الأربعة عشر ربيعًا إليه وهي لا تعلم بأنّ بعد عواطف الحبّ تأتي عواصف العذاب كان مصيرها أن تمضي إلى مستقبل بلا عرفان مع شاب لم يأخذ من الدّنيا إلاّ التّرحال وعدم الاستقرار.

مرّت ثلاث أيام بعد العرس فسافر “تنيرة” مجدّدًا وكثر غيابه فهو في كلّ يوم في قرية ولا يعود إليها إلاّ متى شاء وكما يريد ولكنه هذه المرّة ترك خلفه “فاطمة” ولم يأبه لأمرها غم أنه يدرك أنّه مسؤول عنها، طيش الشباب عَمَى عيونه، لم يعش طفولته وهو صغير ولكنه بالمقابل فرض شبابه والنّفس المتآمرة التي أفشت بالنّقص على والديه و إخواته.

عاد “تنيرة” في موسم حرث الأرض فوجد زوجته حاملاً ورازقَا بطفلة كانت هديّة من السّماء لتخرج إلى الدّنيا في قلب الأمّ ولكنّها كانت كخنجر بعث …. إلى تفكير الأب فحاول قتلها لأنّه تمنّاه طفلا كعادة أمنيات رجال العريبات الذين سيطر على عقولهم الجهل والظلام.

مأساة فاطمة بدأت وهي ترضع طفلتها ليرميها الأب من بين ذراعَيْها، ويا لها من قسوة تفصل بين الأمّ ورضيعتها ولكنّ حنان الأمومة كان أقوى في أن تأخذ بابنتها وترضعها من ثدْي الشّقاء، ترك “تنيرة” المنزل وهو يشع غضبًا وعاد إليه في تلك اللّيلة ثملاً تسوقه جدران الخيبة

وبعد سنة رزقت فاطمة بطفلة أخرى، فانهال تنيرة عليها ضربًا وكأنها صاحبة القدر، وزاد حقدُه عَليْها وسئِم العيش معها ولم يذكر لنا يوم أنّه داعب أنامل طفلتيه بل أنّه كان دائم الضّجر والصّراخ في وجهها

هجر تنيرة المنزل ولم يعدْ إليه إلاّ بَعْدَ غياب طويل سافر إلى قرية المجاورة “بني سكران” وعاد إلى قريته بعد نبأ وفاة والدته، “لاَلاّ عائشة “بنت مولاي بأيّام ومعه “زوليخة” والحقائب تزوّج من امرأة أخرى ولم يَدْر أحدّ بذلك أدخلَهَا بيته أمام “فاطمة” ولم تَدْري هذا الأخيرة ما تفعله سوى أن تتوسل أمام قدمي تنيرة إلاّ يعيدَها إلى منزلها لأبيها، فتحْمل عار طلاقها على أكتاف بناتها.

بقيت “فاطمة”: وبناتها الثلاث خادمات عند تنيرة و “زوليخة”، “زوليخة” كانت آية في الجمال، كاملة الأخلاق، ذات صفات تتمتّع بها المرأة المثقفة رغم أنّها لم تكن مثقفة ولم تَدْخل قط إلى المدرسة ومن أين لها ذلك وهي بنت “بني سكران” القرية التي لا تختلف عن جارتها “العريبات” غير في بعض العمران الذي تركه الاستعمار الفرنسي كهدية فكان أجمل الهدايا الذي تركه الاستعمار الفرنسي كهدية فكان أجمل الهدايا التي تركت للجزائر بعد رحيله كانت رشيقة كرشاقة “فاطمة” ولكن كيف زُفت “لتنيرة” متى وأين؟ لا أحد يعلم أجوبة هذه الأسئلة غير تنيرة وزوليخة السَّر الذي جمعهما ولم يبح أيّ منهما به.

لم تكن “زوليخة” قاسية ولكنّها تقاست أمام “فاطمة” وتمادت في قسَاوَتها، ولكن “فاطمة” تحمّلت إلى أن تعبت من عناء الوحدة والموت الهادئ وسط حجرة مهجورة تركها لها تنيرة وهي غرفة مظلمة تتطَرَّفُها الشّموع لتُذْهب وحْشتها تقع في آخر ركن من أركان البيت

أصبحت “فاطمة بشلل لم يعرف دواء لهذا الدّاء إلاّ بعدَ سبعة أشهر على يد الطّالب الحكيم الذي كان يرعى شؤون ضريح الولية السّبع في “بني وعْزان”، عُرِضت عليه “فاطمة” كَجُثّة التهمتها أيادي القدَر ورمَتْهَا إلى حيث الأيدي أخذ مصير هي لا تتكلّم، تسمع بل ترى الأشياء بالأسود والأبيض وبينهما تختفي جمع الأبواب عاشت سكرات الموت وبناتها الثلاث يحطمن بها، يَتَدّرّعن للشفاء في كلّ ليلة بل هي أسابيع وشهور كاملة، شُفيت بعدها فاطمة من وَباء الشّلل النّفسي الذي زرعه تنيرة في جسدها وكيانها ولكنّها رغم ذلك لم تحقد عليه ولمْ تكرهه لأنّها تعلم بأنه طيّب القلب كما عهدته إلاّ أن قساوة الزّمن ومرارة العيش وسوادَ الجهل طغَى على  شخصيته فجعلته إنسانًا قاسيًا، ظالمًا، مهيمنًا، يختفي وراء نظرات الضعف والشّفقة، ويُخفي في قلبه أوجاع اليأس، مع أنّها كانت تبدو وفي عينيه كبريق الوهْم.

بعد أيّام في شفاء “فاطمة” زارها “تنيرة” في تلك الغرفة وكعادته أسمعها الكلام القاسي وإنهاك عليها ضربًا بدون أسباب غير أنه رأى بناته الثلاث يبتعدن عنه ويختفين تحت ذراعي والداتهن كلّما نادى إحداهُن إلاّ وهَرَبَتْ منْه وخافت ويوْمها نادى ابنته الصغرى “خديجة” فهربت ولكنها لم تُفْلت من يديْه فسألَهَا عن سبب خرفها منه وارتعاشها كلما رأته، لم تستطيع الإجابة فورًا، فقبّلها من بين عينيها قبلة بعث حرارة الأبوة في عزّ الشّتاء البارد فبكت بين ذراعيه طويلاً نظرت “زوليخة” إلى ذلك المشهد فقهقهت في وجه “تنيرة” واتّهمته بالضّعف فلم يُعجبه ذلك وسرعان ما تخلّى عنْ ابنته فذهبت مسرعة إلى أمها.

اجتمعت القساوة والحنان في قلب رجل واحدٍ وفي وحدة وسط القبور راح يبكي ويستغيث أمام قبر أنه في ليلة من ليالي الشتاء المظلمة فلا أحد يسمع لآهات هذا الرجل غير تلك الأرواح النائمة تحت عروش الموت وعاد إلى بيته يومها ثملاً كعادته.

الأيام تَمُرّ، وتليها الشهور ضحك القدر على “تنيرة” ثانية ورزق من “زوليخة” بسّت بنّات فهل بعيد الزواج مرة ثالثة عليه برزق طفلاً ذلك ما فكر فيه ولم يستطيع فظّن أنّه عذاب الرّب سلّط عليه علّه يتوب من أخطائه يصلح ما فعله مع “فاطمة” سئم “تنيرة” من صراخ بناته التّسع في بيت واحد وذات يوم من أيّام الصيف الحارّة وفي موسم الحصاد قاد تنيرة إلى بيته تعبًا يقتله الجوع وعنْدَما دخل المنزل وجد البنات يَصْرخن، وتعالت أصواتهن فهم يتمالك غضبه وأمسك خديجة بين يديْه وانهال عليها ضربًا وصراخًا إلى أن سقطت مغشيا عليها كانت ضعيفة الجسم، ونحيلة لا حوْل لها وقوة، رغم أنّ أمها حاولت أن تنقذها ولكنّها لم تستطيع لأن غضب الأب كان أقوى بعد ساعات استفاقت “خديجة” من تلك الغيبوبة المؤقتة وذهبت مسرعة إلى أحضان أمها ورغبت في قطرة ماء تبلّل بها ريقها الجاف وفي هذه اللّحظَة لم تستطيع “خديجة” أن تتلفّظ كلمة واحدة، ولا حتى لفظة “ماما” حاولت مدادًا ومرارًا ولكنّها لم تفلح زادت دهشة أمها إلى أن صرخت فتجمعت حولها بنات المنزل “وزليخة” و “الجارات” ابنتها لا تتكَلّم في عصر يوم الجمعة، ذلك البلبل الصغير صوته اليوم تلك الفراشة الصّغيرة فقدت جناحيْهًا، فما فعلت “تنيرة” بحق ابنتك؟ وصل الخبر إلى تنيرة وهو في مزرعة فذهب إلى ابنته “خديجة” مُسرعًا فمنعته فاطمة من رؤيتها أو التحدث إليها.

وبعدها بأيام قلائل رزقت “زوليخة” بطفل سمته “محمد” قرأت فيه صورة يوسف ونغمات داوود.

وكان الزّمن كفيلا بأن يداوي جراح “فاطمة” فانتقلت إلى بيت آخر لأن البيت القديم لم يسع البنات التسع ولا صراخهّن، وهناك ترعرعت آلامها عندما جاء محمد إلى الدنيا ورغم ذلك فقد كانت فرحتها أكبر من فرحة “زوليخة” لأنه أعاد الأبوة إلى عمامة “تنيرة” عمّت الفرحة أرجاء القرية وأقام “تنيرة” الولائم في الأيام السبعة الأولى من ولادة “محمد”، فلم تفارق “فاطمة” بيت “زوليخة” في تلك الفترة ونشأت بينهما عواطف الأخوة، فها هي “فاطمة” تحمل “محمد” بين يديها لترضعه من ثدي الأمومة التي طالما حلمت بطفل كباقي أحلام أمهات قرية العريبات و لربّما غيرهن من نساء البشرية، هذا الصراخ الدّاخلي الذي عاشته “فاطمة” في نفسها لم يقلل من شعورها كأم بل قلل من إحساسها كزوجة “لتنيرة” لم تتزوج “فاطمة” بعده لأنّها آمنت بأنّ العزّة لا تكمن في يد الرّجل بقدر ما تكمن في شرف أخلاقها المرأة كما أن “تنيرة” لم يشأ أن يمنعها جريتها ويطلقها ومنعها بالزواج من آخر لأنه هو الآخر آمن بالحبّ الذي لا يلوث إن قُدس، وأنه صاحب حقت لها وعليها، فما تفعله الضحية إن كانت فريسة رغم عذابها إلاّ أنها تستشعر السّعادة وما أعظم المرأة التي تستصغر هموم الدنيا وترى منها توافه الأشياء وممّا ذكر أنّ “فاطمة” كانت قد زوجت ابنتها الكبرى والوسطى وبقيت معها ابنتها الصغرى “خديجة” المصابة بالصّمم ولازالت تعاني منه، رغم جمالها وأنوثتها وبسمة الطبيعة في ثغرها، إلا أنّها أفقدتها هذا السّحر وهذا الجمال فلم يرغب أحد بالزواج منها فبقيت وحيدة زمانها فمن يفكُّ قيد حرقتها غير دموع السّمْسم المتهاطلة بين جفنتيها الورديتين كلّما رأت بنات “العريبات” يسقن عرائس إلى بيوتهنّ، وهن يُوصينها بالصّبر على ألسنة العجائز.

“خديجة” هي الأخرى أحبّت وكرهت عاشت حياة الأضداد بين الشّقاء والسّعادة أحبّت شابًا من شباب القرية امتزجت عنده عواطف الإعجاب بالشفقة “رشيد” كان مصدر سعادة “خديجة” منذ أن كان صغيرًا كان يحنّ إليها ويداعبها حاول أن يعيد لها صحتها البريئة التي لمحها قبل أن تصبح خرساء ولكنه لم يستطيع رغم ذلك اجتاز هذا الأمر فكانت هي التّفكير وهو الكلمات ويفهمها ويفهم مقصدها دون أن تبوح بذلك فرابطة الأخوة والحنان كانت متبادلة بين “خديجة” وجارها “رشيد”.

ها هي “خديجة” اليوم تودّع “رشيد” لأنها واجب الخدمة العسكرية إلى الشرق الجزائري (عنابة) قد ناداه كما نادى باقي شباب القرية ،ها هو اليوم يجمع حقائبه السوداء وكله عزم وإرادة نضرة الشباب ونظرة الصّقر إلى هدفه ملأت كيانه وبنيته القوية ووعد “خديجة” بألاّ ينساها مهما طال غيابه وابتعدت به المسافة من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وأنّها منقوشة على عرش فؤاده منذ الصّغر….

غاب رشيد ثلاثة أشهر كاملة وبعدها سبعة أشهر ولم يعد وكانت “خديجة” تنتظر عودته في الأعياد وشهر رمضان ولكنّه لم يعد، استغل رشيد فرصة غيابه ليختبر عواطفه تجاه “خديجة” فأدرك أنّها عواطف شفقة ،ومجرّد نزوة عابرة لا غير ،فتعرّف هناك على فتاة شاوية الأصل أنْستْه أهله والفتاة التي أوْهمها بحبه ،الشاوية بنت عروس الشرق كانت له بمثابة الأجنبية التي يحلم بها الشاب الذي يريد تأشيرة الهجرة إلى أوروبا، منحته السعادة وعوضته حنان أمه التي  فقدها وهو صغير وأنْسته قسوة زوجة أبيه، فلما يعود إلى العريبات وهو يعيش الجنة، ولكن الضحية هنا كانت “خديجة” لم تمل من النّظر إلى الأفق وإلى غروب الشمس حين ترسم عليها صورة رشيد وحين تسمع إلى أصوات الطيور المهاجرة خريفًا لترى فيها نغمات رشيد ووداعه لها كانت كلما نظرت إلى وادي “الصّفاح” إلاّ وزادت من مائه دُموعًا كهذا ظلت حالتها منذ أن غادر “رشيد” القرية ولم يعد ،بقي في عنابة ولا أحد يسمع عنه وانقطعت أخباره لكن أمل عودته لم ينقطع في قلب “خديجة”.

“تنيرة” وبعد ولادة طفلة “محمد” كان كلما شعر بالضّيق إلاّ وعاد إلى “فاطمة” بنت العمّ فتستقبله بأحضان البراءة ودموع الشّوق الجارف من أعماق الحزن، فبالرغم من غيابه الطويل هو الآخر إلاّ أنّه يعود إلى قدميها وهو لا يدري لماذا؟ كيف؟ ومتى؟ أ لأنه أحس بالواجب أم لأنّ بذرة الحبّ التي زُرعت في قلبه ورجعت إلى الحياة ولادة “محمد” ها هي تكبر في قلبه يومًا بعد يوْم ولا يعود إلى منزل “زوليخة” إلاّ بعد شوقه لبناته السّت وطفله المدلّل.

حنان “فاطمة” وصبرها أعاصير الموت لم يذهب سدى، حملت “فاطمة” بالطفل الذي تمنّت ولكن القدر وقف عند حدّ هذه السّعادة فاختطفت المنية روح “تنيرة” في عشية من أمسيات الصيّف حين التهمت النيران مزرعته فحرارة الشمس القرية عكست ألسنتها إلى الحقول الصّفراء ، وكان “تنيرة” في المزرعة فطوقته وهو يحاول أن يبعد محمد عنها لأنه كان معهُ رَمى به بعيدًا ككرة تقذف لآخر مرة من قدم أمهر لاعب، وفارقت يداه أنامل “محمد” إلى الأبد.

 لم تترك النّار جسد تنيرة رغم محاولات سكان القرية في إخماد النّار، وكأنه فريسة تُنتهب بشراسة، اجتمع حوله سكان القرية بعد أن هدأت النّيران وأصبحت الحقول ذات لون أسْود يتطالع منها الدخان فوق الرماد، وحين هوت قبلة الموت لتقتل جبين “تنيرة” في ذلك الصمت الجافي الطويل هوت قطرات الدّموع من جفون فاطمة وسط دهاليز الفراق الأبدي.

 أتبكي “فاطمة” من كان سندها في الدّنيا وعزّتها؟، أم أنّها تبكي شفقة على نفسها من وحدة محتومة ،وقدر بائس ؟ ذلك قدَرُهًا، كانت ترى روحه فيها كما ترى فيه روحها، فانشقت الأرواح نصفين ورحلت إلى عالم بعيد، وأصبح الجسد بلا رُوح. بَعْدَ أن غادرت “فاطمة” تابُوت القبر ومكان الرّمس.

 زناجة “تنيرة” في اليوم الثالث وهي الليلة الغريبة عند الأهالي كما هي معروفة، هي تاريخ ولادة ابنه إبراهيم من فاطمة صاحب العيون السوداء التي تشع يتما وفقرا.

وهنا بدأت مأساة “فاطمة” من جديد في أن تنتشر الإشاعات حولها حقيقة طفلها “إبراهيم” إن كان حقا هو ابن “تنيرة” فكيف يكون كذلك “تنيرة” كان هَجَرَهَا وتركَهَا وباتت تعيش وحدها مع بناتها ذلك ما قاله سكان القرية ،مع أنهم كانُوا يُدركون جيّدًا أنّ عفة “فاطمة” هي تاج رأسها ،ولكنّ جهلهم جعل منهم أناس آل عمران حين اتّهَمُوا “مريم” في عفتّها.

حرمت بذلك “فاطمة” من الميراث الذي تركه “تنيرة” لتتمتع به “زوليخة” وبناتها السّت وطفلها المدلّل “محمد”، طردت حتّى من منزلها لتجمع ما بقي من أشلاء حزنها وتعود “بإبراهيم” و “خديجة” إلى منزل أبيها الشّيخ الهرم سيدي عبد الله رضت بقسيمتها في الدّنيا فم تأخُذُ مِنْهَا إلاّ ما مُنِحَ لَهَا هي في كلّ يوم تزور قبر “زوجها” على غير عادة “زوليخة”، مع مطلع كل شمس وعشية كلّ عيد وضحى كل يوم جمعة لازالت على عادتها تزور قبره إلى أن اشتعل الرأس شيبا وذهبت معه قوة المرأة وجمالها.

طوّقها الحزن وأسرها وجعلها كعابر سبيل كفت يداه كثرة الأحزان والملام وعذبته دموع وآلام ،وشقت عيناه كلمات الحبّ والأوهام.

ومن عبرات تسكن جوف الليّل وتنبثق من قلب السّماء وجهت فاطمة راحتيها تدعو مولاها رأفة بها فلا العيش يحلى لها ولا الموت أقرب.

 وقد كان “لتنيرة” صديق وفي وأخ مخلص هو “عمي السّهلي” الذي قاسمه حلاوة الصّداقة ومرَارَة العيش في الوحدة “عمي السّهلي” صاحب الفحْل الذي كان يرافقه في دهره وسط حلقة شتوية من رجال القرية الملتفين حَوْل نار دافئة تنهش الحطب تحت حبات المطر، “والفحْل” يشدو بهم إلى أيام الصَّبا تارة وإلى نسمات الصّيف الهادئ وأيام الثورة ……المجاهدين والثوار وسط البساتين الصفراء تارة أخرى.

نمت مع “عمي السّهلي” أنغام الفَحْل” فكان بمثابة عازف القرية بسكانها وحيواناتها فهاهم يحيّونه ويرُد عَلَيْهم بألحان شجية وهو يُطرب أفراحهم وأعْراسَهَم، كما أنّه كان يَهُشُّ غنمه في المرعى بليُونة الفحْل بدل قَسْوة العصا … إلخ.

كان أحيانًا يرافق “تنيرة” في سفره ورحلاته وأحيانا أخرى يبقى في القرية ليرعى شؤون بيته وبيت صديقه.

وبعد موت “تنيرة” بأعوام قليلة، سقط عمي السّهلي مريضا على فراش الوداع الأبديّ، وما يذكر عنه أنه خرج في تلك الليلة الخريفية منِ منزله متجها إلى قبر صديقه دربه حاملاً الفحْلَ بين راحَتيْه، مشى ولم يصل إلى المقبرة في تلك الليلة وبعدها بأيام، اختفى “عمي السّهلي” بحث عنه أبناؤه وأحفادُه سكان القرية نساء ورجالاّ شيوخًا وأطفالاً أين “عمي السّهْلي”؟ وتواصل البحث عنه، فلا أثر له !!!

تلك هي كارثة الوادي الذي يفصل بين المقبرة والقرية جف الوادي وهو يحمل جُثة “عمي السّهلي” والفحل بين يديه بعد أن سقط مغشيًا عليه من أعلى الوادي، أخيرًا وجدُوا “عمي السّهلي”.

 هَا قد رحل كما رحل “تنيرة”، وودّع الوادي قبل أن يرحل، فجن الوادي برحيل صاحبه وكُسر الفحل بوداع عَازفه ،

وهجرت النساء الوادي بعد موت الرجل والجفاف الذي حلّ به إلى هذا اليوم.

إيه “يا عمي السّهلي” حتّى أنا أحْبَبْتك وتركت في قلبي شذا ذلك “الفحل” فكم حملتني بين يديك وتركتني أدَاعب نغمات فحْلك الغالي ولكم من مرة أجلَسْتني بقربك تروي قصص أهل القرية ومغامراتك مع “تنيرة” كنت أَرَى في عينَيك زُرْقة السَّماء وفي وجْنَتيْك حُمْرَة التُفَّاح ولن أنْسى قولك لي وأنا في سن العاشرة: “ستصبحين يومًا أنت المعلمة وأنا التلميذ وسأنتظرك حتى تكْبري وتُعَلميني كَيْفَ أكْتب وأَفُكُّ الحروف سأصْمُتُ وَأَنتِ تَتَكلَّمين كَما تفعلين حين أتكلَّم وأنتِ تصمتين …”.

حقًا هو “عمي السّهلي” الذي غرس في قلبي حبّ الجدّ لحفيدته وحُبّ التلميذ لمعلمه.

   مرّت السنّوات وكبر كلّ من “محمد” و “إبراهيم” ،إبراهيم كان شبهًا طبق الصورة لأبيه “تنيرة”، قامته الطويلة سواء شعره مشيته …..فكان سكان العريبات يرون في إبراهيم صورة “تنيرة”، أما “محمد” فهو شاب وسيم جدًا أخذ من أبيه “تنيرة” شقاوته، خفته وغضبه السريع، قوي البُنية، سهْل العيش متسرع في أخذ الأحكام كانا كالتوأم الواحد لا يفارق أحد فيهما الآخر، أينما وجدت “محمد” وجدت “إبراهيم” ترعرعا مَعًا في قرية واحدة ولعبا وهما صغيران في حقول العريبات وبساتينها ،وجمعا معًا ثمار اللّوز والخوخ المقاربة للوادي.

 تلك البراءة ولمعان الطفولة علي جبهتهما كان مَصْدَر أخوتهما غير أنّ الغيرة بدأت تسلّل إلى قلب كلّ واحدٍ مِنْهما فغرست خنجرها في قلب محمد يوم رأى “إبراهيم” يستعدُّ للذّهاب إلى تلمسان (المدينة) وسط المدينة، للالتحاق بخاله “موسى” والعمل معه في دكان النّسيج ولأنّ “موسى” بحاجة إلى “إبراهيم” لأنّ أبناءه كلهم التحقوا بجامعة بالجزائر العاصمة فلم يجد من يساعده غير ابن أخته “إبراهيم” .

ذهب “موسى” إلى القرية وعرض الفكرة على “إبراهيم” فطار فرحه وأخذه معه إلى المدينة وهناك تغيّرت طباع “إبراهيم” ورغبت في التعلّم فأخذ يفكّ الحروف بمساعدة خاله وزوجة خاله “عائشة” التي احتضنته بصدارة الأمومة وتعلّم الحساب إلى أن أصبح هو سيّد الدكان بدل خاله وفتح دكانًا مقاربًا لدكان خاله، أصبح ينْس أمه “فاطمة” فكان يزورها كلّ نهاية الأسبوع ويأتي بالأقمشة والملابس لأمة وأخواته كلهم أنه لم ينس “محمد” فيهديه هو الآخر الأقمشة والملابس وأصبح محبوبًا من طرف الجميع، أحبّه الصّغير قبل الكبير، شيوخ القرية ونسائها، وكانت أمّه تفتخر به في كلّ لحظة مِمّا زادت غيرة محمد وفكرّ في السفر إلى وهران وتَركَ أرض أبيه لم ينجح “محمد” في عمله لشغله بترف الدنيا وملذاتها، تسرعه جعله يخطئ أكثر من مرة.

 فتعرف على فتاة وجاء بها إلى العريبات وفرضها على أمه وأخواته البنات ،لم تصدّق “زوليخة” ما فعله “محمد” وحاولت طرْد الفتاة من المنزل كيف يأتي بها إلى المنزل ولم تسمع بها “زوليخة” ولم تُقم لولدها الوحيد مراسم الخطوبة ولا أثر زفاف؟ هل يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه في هذه القرية؟ أيمكن أن تتجسد روح “تنيرة” في جسد ابنه “محمد” هذا ما فكرت به “زوليخة” وباقي سكان القرية اندهشت عمّت الجميع.

وبدأت المشاكل بين “الفتاة الوهرانية” و “زوليخة” كانت فتاة طائشة لم تحترم عادات القرية وتقاليدها ففي كل يوم تخرج للذّهاب إلى المدينة وما زادت تعجّب النّاس أنّ “محمد” لم يكن يعترضها في أي شيء أعماه السحْر وأضاعته الشعوذة فلم يُحشر أعمى وقد كان بصيرا حتّى أنّه فكّر في بيع المزرعة وترك المنزل ففعل ذلك وأخذ بفتاته إلى قرية مجاورة وتترك أمّه “زوليخة” تتعذّب في فلذة كبدها.

أما إبراهيم فنجح في عمله، وفي المدينة هو الآخر تعرف على فتاة من أصل تلمساني قحّ، جميلة ومثقفة غير أنّا كانت مغرورة أحبّها حُبًّا مُقَدّسًا وحاول أن يخطبها، ودون ما يدري ذهب مسرعًا لكي يخبرها بما نوى فوافقته الرّأي واتّجه بحثًا عن والدها فالتقى به وعرض عليه فكرة الخطوبة، فاندهش الوالد من تسّرع إبراهيم في الخطوبة ومن عادات أهل تلمسان أن تخطب الفتاة في المنزل ويبعث الخاطب أهله لخطبتها ولا يذهب بنفسه لأول وصلة كما فعل “إبراهيم” رفض الوالد عرض “إبراهيم” وحاول التّخلص منه حجة أنّ ابنته لازالت تدُرس وأنّها صغيرة وله بنات أكبر منها وغيرها من الحجج .

لم يقتنع “إبراهيم” بهذه الحجج وترك للوالد مهلة أسبوع للتفكيّر ومشاورة ابنته وزرع بذرة الأمل في ذلك الأسبوع وخطط الأشياء كثيرة جميلة .

عاد إليه “إبراهيم” ولكن الوالد حطم أحلام “إبراهيم” بكلمة واحدة “الفتاة لم تقبل”، اندهش “إبراهيم” من تصدّق هذه العائلة تُجاهَهُ، أحس بالنقص لأنّه من العريبات ووقع البرج بين الحضر التّلمسانيين وباقي الأهالي التّميز العنصري فصل إلى افتخار كلّ واحد بنسبه وأصله ومن يكون جدّه ووالده!!!

حاول “إبراهيم” الاتّصال بفتاة أحلامه لكنّها أبت وفضّلت عنه آخر من مدينتها اقتنع إبراهيم بأفكاره تجاه ما يرى وأنّ الواقع يتحدث على ألسنة من جرحهم الزّمن.

عاد إلى القرية وحدّث أمّه “فاطمة” في شأن “الفتاة” التي لا يستطيع أنْ ينساها وأوصتْه بأن يُغير المكان ليرتاح وينسى بقي فترة طويلة في العريبات، وهناك تخلّص من حبّه للفتاة التلّمسانيّة واختار لقلبه أروع فتاة مختلفة وعلى درجة من الجمال، والثقافة هي ابنة أخت “زوليخة” كانت تدعى “أسماء” من قرية بني سكران كانت “أسماء” أسْعد فتاة حيث تقدم لخطبتها “إبراهيم” ووعدته بالطّاعة والوفاء، كانا متفاهميْن على أشياء كثيرة عاداتُهما واحدة وأسرتهما واحدة.

عاد “إبراهيم” للعمل في دًكّانه مع خاله في تلمسان المدينة ونبشت الفتاة التلمسانيّة في ماضي “إبراهيم” وبحثت عن مكانها في طيّ النّسيان لتعود من جديد فتسارعت نبضات قلب “إبراهيم” حين رآها وحدّتها عن مستقبلها…  

ومن همساتها حاولت أن تعود إليْه لأنّ خطيبها تخلّى عنها لم يرفض “إبراهيم” فكرت عودتها إليه ونسي خطيبته “أسماء” فترة من الزمن وعاد إلى الفتاة ليس انتقامًا لنفسه منها بل حبًا لها ومنح لقلبه الفرصة ليحبّها ثانية ولكن الفتاة غدرت به مرة أخرى لتحدّثه عن شاب غني جاء لخطبتها وأنّها كانت تسْخر من مشاعره فقط.

 لم يفهم “إبراهيم” شيئا من “الفتاة” وتركها وأقسم ألاّ يعود إليها وألاّ يُكلّمها حتّى وإن جاءته راكعة على قدميْها متوسّلة فمن أحبت مرة وعادت يمكنها أن تُحبّ ألف مرّة وتغْدر ذلك ما آمن به “إبراهيم” وأيقن أنّ حُبّ “أسماء” له بحب أن يماثل ويكون له شأن في قلبه وأنه عليه أن يحترم هذا البيت سواء في غياب “أسماء” ووجودها.

وذات مرة عاد “إبراهيم” إلى القرية فطلبت “زوليخة” منه أن يُحدث ابنها “محمد” ويأتي لزيارتها فقد اشتاقت إليه بَعْدَ أن اختطفَتْه الوهرانية منْها، ذهب “إبراهيم” إلى بيت “محمد” وأقنعه بذلك لكن زوجته رفضت فحاول “إبراهيم” مع “فاطمة” مرة ثانية إقناعه فاقتنع وذهب إلى أمّه غاضبًا وثائرًا فبكت “زوليخة” أمامه فلم يَرْحَمْ دُموعَهَا وعاد إلى بيته رزق بطفل فذهبت “زوليخة” لرؤية حفيدها لكن زوجة محمد طَرَدَتها كما طردتها “زوليخة” حين جاءت إلى بيتها عادت “زوليخة” إلى منزلها متثاقلة الخطي تجر آلام نفسها على كتفيها.

أمّا “إبراهيم” فاجتهد أمر في عمله وحاول شراء قطعة أرض من أراضي العريبات وعمل بها مع أحد الفلاّحين دون أن يترك عمله في المدينة وكان في مراسم الأعياد والمناسبات بالهدايا إلى “أسماء” خطيبته مع أمّه وأخته خديجة فازدادت المودّة والتآلف بين الأسْرتين.

دعا “إبراهيم” خطيبته “أسماء” لزيارة بيت خاله “موسى” مع “خديجة” وعرّفها على المناطق الجميلة في تلمسان أخذها إلى أجل مكان أثري عرف بهذه المدينة هو مسجد “سيدي بومدين” الواقع بناحية “العبّاد” به بنايات أثرية شهد لها التاريخ وأزقته الضيّقة .

يقع المسجد في قلب “العباد” يزوده الناس من مختلف الأنحاء والجنسيات وما زادَهُ روعة وبهاء هو البئر الذي غمر بماء عذبٍ صاف إذا شربت منْه إلاّ وازْددت عطشًا كأنه ماء زمزَم في بقاع مكّة، شربت منه “خديجة” و “أسماء” و “إبراهيم” وكل منهم نوى نيّته في أن يوقف بمستقبل يُنْسي آلام الماضي…..

والحكايات كثيرة، والأمكنة أكثر، والزّمن كفيل بروايتها وما كان “تنيرة” إلاّ واحدًا من الذين أعماهم الجهل فعميت بصيرة القلب لتقتل السّعادة وتختفي عن الوجود .

فالسّعادة الحقيقة مرسومة في قلب كل واحد منا، لذلك علينا أن نبحث عنها في داخل أنفسنا وليس في نفوس غيْرنا، ولأنّنا مؤمنون بوجودها ، نجعلها بعيدة فنضيعها، ونفقدها بسهولة بعد أن بحثنا عنها بصعوبةـ فلا نفكر حينها إلاّ في نفس ضعيفة يقتلها الضّياع والشّتات، وذلك هو حال من يفقد عزّته بعد أن يفقد سعادته.