Main Menu

المفضل من شعر الصعاليك في خيارات المفضل

 فائز الحمزة عاشور

المفضليات: كتاب سمي بهذا الاسم نسبة إلى المفضل الضبي الذي وضعه في الشعر العربي. كان إسم الكتاب في بداية وضعه بعنوان الإختيارات ثم إشتهر بعد ذلك بإسم المفضليات نسبة الى مؤلفه المفضل الضبي. وتعتبر المفضليات من أوائل مصادر الأدب العربي لاسيما الشعر العربي الجاهلي حيث يمثل الشعراء الجاهليون الأغلبية في خيارات المفضل، وضمت   هذه الإختيارات أسماء عديدة من الشعراء الجاهليين والذيـن بلغ عددهم حوالي 44 شاعراً على مايذكره بعض الرواة وربما بعضهم يزيد في ذلك، بينما ضمت 11 شاعرا من المخضرمين وعدد قليل من الشعراء المسلمين. كانت بداية إختياراته 70 قصيدة في الإختيار الأول عندما قدمها الى إبراهيم بن عبد الله، ثم في الإختيار الثاني أصبح العدد 80 قصيدة، الا إن العدد زيد الى 128 قصيدة أو أقل من قبل الخليفة المنصور أو عبارة عن اضافات من قبل من قام بجمع وتنقيح المفضليات.

     المفضل غطى في إختياراته قصائد لفترات متباعدة من تاريخ الشعر العربي من بداياته في العصر الجاهلي حتى العصر الاسلامي مرورا بالمخضرمين ومستعرضا كل الوان الشعر العربي (1).

      ويروى ان المفضل الضبي كان قد إختار أشعار المفضليات مرتين، في المرة الأولى إختارها الى إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ت 145 هـ) والذي كان حينها متخفيا في دار المفضل من أعين العباسيين كونه كان مطارداً من قبلهم، والذي إختارها له ليستأنس بها وبطلب من إبراهيم الذي طلب منه كتابا ليطرد الملل في نفسه اثناء استتاره في بيته في البصرة وكان عدد القصائد حينها 70 قصيدة (2).

       اما جمعه لها في المرة الثانية فازداد العدد الى 80 قصيدة، حيث اختار المجموعة السابقة واضاف اليها بعض القصائد، وسبب الإختيار الثاني هو ليعلم بها المهدي بن جعفر المنصور ولي العهد حينذاك وبناء على طلب والده الخليفة ابو جعفر المنصور وحينها تم تحويل تسميتها من الاختيارات الى المفضليات، ويذكر البعض ان الخليفة حينما اعجب بهذه الاختيارات هو من قام بإضافة بعض القصائد اليها. وسعى المفضل في هذه الاختيارات أن تكون ذات طابع تعليمي وتأديبي كما تحمل نفس المتعلم على التمثل بالأخلاق الحميدة(3).                   حظيت المفضليات بأهتمام الكثير من اللغويين والرواة والنقاد والمحققين، كونها تمثل مرجعاً من مراجع الشعر العربي القديم وتتفوق شهرتها على الأصمعيات حيث كان إختيار المفضل لقصائد طويلة من عيون الشعر العربي، وكان اختياره لقصائد تحتوي على لغة أو الفاظ أو كلمات تتصف بالغرابة والوحشية لنخبة مقلين في الشعر، وروى المفضل في إختياراته الفان وسبعمائة بيت شعري، ولتلك الأسباب أقبل المعنيين في شرح القصائد ليشرحونها ويفسرون غريب الفاظها واستنباط معانيها. كما نالت هذه الأختيارات أهل الإختصاص منذ إختيارها كما هو الإهتمام بها في الوقت الحاضر، وإنكب عليها المستشرقين إضافة الى العرب فحققوا فيها وضبطوا نصوصها وصدرت لهم في طبعات(4).

المفضل الضبي : هو أبو العباس بن يعلي الكوفي، يكنى (أبو عبد الرحمن) ولد بالكوفة، عالم نحوي ومن علماء اللغة، راوية للشعر وراوية لأخبار العرب وأيامهم، لايعرف على وجه الدقة تاريخ ولادته لكن على الأرجح كان بين عامي 98 و103 هجرية، كما إختلفوا قي سنة وفاته. له عدة مصنفات إضافة الى كتاب المفضليات ومنها كتاب معاني الشعر وكتاب العروض وكتاب الأمثال وكتاب الألفاظ (5). وفي آخر ايامه كان يكتب المصاحف ويقفها في المساجد، ويقول هذا تكفير لما كتبته يدي من هجائي للناس. وكان واسع الثقافة وافر الحظ وروى عنه جمع كثير من علماء النحو واللغة والأدب منهم أبو زيد الأنصاري وخلف الأحمر وعلي بن حمزة الكسائي، وكان المفضل من علماء الكوفة والبصرة التي هاجر اليها لاحقاً. ويعد من أكابر العلماء ومن أفراد الجيل الأول من الرواة ومن تنسب لهم صناعة الدواوين كما وثق وشهد له رواة البصرة والكوفة مجتمعين. كان المفضل من بين المطاردين من قبل الحكومة العباسية لميوله ومساندته لإبراهيم بن عبد الله العلوي المعارض للحكم العباسي الى أن صدر عفو الخليفة المنصور عليه سنة 145 هجرية ثم أسند اليه تأديب ولده المهدي(6).

الصعاليك في إختيارات المفضل:

من هم الصعاليك : التصعلك يعني الفقر، الصعلوك هو الفقير الهزيل المعدوم الذي لامال عنده. والصعاليك هم قوم خرجوا على طاعة بيوتهم وقبائلهم وعشائرهم ولعدة اسباب وأهمها أسباب إجتماعية وإقتصادية مما سبب نفورهم من مجتمعاتهم وخروجهم على طاعتها وهروبهم منها والعيش عيشة الذؤبان (جمع ذئب)، معتمدين على أنفسهم في الدفاع عن حياتهم وتوفير قوتهم متخذين إسلوب الإغارة والسلب والنهب طريقا لتحقيق ذلك، متخذين الطرق والمسالك لتنفيذ هجماتهم إضافة  الى مهاجمة أحياء العرب المبعثرة. بنيت حياتهم على غربة وتفرد وخوف وجوع وسهر، متمردين على مجتمعاتهم، وكل ذلك لإجل إثبات وجودهم وللحصول على حريتهم (7).

     والصعاليك ليسوا فقراء فقط بل هم المشاغبون المغيرون أبناء الليل الذين يسهرون الليل  لتحقيق مآربهم بينما يتنعم المترفون الخليون المسالمون بالهدوء والراحة والنوم، وبهذا تخرج الصعلكة من كلمة الفقر الى دائرة أوسع وأكثر شمولية هي دائرة السلب والنهب والإغارة وهي ظاهرة قريبة من ظاهرة قطاع الطرق الذين كانوا يغيرون على القوافل البرية التجارية يخطفون ويقتلون ويسرقون وينهبون ماتصل اليه ايديهم(8). وطوائف الصعاليك ثلاثة، هم طائفة الصعاليك الخلعاء (مفردها خليع) الذين خلعتهم قبائلهم ومجتمعاتهم لجرائرهم بحق قبائلهم أو بحق غيرها أو اعمالهم لا تتوافق مع أعراف القبيلة التي ينتمون اليها ومنهم حاجز الأزدي وقيس الحدادية. أما الطائفة الثانية فهم أبناء الحبشيات الأماء السود والذين نبذهم آبائهم لسواد بشرتهم وخوفا من عار يلحق بهم وهؤلاء يسمون بأغربة العرب (غربان العرب) ومن أمثالهم تأبط شراً والشنفرى والسليك بن السلكة. أما الطائفة الثالثة فهم طائفة الصعاليك الذين إحترفوا الصعلكة طواعياً وقد يكونوا افراداً مثل عروة بن الورد العبسي  ومالك بن الريب التميمي، أو على هيئة قبائل إمتهنت الصعلكة مثل قبيلة فهم التي كانت تسكن بالقرب من الطائف وقبيلة هذيل التي كانت تسكن بالقرب من مكة. كما إتصفت حياة الصعاليك بالتمرد على قبائلهم ومجتمعاتهم وحكامهم، لكنهم إمتازوا بجود النفس وعزتها وكبريائها، إتصفوا بالإيثار لنصرة بعضهم البعض وإمتدت حتى لباقي الفقراء الآخرين، كما كانوا يعيشون مع بعض على هيئة تجمعات ليحمي بعضهم بعض من غدر القبائل أو من المطلوبين لهم. ورغم الجوع المرافق لهم في يومهم إلا إنهم حققوا وجوداً لشخصيتهم ممزوجاً بحرية الحياة التي كانوا فاقدين لها قبل التصعلك. وعرف الصعاليك بالرجلاء أو الرجليين لإستعمالهم أرجلهم في العدو حين الإغارة أو عند الهروب معتمدين عليها وعلى سلاحم في تحقيق مآربهم(9).

شعر الصعاليك :  كانت حياتهم عبارة عن حياة تمرد، وشعرهم إمتاز هو الآخر بالتمرد، متمرداً على شعر باقي الشعراء كونه كان شعراً صادقاً معبرًا بصدق عن احاسيسهم ومشاعرهم وعاكساً واقع حال حياتهم. صوروا في شعرهم حياة الجوع والفقر والغربة، حياة قريبة من حياة الوحوش بل هم رافقوا الوحوش وقاسموهم لقمة العيش كما جاء في شعرهم، صوروا غزواتهم وغاراتهم، صوروا الموت الذي كان في تماس معهم. شعرهم عبارة عن مذكرات شخصية وهو شديد الترابط بواقعهم اليومي معبراً عن قصص مغامراتهم الحافلة بالأحداث والوقائع . تناول المفضل في مختاراته مجموعة من قصائد الشعراء الصعاليك وهم كل من تأبط شراً والشنفرى وعبدة بن الطبيب وأبو النشناش النهشلي(10).

القصيدة الاولى : قصيدة ياعيد مالك لـ تأبط شراً:

تأبط شراً : هو ثابت بن جابر بن سفيان من قبيلة فهم، وكان من أغربة العرب أي من أَمَة سوداء، وكان من العدائين المشهورين والمعروفين في زمانه عند العرب كما جاء في أخباره، ومغامراته العديدة التي لها طابع القصص والاساطير. مات أبوه وهو صغير وأمه الأمة السوداء تزوجت بعد موت أبيه من الشاعر أبا كبير الهذلي وهو من صعاليك هذيل. وكان تأبط شراً أبناء قبيلته يعيرونه بسواده فترك ذلك أثراً في نفسه فتصعلك وأصبح من طائفة المتصعلكين مرافقاً لهم، وكان من رفقائه في الصعلكة وفي الإغارة والغزو الشنفرى وعمرو بن براقة، وهو خال الشنفرى لكنه أصغر منه سناً. ويوماً قالت له أمه: ان غلمان الحي يجنون الكمأ لأهلهم، لم لا تفعل فعلهم؟ فأخذ جرابه ومضى خارج دياره فملأها أفاعي وعاد لأهله متأبطا الجراب والقاه بين يدي أمه فخرجت الأفاعي منه تسعى، فولت أمه هاربة، فسألنها نساء الحي ماكان إبنك متأبطاً فقالت لهن: انه تأبط شراً ومنها جاءت تسميته بهذا الاسم. وفي احدى غاراته بينما هو اغتنم وعاد تبعه غلام في طريق عودته فرماه الغلام بسهم فأصاب قلبه، فحمل تأبط شراً وهو مصاب على الغلام فقتل الغلام ثم مات هو من إصابته وترك جثةً الى ان إحتملته هذيل وطرحته في غار يقال له غار رخمان، فقالت فيه أخته ربطة ترثيه:

                 نعم الفتى غادرتم برخمان                ثابت بن جابر بن سفيان

قصيدته : (ياعيد مالك)          القصيدة القافية

         ياعيد مالك من شوق وإيراق                    ومر طيف على الأهوال طراق

         يسري على الإين والحيات محتفياً              نفسي فداؤك من سار على ساق

         طيف ابنة الحر إذ كنا نواصلها                        ثم إجتننت بها بعد التفراق

         تالله آمنت أنثى بعدما حلفت                           أسماء بالله من عهد وميثاق

         ممزوجة الود بينا واصلت صرمت              الأول اللذ مضى والآخر الباقي

         فالأول اللذ مضى قالي مودتها                         واللذ منها هذا غير إحقاق

         تعطيك وعد أماني تغربة                         كالقطر مر على ضنجان براق

         إني إذا خلة ضنت بنائلها                      وأمسكت بضعيف الوصل أحذاق

         نجوت منها نجائي بجيلة إذ                      القيت ليلة خبت الرهط أرواقي (12)

 

شرح القصيدة :

       لشعر تأبط شراً مكانة بين الأدب الجاهلي خاصة وتأريخ اللغة العربية عامة عند القدماء والمحدثين، وعززها المفضل الضبي في إفتتاح إختياراته عندما وضع قصيدة تأبط شراً (ياعيد مالك) في إفتتاحية الخيارات، والأمر لم يكن عبثا لهذا الشاعر الصعلوك ليجعلها المفضل على طولها (وضعها المفضل في 26 بيت) بين المقطعات والقصائد الأخرى في المفضليات وهذا دليل على تقدير المفضل لهذا الشاعر وجعله يضعها في هذا المقام في البدء والإفتتاح. كما لقيت هذه القصيدة العناية والإفاضة والإسهاب في الشرح والتأويل لم تلقها قصيدة أخرى من قصائد المفضليات(13).

      القصيدة تحكي قصة فرار تأبط شراً من قبيلة بجيلة حين أرصدوا له كميناً على ماء لهم، فأخذوه وكتفوه، ولكنه دبر حيلة بارعة هو ورفيقاه عمرو بن براقة والشنفرى تمكنوا بها من النجاة عدواً على أقدامهم. وتبدأ القصيدة بمقدمة قصيرة يتحدث فيها عن طيف صاحبته الذي زاره وهو في أعماق الصحراء المجهولة، ويعجب كيف ان يصل اليه رغم وعورة الطريق وما يكتنفه من أهوال وما ينساب فيه من أفاع وحيات. وهي مقدمة سريعة تعكس الحياة التي كان يحياها هؤلاء الصعاليك وما كان يستبد بها من كفاح شاق وصراع مرير من أجل تحقيق الأهداف الإجتماعية والإقتصادية التي كانوا يعملون لها، وليس لهم وقت في إنفاقه في اللهو والغزل. وأعطى من خلال صورة الطيف تعبير عن معاناته في إقتحام الأهوال ومخاطر الصحراء كونه معتمداً على رجليه في حركته الدائبه التي لاتهدأ فوق رمال الصحراء وبواديها وجبالها وإجتياز الظلمات حافياً رغم الأفاعي، وعبر عن العنف والجفاء الذي عكسه طيفه(14).

القصيدة الثانية للشنفرى :

الشنفرى : هو ثابت بن أوس ألأزدي، والشنفرى هو لقب ويعني غليظ الشفاة، مما يدل على إنه ذا بشرة سوداء، وإكتسب لون السواد من أمه، وهو إبن أخت تأبط شراً لكنه يكبره سناً. ويعد الشنفرى من الصعاليك العدائين وهو من المرافقين لتأبط شراً وبراقة وكانوا يشتركون كثيراً في غاراتهم وغزواتهم. وكان الشنفرى يحقد حقداً كثيراً على بني سلامان، وسبب حقده عليهم إنه كان قد وقع اسيراً وهو صبي في بني شبابة بن فهم فإنتمى اليهم، ثم وقع أحد (بني شبابة) أسيراً في بني سلامان بن مفرج من الأزد ففدى بنو شبابة الأسير بالشنفرى، فصار الشنفرى في بني سلامان ثم أراد الزواج من إبنة أحد رجال بني سلامان فرده والدها رداً عنيفاً أثر فيه، فعاد الى بني فهيم وإتخذ الصعلكة وأخذ يغير على بني سلامان للإهانة التي لحقته من رجل بني سلامان. كان الشنفرى صعلوكاً فاتكاً سريع العدو ويعد من أغربة العرب وقيل إن أباه قتله رجل من ألأزد يدعى حرام بن جابر، وكان قد قدم منى، فقيل له هذا قاتل أبيك، فشد الشنفرى على حرام فقتله، وقد قرر أن ينتقم من قتلة أبيه شر إنتقام فكان يغير عليهم مع أصحابة الصعاليك وأحياناً يغير لوحده.

      وفي غاراته على بني سلامان قتل منهم تسعة وتسعون رجلاً فاقعدت له بنو سلامان رجالاً يترصدونه، وفي مرة وهو يدنو من ماء ليشرب قبض عليه رجلان من بني البقوم من الأزد وسلماه الى بني سلامان فربطوه الى شجرة وتفننوا في قتله وكان قد أنشد يقول قبل قتله:

               فلا تدفنونني إن دفني محرمٌ           عليكم ولكن خامري أم عامر (15)

القصيدة :

              الا أم عمرو أجمعت فإستقلت             وما ودعت جيرانها إذ تولت

              وقد سبقتنا أم عمر بأمرها                 وكانت بأعناق المطي أظلت

              بعيني ما أمست فباتت فأصبحت          فقضت اموراً فاستقلت فولت

              فوا كبد على أميمة بعدما                طمعت فهبها نعمة العيش زلت

             فيا جارتي وأنت غير مليمة                    إذ ذكرت ولا بذات تقلت

             لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعها               اذا ما مشت ولا بذات تلفت

            تبيت بعيد النوم تهدي غبوقها                     لجارتها إذا الهدية قلت

            تحل بمنجاة من اللوم بيتها                     إذا ما بيوت بالمذمة حلت

            كأن لها في الارض نسيا نقصه               على أمها وإن كلمك تبلت

            أميمة لا يخزي نثاها حليلها               إذا ذكر النسوان عفت وجدت (16)

شرح أبيات القصيدة : ( ذكر المفضل القصيدة في المفضليات بـ 36 بيت)

     قصة القصيدة هو الثأر من قاتل أبيه حرام بن جابر الذي ترصد له في منى في موسم الحج فقتله. وقد بدأ قصيدته بمقدمة غزلية وتناول فيها الجوانب المعنوية في المرأة وليست الجوانب الحسية الجمالية فيها. تغزل الشاعر بزوجته وإبتدأها بالوداع حيث أجمعت صاحبته على الرحيل وشدت رحالها وتفاجأ هو برحيلها الذي لم تودع فيه جيرانها وأبدى حسرته وأسفه على فراقها معزياً نفسه بذلك متمنياً أن يراها بنعمة من نعم الحياة الكثيرة، وإستمر الشاعر في مدح صفات زوجته الحميدة التي يرى من الجحود بحقها أن لايسجلها، فهي شديدة الحياء، لا ترفع الخمار عن وجهها ولا تكثر من التلفت كما يفعل أهل الريبة من النساء وهي تمضي وقد غضت من بصرها كأنها أضاعت شيئاً تبحث عنه، حريصة على طيب السمعة وكرم الإحدوثة، وفية لزوجها تحفظ عهده في غيبته وتسر وتسعده عند عودته.وقد اعجب الأصمعي راوية العرب بهذه الأبيات وقال عنها: هذه الأبيات أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن(17).

القصيدة الثالثة : (هل حبل خولة لـ عبدة بن الطبيب وذكرها في 81 بيت)

عبدة بن الطبيب : شاعر من بني تميم، وعبدة إسمه والطبيب أبوه وإسمه يزيد، ويعود نسبه الى عبشمس( وأصلها عبد شمس) التميمي. وكانت تميم في الجاهلية تسمى عبد تيم، وتيم هذا كان صنماً في الجاهلية يعبدونه. وعبدة كان أسود البشرة كالحبشيين، وهو شاعر مخضرم عاش معظم حياته في الجاهلية وأدرك الاسلام وحسن إسلامه بعد أن أسلم. وفي جاهليته كان لصاً من لصوص الرباب وشاعر من شعراء تميم، فهو يكون مع اللصوص تارة ومع الشعراء تارة اخرى. وكان يتصل بالشعراء ويتنادم معهم ويتناشد الأشعار ويتحاكمون أيهما أشعر.

    أسلم عبدة الطبيب عندما أسلم قومه بني تيم سنة تسعة هجرية وأحسن إسلامه وأبلى فيه بلاءً حسناً، ومما يدل على ذلك شعره العامر بالتقى والصلاح والرغبة في النصح وعمل الصالح، وبان الندم على ما إقترفه في حياته الجاهلية. شارك في الجيش الذي خاض حروب فتح العراق عام 15 هجرية وشهد مع المثنى بن حارثة الشيباني قتال الفرس، كما شهد معركة القادسية مع سعد بن أبي وقاص وكان شاعر المعركة ولمشاركته شأن. كما كان مكمن القادة في معارك القادسية ويعد حينها من أهل الفضل والرأي. وكان للقائد سعد بن أبي وقاص رجال خاصته ولهم مهامهم في المعركة أمثال المغيرة وحذيفة وعاصم وطليحة بن قيس وغالب وعمرو بن معد وشعراء المعركة الشماخ والحطيئة ومن ضمنهم عبدة بن الطبيب حيث كان دوره تحريض الناس على القتال، وكان عبدة قد أحسن البلاء بالقول وبالسيف.

     اتصف عبدة بفضل إسلامه بالشرف والمروءة والنجدة والفضل، وفي قوله الشعر كان يترفع عن الهجاء ويراه سفها وضعٌة بعد إن كان يقول الهجاء في جاهليته. وبعد أن شارك في معارك العراق عاد الى البادية حيث قومه. ولما داهمته الشيخوخة كلّ بصره وإستشعر الموت فجمع أبناؤه ينصحهم ويوصيهم بقصيدة ويدعوهم فيها الى البر والصلاح والتقوى وترك النميمة والحذر من الواشي وعصيان النمام الذي يوقع بينهم، وتعتبر القصيدة من خير ماخلف الشعراء من شعر الوصايا ويقول في مطلعها:

       إبني إني  قد كبرت ورابني                               بصري وفيّ لمصلحٌ مستمتعُ

ويقدرون سنة وفاته في 25 هجرية(18).

القصيدة :

           هل حبل خولة بعد الهجر موصول           أم أنت عنها بعيد الدار مشغولُ

           حلت خويلة في دار مجاورة                    أهل المدائن فيها الديك والفيلُ

           يقارعون رؤوس العجم ضاحية                 منهم فوارس لاعزل ولا ميلُ

           فخامر القلب من ترجع ذكرتها                رس لطيف ورهن منك مكبولُ

           رس كرس أخي الحمى إذا غبرت                يوماً من تأوبة منها عقابيلُ

           ولـلأحبـة  أيـام  تـذكـرهـا                        وللنوى قبل يوم البين تأويلُ

          إن التي ضربت بيتاً مهاجمةً                    بكوفة الجند غابت ودها غولُ

          فعد عنها ولا تشغلك عن عملٍ                 إن الصبابة بعد الشيب تضليلُ

          بجسرة كعلاة القين دوسرةٍ                      فيها على الإين أرقال وتبغيلُ

         عنس تشير بقنوان إذا زجرت                   من خصبة بقيت فيها شماليلُ (19)

شرح القصيدة :

      كان عبدة بن الطبيب شاعراً مجيداً ذا عبارة جزلة وإسلوب رصين وأداء جميل، وقد أعجب بشعره العلماء والأدباء والنقاد إسلوباً ومعنى، ومدحوا قائله وأثنوا عليه كما أعجبوا بلغته، وذكر الأدباء شعره في كتبهم ومنها إتخذوا شاهداً على فصاحته وإعتبره البعض أفصح الناس. كما أعتبر البعض إن أفضل بيت شعر قيل عند العرب هو بيت قائله عبدة بن الطبيب اذ يقول فيه :

          فما كان قيس هلكه هلك واحد                        ولكنه بنيان قوم تهدما (20)

     إبتدأ قصيدته في المفضليات بذكر خولة وحلولها بالمدائن تلك المدينة التي فيها الديك والفيل، حيث يقارع العرب العجم، وشكا ما يخامر قلبه من تذكرها، وأعلن عن عزمه بنسيانها برحلته على ناقة. كما شبهها بالثور التي ساورته كلاب الصيد، ثم تحدث عن مخاطرته أو مجازفته برحلته في المفاوز الخطرة، ثم وصف منهلاً للماء توجهوا اليه بعد عناء ومشقة حيث قعدوا يتعجلون الطعام حتى كان وقت الأصيل رحلوا عن عيسهم حيث يرجون فضل اللة. كما فخر بخروجه للصيد في الكلأ العازب، وأعطى في شعره تصويراً بغدوته الى الخمارين مع انشقاق الصباح  وواصفاً مجلس الشراب وما فيه بأسهاب جميل(21).

   الهوامش :

1 – مي يوسف خليف/ القصيدة الجاهلية في المفضليات ( مكتبة غريب، القاهرة 1989) ص 12

2 – أبي الفرج الأصفهاني/ مقاتل الطالبيين/تح أحمد صقر (مطبعة أمير، قم ط3) ص 291

3 – إبن النديم/ الفهرست/ج1 ص 157

4 – عمر الدقاق / مصادر التراث العربي / ص 44، 45

5 – أبو البركات الأنباري/ نزهة الألباء في طبقات الأدباء/تح إبراهيم السامرائي (مكتبة المنار، الزرقاء1985) ص 51

6- محمد الفيروز الأبادي/ البلغة في تراجم ائمة النحو واللغة/ تح محمد المصري (جمعية إحياء التراث، الكويت)

7- جواد علي/ المفصل في تاريخ العرب قبل الأسلام ( جامعة بغداد، 1993) ص 2287

8- محمد رضا مروة/الصعاليك في العصر الأموي أخبارهم وأشعارهم (دار الكتب العلمية، 1990)ص 98

9- شوقي ضيف/ تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي (دار المعارف، 1960) ص 375

10- يوسف خليف/ الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ( دار المعارف 1959) ص 340

11- جواد علي/ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ( جامعة بغداد، 1993) ج9 ص641

12- علي ذو الفقار شاكر/ ديوان تأبط شراً وأخباره (دار الغرب الإسلامي 1984) ص 126

13- المفضل الضبي / المفضليات / تح أبي محمد الانباري(مطبعة اليسوعيين، بيروت 1920) ص5

14- مي يوسف خليف/ القصيدة الجاهلية في المفضليات ( مكتبة غريب، القاهرة 1989) ص114

15- جواد علي/ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ( جامعة بغداد، 1993) ج9 ص637

16- المفضل الضبي/ المفضليات/ تح محمد أحمد شاكر (دار المعارف1942) ص 108

17- مي يوسف خليف/ القصيدة الجاهلية في المفضليات ( مكتبة غريب، القاهرة 1989) ص118

18- د. يحيى الجبوري/شعر عبدة بن الطبيب (دار التربية 1971) ص16

19- المفضل الضبي/ المفضليات/ تح محمد أحمد شاكر (دار المعارف1942) ص135

20- أبي الفتح عثمان بن ضبي/ الخصائص/ تح محمد النجار (دار الكتب المصرية) ص295

21- د. يحيى الجبوري/شعر عبدة بن الطبيب (دار التربية 1971) ص58