Main Menu

الشعر العربي في ميزان سيد قطب النقدي

الدكتور محمد يوسف مير

المحاضر في الكلية الحكومية ببامبور بلوامه كشمير

الملخص:

الشعر نوع من أنواع الأدب وفن من فنونه يحظى بعناية كبيرة من قبل الأدباء والنقاد من ناحية تحديد مفهومه وبيان ميزاته من الأوزان والقوافي وغيرهما. عندما نخوض في صلب الموضوع نلاحظ أن الأدباء والنقاد تناولوا هذا الجانب من الأدب العربي أكثر من الفنون الأخرى. وأما فيما يتعلق بالأدب العربي فقد تداولت الأقاويل بين النقاد بخصوص تعريفه وأصالته، ومعظمهم يعتبرونه كلاما موزونا ومقفى وبينما الآخرون يرون فيه أنه كلام موزون مليئ بتوهج العواطف والانفعالات. فهذه الفكرة والاختلاف بين الآراء أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن من وفرة النظامين وقلة الشعراء وغنانا بالقصائد وفقرنا بالشعر. وكذلك قدم الشعراء العرب أفكارهم وآراءهم حول الشعر العربي ومنزلته في عالم الأدب، ومن بينهم سيد قطب الذي أتى بآراء قيمة في الشعر العربي وتحديد منزلته في الأدب العالمي، ولكنه قد أورد بعض الآراء في الأدب العربي  التي تخالف عقائد الجمهور من الأدباء والشعراء العرب، ويعتبر الشعراء العرب أقل منزلة من شعراء الآداب العالمية لعدة دواع. فانطلاقا من هذا ستكون هذه الورقة البحثية عبارة عن آراء سيد قطب في الشعر العربي وشتى جوانبه، وتحديد منزلته في عالم الأدب مع التزام بدراسة تحلية.

كلمات مفتاحية: الشعر، ميزان، سيد قطب، الشعراء، النقاد.

 

 

المقدمة:

عندما نتكلم عن الشعر فنتحدث كأننا نعرف الشعر مثل الأشياء الماديّة مثل الخبز والماء واللحم وغيرها. بل لو اجتمعت زمرة من الشعراء ثم تتحدث عن الشعر فسيكون حديثهم مثل مبلبلة الألسن لعدم التوافق بين آرائهما في الشعر، فيعرف أحدهم الشعر بأنه كلام موزون مقفى وبينما يرى الآخر فيه أنه كلام لا يقدر القارئ على فهمه دون رجوعه إلى القاموس، والثالث يرى فيه أنه كلام مليئ بتوهج العواطف والانفعالات الحارة. وإذا ألقينا نظرة سطحية على هذه التعاريف كلها لوجدناها تتمحور حول نقطتين بارزتين؛ فالنقطة الأولى تنظر إلى الشعر من جهة تركيبه وتنسيق عباراته وقوافيه وأوزانه، وبينما الآخر يرى في الشعر قوة حيوية، وقوة مبدعة، وقوة مندفعة دائما إلى الأمام. ولكن هناك طائفة من الشعراء الذين يسلكون الطريق المتوسط في هذا الصدد، ويعرفون الشعر بأنه كلام موزون مقفى معبر عن الأخيلة المبدعة والانفعالات الحارة بصورة موحية. ويندرج في هذه الزمرة كثير من الشعراء والأدباء مثل العقاد والدكتور أحمد أمين وميخائيل نعمية وغيرهم. وأما فيما يتعلق بسيد قطب فهو يعالج هذا الموضوع من جميع أقطاره ويميط اللثام عن الإبهام والغموض السائد على فكرة “الشعر”، وقد حالفه التوفيق في حل العقد التي كانت مستحيلا للآخرين حلها. ويعتبر الشعر أقرب صلة وعلاقة بتوهج الانفعالات والعواطف من كونه مجرد الكلام الموزون والمقفى، ويرى في الوزن أنه يتبع الانفعالات تلقائيا ولا يحتاج الشاعر إلى التفكير فيها. نظرا إلى فكرة سيد قطب هذه في الشعر والشعر العربي، لا مندوحة لنا عن تناول هذا الموضوع من جميع أقطاره مع قياسها على محك مقاييس النقد لمعرفة جوانب الصواب والخطأ في آراء سيد قطب ونظرياته الشعرية.

نبذة عن سيد قطب:

هو سيد قطب إبراهيم حسيني شاذلي، ولد في قرية “موشة” إحدى قرى محافظة أسيوط في صعيد مصر في 9/ 10/ 1906م، وقد أمضى السنوات الست الأولى من عمره في حضن أمه، ولما ناهز السنة السادسة أدخله والده الحاج قطب إبراهيم المدرسة الابتدائية في القرية عام 1912م، حيث حفظ القرآن الكريم وعمره عشر سنوات.[i]

بدأ حياته أديبا ولمع في آفاق الأدب نجما لامعا، كاتبا مجيدا، وشاعرا مبدعا، وكاتبا منافحا عن العقاد ضد الرافعي. وكانت له علاقة متينة بالأدباء والمفكرين والنقاد مثل عباس محمود العقاد، وأحمد حسن الزيات، والدكتور طه حسين، وتوفيق  الحكيم وغيرهم. أسلوبه التصوير الفني فإنه يستخدم الألفاظ القليلة المؤدية للمعاني الكثيرة، وخاصة الألفاظ التي تصور المعاني، وقد بحث الجوانب الفنية في القرآن بكتبه العديدة كأديب.[ii]

من أهم مؤلفاته الأدبية والنقدية مهمة الشاعر في الحياة والجيل الحاضر، والشاطئ المجهول، والنقد الأدبي أصوله ومناهجه، وكتب وشخصيات، والتصوير الفني في القرآن، ونقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر، وطفل من القرية، وأشواك وغيرها.

مفهوم الشعر عند سيد قطب:

كلما نتفكر في شاعرية سيد قطب وموهبته الشعرية المتميزة بنوع من الإبداع والابتكار، نجده متفردا في آرائه وأفكاره في الشعر ومفهومه لكونه متميزة عن الأفكار العادية المتداولة بين الشعراء المعاصرين له. ونلاحظ هذا الإبداع والابتكار أولا في تعريفه للشعر حيث يرى أنه “تعبير عن اللحظات الأقوى والأملأ بالطاقة الشعورية في الحياة. وليس لموضوع التعبير في ذاته دخل في هذا. فالمهم  هو درجة الانفعال الشعوري بهذا الموضوع.”[iii] يعني بعبارة أخرى إن الروح الشعرية لا تسود في نوع الانفعال بل هي موجودة في درجة الانفعال التي تستدعي التعبير الشعري.[iv] وليس للموضوع – الذي يقال فيه الشعر – دور في تحديد حدوده، بل تحددها درجة الشعور بهذا الموضوع، وطريقة التعبير عن هذا الشعور.[v] تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا التعريف يبدوا أقرب إلى تعريفه للعمل الأدبي حيث يقول إنه “التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية”.[vi]  وكذلك يعرف سيّد الشعر بتعريف آخر أكثر وضوحا وشمولا من التعريف المذكور أعلاه حيث يقول: “فأيما إحساس استجاش النفس، ورفع نبضها عن النبض العادي اليومي، وجعلها تحس بالوهج أو الانطلاق أو الرفرفة، أو السبح في عوالم مجهولة. وخلصها – ولو لحظة – من  الوعي الكامل الصحو المتقيظ. فهو إحساس شعري.

فإذا توافر للتعبير عن  هذا الإحساس أداء مصور للحالة النفسية التي صاحبته في الحس، وللظلال الشعورية التي واكبته في النفس، واشترك الإيقاع في هذا التصوير، متسقا مع الجو الذي عاش فيه هذا الشعور…فذلك هو الشعر.”[vii]

فيتجلى هنا موقف سيد قطب تجاه الشعر بصورة واضحة لأنه يقوم بتسليط الضوء على كل خطوة يخطوها الشاعر أثناء إنشاد الشعر، كما يشير إلى الأحوال النفسية التي تستشعر بها الشاعر ويُلمع إلى كيفية إحساس الراحة والخلاص من الاستجاشة الداخلية عند التعبير عما تختلج في داخله من العواطف والانفعالات. علاوة على ذكر أصالة الشعر، أشار سيد أيضا إلى نوع التعبير المطلوب في الشعر مع التركيز على وجود التناسق والتلاؤم بين عناصر التعبير من المعنى والإيقاع الموسيقي والصور والظلال التي تشعّها الألفاظ حتى تكون كل هذه الأجزاء وحدة كاملة متماسكة بعضها البعض.

وأما فيما يتعلّق بوجود الغموض والإبهام في الشعر فيرى فيه سيد قطب قائلا: “إنما هو الشعر يحدثك في أعماق نفسك، ويصف لك الشعور الحساس وصفا غامضا مبهما، يدع لشعورك أن ينطلق، ولخيالك أن يتيه، لأنه لا يضع أمامك مقاييس وحدودا، ولكنه يدعك في ميدان فسيح من عالم الروح الرحيب.”[viii] فيتضح من بين هذه السطور أن لغة الشعر تمتاز بالإبهام والغموض الذي يكتفي بالكشف عن جانب من المعنى أو الصورة، ثم يدع لذهن القارئ أن يستلهم بقيتها، ويطلق العنان للخيال أن ينطلق ويكمل ذلك الجانب من الصورة، ولكنه يشترط بأن يكون مجال العاطفة فسيحا لأداء وظيفتها، لأنّ العاطفة لا تعرف القيود والحدود بل تتيه في كل واد مع الالتزام بالتناسق والتلاؤم. والجدير بالذكر أن العاطفة تنشل وتجمد عند التعابير المفصلة التي تتناول كل أجزاء العبارة لأنها تفقد وظيفتها.[ix] صفوة القول إن شعر العاطفة الحارة هو المطلوب عند سيد قطب بدلا من الأشعار التي تتميز بمجرد الأوزان والقوافي والفكرة الباردة مع كونها عارية من اللحم والدم، وعاطلة من الحرارة والحياة.

ولا يفوتنا ذكر منزلة “الفكر” في الشعر عند سيد قطب فيما يرى أنه ليس من الجائـز أن يكون عنصر “الفكر” غالبا على الشعر، بل على العكس يستجيبه أن لا يتسلل إلى عالم الشعر إلاّ “مقنعا غير سافر، ملفعا بالمشاعر والتصورات والظلال، ذائبا في وهج الحس والانفعال. أو موشى بالسبحات والسرحات! ليس له أن يلج هذا العالم ساكنا باردا مجردا!”[x] بعبارة أخرى يمكننا القول إن الشعر عند سيد قطب هو نبضة قلب قبل كونه لمعة فكر، وخفقة حياة قبل كونه فكرة ذهن، وحالة نفسية قبل كونه قضية فكرية، وظلال إنسان قبل كونه التماع فكر، وهو وسوسة أفئدة قبل كونه رنين ألفاظ.[xi]

غير أن سيد قطب لم يكتف بنفي وجود الفكر البارز في الشعر بل تجاوز إلى تعليق على هذا النوع الموجود في الشعر العربي حيث يقول إنه تسرب إلى عالم الشعر خطأ ولم يذهب إلى فصله الحقيقي يعني النثر، لأن هذا النوع من الشعر يدور حول الفكرة الباردة المجردة من الصور والظلال، والتوهج الانفعالي والإيقاع الموسيقي التي لها دخل كبير في تحريك المشاعر وهزة الوجدان. ويليق بالذكر أن سيد لم ينفه بأسره بل أقام لجانبه الآخر وزنا وقيمة حيث يرى أن بعضه الجيد وله قيمته الفكرية والإنسانية، وضياعه سيكون خسارة فادحة على الفكر البشري.[xii] ويذهب سيد إلى الرأي أن كثيرا من شعر المتنبي والمعري يندرج في هذا الضرب من الشعر.

عصارة القول إن موقف سيد قطب من الشعر كان أشمل وأوسع من معاصريه كما لاحظنا فيما مضى من آرائه وموقفه تجاه الشعر وما يتعلقه من الميزات الفنية. في الحقيقة كان سيد قطب شاعرا قديرا بغض الطرف عن ذيوع صيته بين الأوساط الأدبية والعلمية مفكرا بارعا ومنظرا إسلاميا أكثر من شهرته شاعرا عربيا، وكان على بينة تامة من أصالة الشعر وحقيقته فتحدثنا عن التجارب النفسية التي عاشها نفسه.

شخصية الشاعر عند سيد قطب:

الشاعر ليس شخصا عاديا عند سيد قطب بل هو شخصية ممتازة حساسة، وتتميز شخصيته  بشدة الحساسة وعمق الشعور. وهو يحس الأشياء المحيطة به ويشعرها غير إحساس الجمهور وشعورهم لأن الناس يرى الأشياء رؤية سطحية وبينما الشاعر يتعمق – على حد تعبير سيد قطب – في بواطنها وخفاياها ويكشف لنا ما هو المخبوء في باطنها. ويرى سيد قطب أن المجال الأصيل للشاعر هو الإحساسات النفسية التي تميزه عن الآخرين من الشعراء لأن الألفاظ والمعاني هي بمثابة الرموز للإحساسات. في ضوء ما تقدم يمكن لنا القول إن المهم في الشاعر ليس الألفاظ والمعاني بل هي تلك الإحساسات التي تستشعرها في قرار وجدانه وذلك الإحساس النفسي التي تساعده في اختيار الألفاظ المطلوبة للتعبير عن تلك العواطف والإحساسات التي تختلج وتستجيش في صميم قلبه وقرار نفسه. يعرف سيد قطب بشخصية الشاعر حيث يقول “إن الشاعر إنسان ممتاز، فهو صورة من صور الحياة السامية، فإذا هو استطاع أن يصور لنا نفسه وعواطفه، يكون قد أخرج لنا صورة من الحياة النابضة الحساسة، صورة مميزة عن بقية الصور، نزين بها متحف الحياة الجامع، صورة واحدة وكفى،…”[xiii]

تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك بعض النقاد الذين يذهبون إلى تمييز الشاعر عن الجماهير من ناحية التعبير وملكته التي يقدر بها على التعبير عن مشاعره وإحساسه، ولكن سيد قطب ينكر هذه الفكرة تاما بقوله إنه من الممكن في الشاعر الزائف الإحساس السطحي الشعور. وأما فيما يتعلق بالشاعر الحقيقي فأمره مختلف تمام الاختلاف عن  الزائف لأنه “يدرك الأشياء على هذا النحو من الدقة والعمق والفخامة، فيعبر عنها كما يراها”. ويردف قائلا: “إن الشاعر يدرك من العلاقات بين التصورات والأحاسيس ما يدركه الآخرون، فتراه ينتقل من هذه الخاطرة إلى ذلك، لأنه يلمح العلاقة بينها في أعمق من الطبقة الظاهرية”.[xiv]

يعني يقصد سيد قطب أن الآخرين من الجماهير لا يستطيعون إدراك هذه العلاقة بسهولة بل يعجزون عنه، فيحسبون تعبير الشاعرالحق ممزقا خاليا من العلاقات الفنية بينها وفي نهاية المطاف يحكمون عليه بالكذب. والحق أن إدراك هذه العلاقة أعمق وأسرع مما يدركون.[xv] فبعبارة أدق يمكننا تخليص آراء سيد قطب وموقفه تجاه الشاعر الحقيقي بالقول إن شخصية الشاعر يجب أن تكون متسمة بصفتين أساسيتين، وهما: أولا أن يكون إحساسه بالحياة أعمق وأدق وأكثر وضوحا وتمييزا عن إحساس الكل من الآخرين، وثانيا أن يعبر عن إحساسه بالطريقة التي تكون أسمى من تعابير الجمهور.[xvi]

يطلب سيد من الشاعر أن يكون دائم الاتصال بالكون الكبير، فعلى هذا الأساس قسم الشعراء إلى ثلاث طبقات؛ أما الطبقة الأولى فينتمي إليها كل شاعر يصل قرّاءه ومن يتملى بكلامه بالكون الكبير، “والحياة الطليقة من قيود الزمان والمكان، بينما يعالج المواقف الصغيرة، واللحظات الجزئية، والحالات المنفردة، هو الشاعر الكبير النادر.”[xvii] ويندرج في هذه الطبقة – على حد تعبير سيد قطب – الشاعر الهندي طاغور والشاعر الفارسي الخيام. وأما فيما يتعلق بالطبقة الثانية فهي عبارة عن الشاعر الذي “يصلنا بالكون والحياة لحظات متفرقات، يتصل فيها بالآباد الخالدة والحياة الأزلية، أو بالحياة الإنسانية خاصة والطبيعة البشرية، هو الشاعر الممتاز.”[xviii] وقد أدرج سيد قطب في هذه الطبقة ابن الرومي والمتنبي والمعري.

والطبقة الثالثة عبارة عن “الشاعر الذي يصدق في التعبير عن نفسه، ولكن في محيط ضيق وعلى مدى قريب، ولا ننفذ وراءه إلى إحساس بالحياة شامل، ولا إلى نظرة كونية كبيرة، هو شاعر محدود.”[xix] وأما الشعراء الذين يمثلون هذه الطبقة هم بشار وأبو نواس وعمر بن ربيعة وجميل بثينة.

شدّ ما يُدهشنا هنا هو تفضيل سيد الشعراء الأجانب على الشعراء العرب كما لاحظنا في تقسيمه الشعراء إلى ثلاث طبقات، وقد أدركنا أن سيّد وضع الشعراء الأجانب في الطبقة الأولى، وأما الشعراء العرب فوضعهم في الطبقتين الأخيرتين. إذا أمعنا في البحث عن الأسباب التي دفعته إلى هذا التفضيل الغريب، انتهينا إلى أن هناك بعض الدواعي التي يفقدها الأدب العربي ويزخر بها الأدب الأجنبي، ومن بينها قضية الطبعية، وقضية التصوير، وقضية طريقة الإحساس وطريقة التعبير عن ذلك الإحساس وغيرها في الشعر العربي. نظرا إلى ذلك، لا بد لنا من الاطّلاع على الشعر العربي وقميته في ميزان سيد قطب النقدي.

الشعر العربي في ميزان سيد قطب:

عندما نلقي نظرة سطحية على ما كتب سيد قطب في الشعر العربي نظن بادئ ذي بدء أنه منحاز إلى التأثر بالشعر الأجنبي على الشعر العربي، ولكن في الحقيقة هناك بعض الدوافع والدواعي التي حملت سيد على إدلاء بمثل هذه التعلقيات التي تعكس تحيزه الكبير إلى الشعر الأجنبي. يليق بالذكر أن سيد لم يكتف بتناول ميزات الشعر غير العربي بل أورد شتى النماذج من الأدب الهندي والأدب الفارسي والأدب الصيني الدالة على صحة آرائه وموقفه تجاه الشعر الأجنبي. أما الشعراء الذين تناولهم سيد بثناء العاطر وأثنى عليهم شديد الثناء هم طاغور وعمر الخيام وتوماس هاردي وغيرهم.[xx] ولكن هذا كله لا يدل على تأثر سيد قطب بالأدب الأجنبي بل هو لم يكن متفقا مع الخيام ولا هاردي في طبيعة شعورهم بالكون والحياة، و”تأثره بالتصور الإسلامي والواسع البصير الدافق بالحياة والفاعلية والنور يقيه شر هذا الظلام والسلبية  والقنوط، ولكنه يعرض هذه النماذج لوجودها في عالم الأدب فعلا، والتصور الإسلامي للكون والحياة جدير بأن ينشئ أدبا عظيما أوسع رقعة وأبعد آمادا وأرفع آفاقا.”[xxi] فيتبين من بين هذه السطور أنه لم يذكرهم لتأثره العميق بهم بل أورد ذكرهم اعترافا بأن لهم وجود في العالم العربي وهم من الذين تأثروا بكتبهم المقدسة إلى أقصى الحد وصبغوا أدبهم بصبغتها.

علاوة على ما ذكرنا فيما سبق بخصوص أسباب تفضيل سيد الشعراء الأجانب على الشعراء العرب، تجدر الإشارة هنا إلى أن سيد، في الحقيقة، وجد النماذج الأدبية للشعراء المذكورين آنفا متميزة بالصفات التي يطلبها نفسه في الأعمال الأدبية عامة وفي الشعر خاصة من ناحية طريقة الإحساس وطريقة التعبير والعناصر المهمّة الأخرى بما فيها الصور والظلال بنوع خاص. عندما وضع سيد قطب الشعر العربي على محك مقاييسه النقدية فتوصل إلى أن الشعر العربي يفقد الظلال الإنسانية والحالات النفسية بمقدار ما هو غني بالأفكار المجردة والمعاني الذهنية والاستجابات الحسية المباشرة. فهذا هو السبب الأصيل الذي ساق سيد على ترجيح الشعر الغربي على الشعر العربي ودفعه إلى اقتراح النقاد على أن ينظروا إلى الشعر “على أساس ما يثير في نفوسنا من أحاسيس، وما يرسم لخيالنا من صور، وما يطلقنا من أعيان الفكر المحسوسة الحدودة، ويصلنا بصور الإنسانية وبالحياة المكنونة.”[xxii]

وكذلك من أهم الأسباب التي ساقت سيد إلى تفضيل الشعر الغربي على الشعر العربي هو بيان مدى تأثر الشعر الأوروبي وانتفاعه بكتابهم المقدس كما زعم سيد قطب أن الأدب العربي لم ينتفع الانتفاع الواجب بكتابهم المقدس، كما انتفعت آداب الأمم المسيحية بكتابهم المقدس من الوجهة الفنية، ولاحظ هذا التأثر والانتفاع واضحا جليا في نماذج شعرية لهاردي في ظل قطعة “الجامعة” وقطعة لورنس هوب في ظل قطعة “شموليت”، في طريقة الإحساس وفي طريقة التعبير على السواء.[xxiii]

تجدر الإشارة هنا إلى أن سيد كان يقيس النماذج الأدبية على محك مقاييسه النقدية، وقد رأينا فيما سبق أنه كان يطلب من الشاعر أن يكون دائم الاتصال بالنبع الكبير أو الكون الكبير ويكون كل جزء من جزئيات حياته متصلة متماسكة فيما بينها، وتكون بدورها متصلة بالنبع الكبير. وعندما تناول سيد قطب النماذج الشعرية لطاغور وقاسها على محك مقاييسه النقدية فانتهى إلى أنها متميزة بالصفات المطلوبة عنده، فيرى الشاعر الهندي طاغور على القمة العليا من هذه الناحية مدعيا أنه دائم الصلة بالنبع الكبير، وله قدرة بالغة على أنه ينقلنا بواسطة الخاطرة الجزئية الوقتية إلى الإحساس الكلي بصلتنا الكبرى بالحياة. ومما لا مرية فيه أن الكثيرين بما فيهم العباقرة يقدرون على أن ينقلوا إلينا إحساسهم “باللحظات الجزئية والحالات النفسية قويا دافقا يسري في شعورنا، وأن ينقلونا إلى عالمهم لنشاركهم مشاعرهم كأنما نعيشها. وقد يصلوننا في بعض اللحظات بالأزل والأبد.”[xxiv] ولكن لا يفوتنا الذكر هنا أن كل لحظة فيها تكون منفصلة عن اللحظات الأخرى فيسفر عن كون علاقات هذه الجزئيات المتفرقة مع الكون الكبير متعددة. يذهب سيد إلى الرأي أن الكبار من الشعراء في الأدب العربي قديما وحديثا يندرجون في هذه الطبقة. ويقوم سيد بتسليط الضوء الكاشف على الفارق الكبير بين نوعين من الشعراء حيث يرى “أن كل لحظة في عالم طاغور وأمثله النادرين هي جزء غير منفصل عن الكل الكبير، وأنه يقودنا بخفة من نقطة البدء المحدودة إلى العالم المطلق وراء الزمان والمكان، ففي كل لحظة شعورية إحساس بالكون كله وبصلة الفرد بهذا الكون الكبير… وأن كل لحظة في عالم الآخرين هي لحظة مفردة قوية مليئة، ولكنها في معزل عن بقية اللحظات، …”[xxv]

في ضوء ما تقدم من البحث توصلنا إلى أن سيد لم يكن مخطئا في تفضيل الشعر غير العربي على الشعر العربي بل لديه مقاييس نقدية يقيس على محكها النماذج الأدبية ويفضل بعضهم على البعض.

علاوة على ما ذكرنا من الأسباب المهمّة التي ساقت سيد إلى تفضيل الشعر غير العربي على الشعر العربي، تناول سيد قضية الطبيعة في الشعر العربي بشيء من الإسهاب والإطالة حيث ذهب إلى الرأي أن الطبيعة في الشعر العربي أقل اتصالا بإحساس الشاعر من ناحية الصداقة إذا قيس بآداب اللغات الأخرى، وهي في الغالب صلة عداء كما يتبين في قول شاعر:

وركب كأن الريح تطلب عندهم               لها “ترة” من جذبها بالعصائب[xxvi]

وفيما يتعلق بالطبيعة في الشعر العربي يرى سيد أن ظاهرة الجمود غالبة على الشعر العربي حيث يتقيد إحساس الشاعر بالطبيعة كأنها منظر يوصف أو يلتذ، وليس شخوص يحيا، وحياة تدب، وقلما توجد النماذج من هذا النوع الأخير حيث يحس الشعراء العرب بالطبيعة إحساس الشاخص الدابّ. وباستثناء ابن الرومي الذي كان بدعا في الشعر العربي كله يرى سيد قطب عددا قليلا من الأبيات والمقطعات التي يحس فيها شاعر إحساس شخوص تحيا وحياة تدبّ، ومنها أبيات البحتري في وصف الربيع التي مطلعها:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا           من الحسن حتى كا أن يتكلما[xxvii]

وقول ابن خفاجة الأندلسي في وصف جبل:

وأرعن طمّاح الذؤابة شامخ         يطاول أعنان السماء بغارب

وقور على ظهر الفلاة كأنه         طوال الليالي ناظر في العواقب

أصخت إليه وهو أخرس صامت    فحدثني ليل السرّى بالعجائب[xxviii]

وباستثناء شعر ابن الرومي ومثل هذه الأبيات يرى سيد أن شعر الطبيعة في الأدب العربي تتميز بالجمود. والنقص الكبير الذي شعر سيد قطب بوجوده في الشعر العربي هو عدم اندماج الشاعر في الطبيعة، ويقول: “أن الطبيعة في الشعر العربي قد تحيا وتدب ويحس الشاعر بما يضطرب فيها من حياة، ويلحظ خلجاتها ويحصي نبضاتها، ولكنه هو لا يندمج في هذه الطبيعة، ولا يحس أنه شخص من شخوصها وفرد من أبنائها، وأن حركته من حركاتها، ونبضة من نبضاتها، وأنه منها وإليها، وأحاسيسه موصولة بأحاسيسها.”[xxix]

استنتجنا مما سبق في موقف سيد قطب تجاه الطبيعة في الشعر العربي أنه لم يكن متفقا بصورة الطبيعة التي أوردها الشعراء العرب في الشعر العربي واندماج الشاعر فيها لكونها عارية من الميزات المطلوبة عند سيد، وقد رآها موجودة في الشعر العالمي بدرجة منشودة، فساقته إلى إعجاب بالشعر العالمي أكثر من الشعر العربي.

الخاتمة:  

بعد محاولتنا المتواضعة في دراسة الشعر العربي في ميزان سيد قطب انتهينا إلى بعض أهم النتائج التي تكشف لنا عن موقف سيد قطب من الشعر العربي وتعليقاته النقدية عليه. توصلنا فيما سبق إلى أن هناك بون شاسع بين الشعر العربي والشعر العالمي عند سيد قطب، وهو يفضل الشعر العالمي بما فيها الشعر الصيني، والشعر الهندي، والشعر الفارسي على الشعر العربي لعدة دواع، وفي مقدمتها عدم اتصال الشاعر العربي بالنبع الكبير، ووجود اللحظات المتفرقة غير المتحدة، واستيلاء الجمود على صورة الطبيعة في الشعر العربي. بعد أن حاولنا التعمق في موقف سيد الطريف من الشعر العربي توصلنا إلى أنه كان في الحقيقة ناقدا شاعرا، وكان لديه مقاييس محدده يقيس على محكها النماذج الأدبية، فهكذا فعل بالنماذج من الشعر العربي والشعر العالمي حيث توصل إلى أن الميزات المطلوبة عنده في الشعر كانت موجودة في الشعر العالمي أكثر من الشعر العالمي، فساقه في نهاية المطاف إلى تفضيل الشعر العالمي على الشعر العربي. ولا يفوتنا الذكر أن سيد قد استدل بأدلة دامغة وبراهين واضحة بغية إثبات موقفه تجاه الشعر العربي حتى يقتنع القارئ المتعمق بدرجة مطلوبة ولا يجد محيصا عن قبوله.

 

 

[i]  عبد الله الخباص، سيد قطب الاديب الناقد، )الأردن: مكتبة المنار، 1983 م(، ص83

[ii]  الندوي، محمد واضح رشيد الحسني، أدب الصحوة الإسلامية، (لكناؤ: دار الرشيد، 2009م)، ص62-68.

[iii]  سيد قطب، النقد الأدبي أصوله ومناهجه، (القاهرة: دار الشروق، 2003م)، ط8، ص64.

[iv]  المصدر السابق نفسه.

[v]  كتب وشخصيات، ص89.

[vi]  المصدر السابق، ص11.

[vii]  المصدر السابق، ص89-90.

[viii]  سيد قطب، مهمة الشاعر في الحياة، ط1، (ألمانيا: منشورات الجمل، 1996م)، ص12.

[ix]  المصدر السابق، ص63.

[x]  النقد الأدبي أصوله ومناهجه، ص65.

[xi]  كتب وشخصيات، ص49.

[xii]  النقد الأدبي أصوله ومناهجه، ص76.

[xiii]  مهمة الشاعر في الحياة، ص71.

[xiv]  المصدر السابق، ص42.

[xv]  المصدر السابق، ص37.

[xvi]  المصدر السابق، ص14.

[xvii]  النقد الأدبي أصوله ومناهجه، ص66.

[xviii]  المصدر السابق نفسه.

[xix]  المصدر السابق نفسه.

[xx]  النقد الأدبي أصوله ومناهجه، ص32-38.

[xxi]  المصدر السابق، ص37.

[xxii]  مجلة الرسالة/ العدد 574/ على هامش النقد، بتاريخ 03-07-1944م. راجعناه بتاريخ 14-07-2022 على رابطة ar.wikisource.org/wiki/

[xxiii]  كتب وشخصيات، ص39.

[xxiv]  النقد الأدبي أصوله ومناهجه، ص32.

[xxv]  المصدر السابق نفسه.

[xxvi]  كتب وشخصيات، ص58.

[xxvii]  كتب وشخصيات، ص59.

[xxviii]  المصدر السابق نفسه.

[xxix]  كتب وشخصيات، ص 58-59.

المصادر والمراجع:

  • الخالدي، الدكتور صلاح عبد الفتاح، سيد قطب – من الميلاد إلى الاستشهاد، الدار الشامية، بيروت، 1994م.
  • الخباص، عبد الله، سيد قطب الأديب الناقد، مكتبة المنار، الأردن، 1983م.
  • الندوي، محمد واضح رشيد الحسني، أدب الصحوة الإسلامية، دار الرشيد، لكناؤ، 2009م.
  • سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، دار الشروق، القاهرة، 2004م.
  • سيد قطب، النقد الأدبي أصوله ومناهجه، دار الشروق، القاهرة، 2003م.
  • سيد قطب، كتب وشخصيات، دار الشروق، القاهرة، 1983م.
  • سيد قطب، مهمة الشاعر في الحياة والجيل الحاضر، منشورات الجمل، ألمانيا، 1996م.
  • سيد قطب، نقد مستقبل الثقافة في مصر، الدار السعودية للنشر والتوزيع، جدة، 1969م.
  • مجلة الرسالة/ العدد 574/ على هامش النقد، بتاريخ 03-07-1944م، wikisource.org/wiki/