حافظ كليم الله يس بن شيخ محمد ابراهيم
الباحث في القسم العربي في مرحلة الدكتوراة
بجامعة عالية – بمدينة كولكتا – الهند
الحمد لله حمد الشاكرين والصلوة و السلام على سيدنا و حبيبنا و سندنا محمد بن عبد الله و على آله الطاهرين الأبرار و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين و بعد :
فإن أجلَّ الكلام بعد كلامِ الله كلامُ خاتم الأنبياء و المرسلين محمَّد (ﷺ)، وسنَّته هي المصدر الثَّاني للتَّشريع، وقد جاءت مبيِّنة لما في القرآن الكريم من أحكام؛ ففصَّلت مجمله، وقيَّدت مطلقه، وخصَّصت عمومه، و وضَّحت مشكله. وليس غريبًا أن يوليها المسلمون عنايةً خاصةً، بدأت بتدوين الحديث الشَّريف، واستنباط الأحكام منه والآداب، إلى غير ذلك من جوانب العناية بالحديث النبوي – الوقوف على أسراره البلاغيَّة .
والحديث عن جوامع كلمه و حكمه البليغة حديث عن أسمى درجات البلاغة الإنسانيَّة، فقد زكَّى الله منطق رسوله –(ﷺ)- في كتابه قائلا : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴾ [النجم: 3، 4] وشهد له أساطين البلاغة وأرباب الفصاحة، فهذا الجاحظ رائد البيان العربيِّ، يصف كلامه –(ﷺ)-، فيقول: “هو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجَلَّ عن الصَّنعة، ونُزِّه عن التكلف، وكان كما قال اللّه تبارك وتعالى: قل يا محمد: ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [سورة ص: 86]
و قال تعالى : ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب ﴾ (البقرة: 269)
كما ثبت في هذا المعنى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال النبي (ﷺ) : ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق . ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) [1]
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ (ﷺ) فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ…. [2]
قال النووي : وَأَمَّا جَعْل الْإِيمَان وَالْحِكْمَة فِي إِنَاء وَإِفْرَاغهمَا مَعَ أَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ وَهَذِهِ صِفَة الْأَجْسَام فَمَعْنَاهُ وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّ الطَّسْت كَانَ فِيهَا شَيْء يَحْصُل بِهِ كَمَال الْإِيمَان وَالْحِكْمَة وَزِيَادَتهمَا فَسُمِّيَ إِيمَانًا وَحِكْمَة لِكَوْنِهِ سَبَبًا لَهُمَا وَهَذَا مِنْ أَحْسَن الْمَجَاز . وَاَللَّه أَعْلَم .[3]
معنى الحديث الشريف الظاهر البين أن كل كلامه(ﷺ) ملئ حكمة و بيانا شافيا لجميع الأنام وكلماته الحكيمة هدى وبشرى وإرشاد لإخراج الناس من الظلمات إلى النور و كل حكيم سواء كان في الجاهلية أو في عصر الإسلام لايقابل كلمات النبي (ﷺ) ذات الحكمة البليغة الرفيعة و أحاديثه النبوية خرجت من مشكاة النبوة و نور الإسلام .
الحديث يدور حول الخصائص البلاغية في الحكم النبوية و تحته خمسة عشر مطلبا :
المطلب الأول : الاقتباس من القرآن
إن الاقتباس من أبرز مظاهر الخصائص الأدبية في أقوال الرسول (ﷺ) وهو يزيدها بهاء ورونقا،ويقوي فكرتها ويزينها،وقد اتسمت الخطب النبوية بهذه الخصيصة البلاغية كثيرا، وذلك من تأثير القرآن عليه وكان ينهل من منهله الصافي ومعينه العذب ويهتدي بهديه ويسلك مسلكه. وها أنا أذكر نبذة عن الاقتباس مع التطبيق على الحكم النبوية.
الاقتباس: في اللغة التضمين وفي اصطلاح البلاغيين(“تَضْمِينُ النَّثْر أو الشِّعر شَيْئاً مِنَ الْقُرآن الكريم أو الحديثِ الشريفِ مِنْ غَيْر دلالةٍ عَلَى أنَّهُ منهما)[4]
وهو ينقسم إلى قسمين :أحدهما وهو أن يضمن الكلام شيئا من القرآن الكريم وينبه عليه مثل قول الحريري في مقاماته فقلت وأنت أصدق القائلين ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ومن أمثلته الخطب الدينية التي تحتوي على آي من القرآن ونصوص من الحديث الشريف منصوصا قائله ،
ثانيهما الاستشهاد والتنبيه على آي القرآن في خلال كلامه دون الإشارة إليه والاقتصار على اقتباس معناه[5] وهو المقصود هنا.
ومن شروطه ألا يؤدي الاقتباس إلى تحريف المعنى وإذا كان في اقتباسه تحريف في المعنى، أو سوء أدب فهو ممنوع .
ومما تجدر الإشارة بأن النبي (ﷺ) هو الرائد الأول لتضمين خطبه آيات بينات من القرآن الكريم كما سبقت الإشارة ومن أمثلة ذلك ما يأتي :
قوله (ﷺ) :(من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصه فقد غوى وفرّط، وضل ضلالاً بعيداً)([6])، اقتبسه من قوله تعالى (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً)(سورة النساء:116)
وقوله (ﷺ) (أَنا أولى بكلِّ مُؤمن مِنْ نفسه [7]) اقتبسه (ﷺ) من قوله تعالى ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (سورة الأحزاب:6)
وقوله (ﷺ) ( ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله وعالة فأغناكم الله[8]) اقتبسه (ﷺ) من قوله تعالى:( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (سورة الضحى :7-8)
خاطب النبي (ﷺ) الأنصار كما خاطب الله نبيه (ﷺ) بأنه وجدهم ضلالا بعيدين عن الحق ومنحرفين عن الصراط السوي فهدى الله به الأنصارإلى طريق الرشدوالصلاح ،وجعلهم أغنياء فبارك في أموالهم وأولادهم.
المطلب الثاني : الإيجاز
إن من أبرز الخصائص البلاغية للحكم النبوية “الإيجاز” وهذه الخصيصة هي أبرز سماتها، وأخص خصائصها،وذلك لما يمتاز الرسول r بكمال عقله، وغلبة فكره على لسانه، وقلة كلامه وتنزهه من الحشو، وسلامته من شوائب الإطالة، وهذه خصيصة اختص بها النبي rمن بين أنبياء الله ورسله كما يدل عليه مارواه الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله r قال:”فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون[9]“
وجوامع الكلم تعني الإيجاز كما قال النووى نقلاً عن الهروى: ” القرآن جمع الله تعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعانى الكثيرة، وكلامه كان بالجوامع، قليـل اللـفظ، كثير المعنى[10]“
الإيجاز : لغة: اختصار الكلام وتقليل ألفاظه مع بلاغته قال صاحب اللسان: قَلَّ فِي بَلَاغَةٍ، وأَوْجَزَه: اخْتَصَرَهُ ، يقالُ أوجز الكلامَ إذا جعله قصيراً ويقال: كلامٌ وجيز أي:خفيفٌ قصير[11].
واختلفت تعاريف البلغاء والأدباء في معنى الإيجاز مع أن مؤداهم واحد،كما يتبين من تعاريفهم الآتية:
قال السكاكي :الإيجاز هو أداء المقصود من الكلام بأقل من عبارات متعارف الأوساط[12]
وقيل :هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف[13]
وإذا تأملنا في مفهوم الإيجاز عند هؤلاء البلاغيين، كالسكاكى، والقزوينى، وغيرهما فإننا نجد أن مفهومه وإن اختلفت صيغ التعبير عنه والمعنى واحد، وهو جمع المعانى الكثيرة تحت الألفاظ القليلة مع الإبانة والإفصاح.
والإيجاز ينقسم إلى قسمين: أحدهما:
الإيجاز بالحذف: وهو ما يحذف منه المفرد والجملة لدلالة فحوى الكلام على المحذوف، ولا يكون فيما زاد معناه عن لفظه.
والقسم الآخر: ما لا يحذف منه شئ وهو ضربان: أحدهما: ما ساوى لفظه معناه ويسمى التقدير، وهو الذى يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها. والآخر: ما زاد معناه عـلى لفظــه ويسـمى القصر.
وإيجاز القصر ينقسم إلى قــسمين: أحدهما ما دل لفظه على محتملات متعـددة، وهذا يمـــكن التعبير عـــنه بمثل ألفاظــه وفي عدتها.
والآخر: ما يدل لفظه على محتملات متعددة ولا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها،لا بل يستحيل ذلك. وإيجاز التقدير والقصر شائعان في البيان النبوى بصورة واضحة، والقسم الآخر من الضرب الثانى في الإيجاز بالقصر وهو الذى لايمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها، وهو أعلى طبقات الإيجاز مكاناً وأعوزها إمكاناً، وإذا وجد في كلام البلغاء فإنما يوجد شاذاً ونادراً… [14]
وبعد هذه المقدمة الموجزة عن الإيجاز عند البلاغيين أود أن أشير إلى بعض سمات الإيجاز في الأحاديث النبوية r ومن أمثلة ذلك :
قوله r:((ألا كلُّ شيءٍ من أمرِ الجاهليةِ تحت قدميَّ موضوعٌ[15]))
ما أعظم معانيه وغاياته، فلقد أتى هنا بلفظة ” كل ” التى تفيد العموم في سياق الإيجاب مع تقديمها،أراد النبي r أن يبطل ما بين الناس في جاهليَّتهم من الدماء، وكذا بَيْعاتهم الفاسدة التي لَم يتَّصل بها قَبْضٌ،إضافته إلى الجاهلية إضافةُ ذمٍّ وعيبٍ؛ أي: كلُّ ما كان من أمرِ الجاهلية: كفخرِها بالأحساب، وطعنِها في الأنساب، وتعصُّبها المذموم، كلُّه موضوعٌ باطلٌ؛ كما أشار إليه بقوله: ((تحت قدميَّ موضوعٌ)).
وقوله r في خطبته : ((ألا لا يَجنِي جانٍ إلاَّ على نفسه[16]))
ما أعظم الإيجاز في هذه الجملة المؤلفة بكلمات قليلة،تولد الإيجاز بالحذف أي لا يطالب الجاني بجانية غيره من أقاربه وأباعده، فإذا جَنَى أحدُهم جِنايةً لا يُعاقَب بها الآخر؛ كقوله: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾(الأنعام:164) وقوله -تعالى-: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾.(المدثر :38)
المطلب الثالث : السجع
السجع من أبرز سمات الحكم النبوية البلاغية،لايقدم عليه إلا من رسخت قدمه في البلاغة والفصاحة،وعرف دقائق اللغة وأسرارها،وهي فن من فنون البديع في علوم البلاغة،وهو فن لطيف تطرب لها الأذن وتهتز لها الأفئدة، وترتاح له العقول ،وقد وقع السجع في حكمه البليغة r من غير تكلف ومشقة ولم يكن سجعا بذيئا وثقيلا،مع أن معظم الخطب تخلو من السجع وذلك أنه كره السجع لاسيما سجع الكهان وقال:”أسجعاً كسجع الكهان[17]“.
أذكر فيما يلي بعض ما يتعلق بالسجع مع التطبيق على نماذج من الحكم النبوية.
السجع في اللغة يقال : سجَعَت الحمامَةُ أو النَّاقةُ سَجْعاً، إذا رَدَّدَتْ صَوْتَها عَلى طريقةٍ واحدة. ويقال: سجَعَ المتكلّم في كلامه، إذا تكلّم بكلامٍ له فواصل كفواصل الشّعر مُقَفّىً غير موزون[18].
والسّجْعُ اصطلاحا : هو تواطُؤُ الفاصلتين من النَّثر على حرف واحد، وهو في النثر كالقافية في الشعر. وأفضل السجع ما كانت فِقَرَاتُه متساويات، مثل: قول الرسول r في دعائه المتضمِّنِ الحثَّ على الإِنفاق في الخير، والتحذيرَ من الإِمساك: “اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وَأَعْطِ مُمْسِكاً تلفاً”.[19]
ذكر البلغاء والأدباء الشروط للسجع يجب توافره في الجملة وإلا يقبح السجع :
ومن أهمها ما ذكره ابن الأثير شرطاً لحسن السجع وهو أن تكون كل واحدة من السجعتين المزدوجتين مشتملة على معنى غير المعنى الذى اشتملت عليه أختها، فإن كان المعنى فيها سواء فذلك هو التطويل بعينه؛ لأن التطويل هـو الدلالة على المـعنى بألفاظ يمكن الدلالة عليه بدونها. فالكلام المسجوع إذاً يحتاج إلى أن يتوافر فيه أربعة أمور: الأول: اختيار مفردات الألفاظ الثانى: اختيار التركيب الثالث: أن يكون اللفظ في الكلام المسجوع تابعاً للمعنى لا أن يكون المعنى تابعاً للفظ الرابع: أن تكون كل واحدة من الفـقرتين المسجوعتين دالة على معنى غير المـعنى الذى دلت عـليه أختها[20] أورد بعض الخطب التي تحوى على السجع كي يتضح جمالها وبهائها،ومن أمثلة ذلك ما ورد في خطبته حينما وقف على باب الكعبة إذ قال:r :((لا إله إلا الله وحده،لا شريك له،صدق وعده،ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده[21]))
اتسمت عبارات الخطب بالسجع لأن الجمل انتهت بالدال والهاء، وقد حسن فيها السجع لأن الكلام جاء رصين التركيب سليما من التكلف خاليا من التكرار.
قوله r :((قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وانما الولاء لمن أعتق[22])) اشتملت عباراته على السجع بحيث انتهت كل جملة على حرف “القاف”،وحسن السجع فيهاوتوفرت فيها الشروط الأربعة المذكورة، وقدجاء الكلام رصين التركيب سليما من التكلف خاليا من التكرار.
قوله في إحدى خطبه:(( يأيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام [23]))
امتازت هذه الخطبة بالسجع وتظهر قدرة الخطيب على استعمال الكلمات المماثلة والمختومة بالميم،وقد جاء الكلام خاليامن التكلف ومحكمة الربط وحسن السجع فيها.
المطلب الرابع : التمثيل وتصوير المعاني،
هو رسم الصورة في أذهان السامعين وتخيلها،وهي تجسم المرئيات والمسموعات، ليتسنى لهم بعد ذلك أن يتشوقوا إلى الانتباه والسماع ، ولا شك أن التمثيل والتصوير يعدان من أهم عناصر الجمال الأدبي الرفيع،ولهما أثر بالغ في نفس السامع في مجال التوجيه والإرشاد،كما أشار إليه عبد القادر الجرجاني :
“إن التمثيل إذا جاءَ في أعقاب المعاني، أو بَرَزَتْ هي باختصار في مَعرِضه، ونُقِلت عن صُوَرها الأصلية إلى صورته، كساها أُبَّهةً، وكَسَبها مَنْقَبةً، ورفع من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النُّفوس لها، ودعا القُلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلَفاً، وقَسَر الطِّباع على أن تُعطيها محبّة وشَغَفاً، فإن كان مدحاً، كان أبْهَى وأفخم، وأنبلَ في النفوسَ وأعظم، وأهزَّ للعِطْف، وأسْرع للإلف، وأجلب للفَرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرِّ المواهب المنائح، وأسْيَر على الألسن وأذكرَ، وأولى بأن تَعْلَقه القلوب وأجدر، وإن كان ذمّاً، كان مسُّهُ أوجعَ، ومِيسَمُه ألذع، ووقعُه أشده، وَحدُّه أحَدّ، وإن كان حِجاباً، كان بُرهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبَيَانه أبْهر، وإن كان افتخاراً، كان شَأْوُه أمدّ، وشَرَفه أجَدّ، ولسانه أَلَدّ، وإن كان اعتذاراً، كان إلى القَبُول أقرب، وللقلوب أخْلَب، وللسَّخائم أسلّ، ولغَرْب الغَضَبْ أفلَّ، وفي عُقَد العُقود أَنْفَث، وعلى حُسن الرجوع أَبْعث، وإن كان وعظاً، كان أشْفَى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزَّجر، وأجدر بأن يُجلِّيَ الغَيَاية، ويُبصِّر الغاية، ويُبرئ العليل، ويَشْفِي الغليل”[24]
ولذا قد استعان النبي r في قيامه بمهمة التبليغ التى كلفه الله بها بشتى أساليب الإيضاح والتعليم، وفي الذروة من تلك الأساليب يأتى أسلوب ” التمثيل والتصوير”ولم يستخدم الأسلوب التمثيلي لغاية فنية بحتة كغاية الأدباء في تزيين الكلام وتحسينه، وإنما جاء لهدف أسمى، وهو إبراز المعانى في صورة مجسمة لتوضيح الغامض، وتقريب البعيد، وإظهار المعقول في صورة المحسوس[25].
وقد امتاز أسلوبه r التثمثيلي والتصويري بميزات عديدة ومن أهمها دقة التصوير في ضرب الأمثال حيث راعى فيه موافقة تامة بين الممثل والممثل له،واعتنى بالأمثال الحية والنادرة ولم يستعمل الأمثال القديمة والتى كثر استعمالها،بينما أتى بكلمات جديدة في أسلوب جديد،واهتدى به الخلفاء الراشدون ومن بعدهم الخطباء الإسلاميون في خطبهم الدينية.
لقد حفلت حكمه البليغة (r)بصور متعددة من التصوير الفني،وحوت على مواضيع شتى كالعقيدة والعبادات والمعاملة، ومما ورد في ذلك:
قوله rحين دعا قومه قال: ((إن الرائد لا يكذب أهله…)([26]).
ما أروع التمثيل وما أقربه من الواقع في عدم الكذب حيث شبه عدم كذب الإنسان بالرائد الذي يتقدم أمام الحي فيدلهم على المنزل الوسيع والمرعى المريع،يستحيل منه صدور الكذب لأنه عمدة القوم وأساسه،فكيف يخدع أهله؟! كذلك النبي r رحيم بأمته عامة وخاصة لأقربائه وأهل بلده ويستحيل منه صدور الكذب كما يستحيل من رائد القوم.
وقوله r في إحدى خطبه : ((الأنصار شعار والناس دثار …))([27]).
ما أحسن التمثيل وما أروعه في بيان مرتبة الأنصار، شبه النبي الأنصار باللباس الذي يلي الجسد لبيان قربهم وحبهم ،ويليهم المهاجرون في المرتبة. وهذا تشبيه نادر وغريب لبيان حبهم وقربهم.
وقوله (r)في تبوك: ((والنساء حبائل الشيطان))([28])
ما أحسن التمثيل وما أروعه في فتنة الرجال بالنساء ! لأنه جعل النساء من أقوى ما يصيد به الشيطان الرجال فهن كالحبائل المبثوثة، والإشراك المنصوبة كما أن الصياد ينشر شبكته لصيد الأسماك في النهر كذلك الشيطان يجعل النساء ينشرن في الطريق ثم يفتتن الرجال بالنساء.
قوله r : ((إتقوا هذا الشرك فأنه أخفى من ديبب النمل[29]))
ما أدق التمثيل في بيان خفاء الشرك الأصغر الرياءحيث بين أن الشرك الأصغر وهو يخفى خفاء شديداولا يعلمه الناس، لإبطانه الرجل في قلبه ،فذكر أنه يخفى كالنملة السوداء ولا يشعر أحد بدبيب النملة لعدم صوتها،وتحركها،فضلا إذا كانت تدب في الليلة وفي الصخور الصماء السوداء ،كذلك الشرك الأصغر وهو لايرى ولايظهر،وحذر االنبي r من هذا الشرك بأبلغ مثال،وأروع عبارة.
يتبين لنا بعد التأمل في النصوص المذكورة المختارة براعة النبي r وقدرته التامة على التمثيل والتصوير لتفهيم المعاني المعقولة بشكل محسوس،ولا يتأتى ذلك إلا لمن كان قوي باعه في اللغة وعرف دقائق التمثيل والتصوير.
المطلب الخامس : الطباق
“الطباق ” فن من الفنون البديعة،تزيد الكلام و الحكم بهاء وجمالا،ويتلذذ السامع، ويسهل عليه فهم الكلام بدون صعوبة،وهي مما يدل على براعة البليغ على الكلام ،لأن الجمع بين النقيضين في جملة واحدة لا يستطيعه كل واحد،وهي تحتاج إلى خبرات طويلة وأن تحظى بوفرة الحصيلة اللغوية.
الطِّبَاقُ في اللّغة: وضْعُ طَبَقٍ علَى طَبَقٍ، كوضْعِ غِطَاء الْقِدْر مُنكَفِئاً على فَمِ الْقِدْر حتَّى يُغَطِّيَهُ بإحكام، ومنه إطباقُ بطْنِ الكفِّ علَى بَطْنِ الكفّ الآخر، تقول: طابَقَ الشيءَ على الشيءِ مُطَابقةً وطباقاً، أي: أطبَقَهُ عليه، وهذا الإِطباق يقتضي في الغالب التعاكس، فبَطْنُ الغطاء على بَطْنِ القدر يقتضي أن يكون ظهر الغطاء إلى الأعلَى وظَهْرُ الْقِدْرِ إلى الأَسفل.
والطباقُ في الاصطلاح: هو الْجَمْعُ في العبارة الواحدة بين معنَيْينِ متقابلين، على سبيل الحقيقة، أو على سبيل المجاز، ولو إيهاماً، ولا يشترط كون اللّفظين الدَّالَّيْن عليهما من نَوْع واحدٍ كاسمين أو فعلين، فالشرط التقابل في المعنييَيْن فقط وتسمى المطابقة والتطبيق والتضاد،. والتقابل بين المعاني له وجوه، منها ما يلي:
(1) تقابل التناقض: كالوجد والعدم، والإِيجاب والسلب.
(2) تقابل التضاد: كالأسود والأبيض، والقيام والقعود.
(3) تقابل التضايُف: كالأب والابن، والأكبر والأصغر، والخالق والمخلوق[30].
وبعد هذه المقدمة الموجزة عن الطباق عند البلاغيين أود أن أشير إلى بعض سمات الطباق في خطب النبي ومن أمثلة ذلك ما يأتي :
وقوله r في إحدى خطبه: ((فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله [31])) طابق بين كلمة “عاجل” وكلمة”آجل”.
وقوله r في إحدى خطبه: (ولا مُبْعِدَ لِما قَرّب الله ، ولا مُقرّب لِما بَعد الله[32]) طابق بين مبعد ومقرب.
وقوله r في إحدى خطبه: (ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم[33]) طباق بين ضلال وكلمة هدى، وعالة وكلمة أغنى.
تطول قائمة الأمثلة المتسمة بالطباق من الحكم النبوية،يضيق المكان عن ذكرها،وقد زادت هذه الخصيصة البلاغية الحكم جمالا وبهاء ورونقا،وتشير إلى قدرة المتكلم على الحصيلة اللغوية المتمثلة في مفرداتها وأضدادها.
المطلب السادس : الجناس
الجناس خصيصة من الخصائص البلاغية ،وهي فن بديع يزيد الحكم بهاء ورونقا، وهي كالغرة على جبهة الفرس، وهي فنٌّ بديعٌ في اختيار الألفاظ التي تُوهِمُ في البدْءِ التكرير لكنّها تفاجئ بالتأسيس واختلافِ المعنى، يسمي بعض الأدباء(التجنيس) وقد وقع الجناس في الخطب النبوية من غير تكلف وتصنع، استخدامه الجناس في خطبه يدل على مهارته في اللغة. أذكر نبذة عن الجناس مع إيراد بعض الأمثلة من الخطب النبوية.
الجِنَاسُ في اللّغة: المشاكلة، والاتحاد في الجنس، يقال لغة: جانَسهُ، إذا شاكله، وإذا اشترك معه في جِنْسه[34]
عرف البلغاءوالأدباء الجناس بتعاريف عديدة،ومن أهمها ما يأتي:
وقال عنه السكاكي: ((وهو تشابه الكلمتين في اللفظ))([35])
وقال الخطيب القزويني: ((الجناس بين اللفظتين هو تشابههما في اللفظ))([36])
وعرفه العلوي بقوله:((هو أن تتفق اللفظتان في وجه من الوجوه، ويختلف معناهما[37]))
نستنتج من كل ما سبق أن يتشابه اللَّفْظانِ في النُّطْقِ ويَخْتَلِفَا في المعنى.وينقسم إلى قسمين وهما أحدهما تَامٌّ : وهو ما اتَّفَقَ فيه اللفظان في أمورٍ أَربعةٍ هيَ:نَوْعُ الحُروفِ وشَكلُهَا،وعَدَدُها،وتَرْتيبُها.وثانيهما: غَيْرُ تَامِّ: وهو ما اخْتَلَفَ فيه اللفظان في واحدٍ مِنَ الأمور الْمُتَقَدِّمة[38].
ويُشْترط فيه أن لا يكون متكلّفاً، ولا مُسْتكرهاً استكراهاً، وأن يكون مستعذَباً عند ذوي الحسِّ الأدبي المرهف،وقدنَفَر من تصنُّعه وتكلُّفِه كِبَارُ الأدباء والنُّقَاد،لأَنه يؤدي إلى التعقيد، ويَحول بين البليغ وانطلاق عِنانه في مضمار المعاني اللهم إِلا ما جاءَ منه عفوًا وسَمحَ به الطبعُ من غير تكلفٍ[39].ومما يجب في الجناس أن يكون موقع المعنين موقعا حميدا كما قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني:((“أمّا التجنيس فإنَّكَ لا تَسْتَحْسِنُ تجانُسَ اللَّفظتَيْن إلاَّ إذا كان مَوْقعُ مَعْنَيَيْهما من العقل موقعاً حميداً، ولم يَكُنْ مَرْمَى الجامع بينهما مَرْمىً بعيداً[40]))
ومن الأمثلة التي وردت في جوامع كلم النبي (r) من الجناس :
قوله r :” ((ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله، إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه[41]))
كلمة (يقرب )فيها جناس تام بحيث اتحدت الكمتان في الحروف وعددها وأشكالها وترتيبها الأولى تدل على العمل الذي يقود صاحبه إلى الجنة بينما “تقرب” الثاني تدل على العمل الذي تقود صاحبه إلى النار.
قوله r :” ((ولتُجزَوُنَّ بالإحسان إحساناً وبالسوء سوءاً،وإنها لجنةٌ أبداً أو لنارٌ أبـداً [42]))
وقع الجناس في (بالإحسان ) و(إحسانا) جاءت اللفظتان متفقتين في عدد الحروف وأشكالها، كلمة الإحسان الأولى يقصد بها العمل الصالح في الدنيا وكلمة الإحسان الثانية يقصد بها الجزاء الحسن يوم القيامة.
قوله r :” ((فإِنّ جهاد العدوّ شديدٌ، شديد كربه…[43]))
فيه جناس تام، اتحدت الكلمتان تاما (شديد) الأولى تدل على أن لقاء العدو صعب وشاق بينما الثانية تدل على عظم الهم والحزن عند لقاء الأعداء.
قوله r ((إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة[44]))
وقع فيه الجناس التام في الكلمتين :”الظلم ظلمات ” اتحدت اللفظتان واختلف المعنى والأول يدل على التعدي والاعتداء والانتهاك والثاني منهما يدل على معاقبة من ارتكب الظلم على من دونه من الناس.
قوله r : ((من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته[45]))
وقع فيه الجناس التام في الكلمتين :”تتبع و تتبع ” اتحدت اللفظتان واختلف المعنى والأول يدل على كشف عيوب الأخ المسلم والثاني منهما يدل على فضح من يفعل ذلك يوم القيامة.
المطلب السابع : الأصالة
معنى الأصالة: هي مأخوذة من أصل النسب أصالة بمعنى شرف (بالضَّمِّ)،
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: (الْأَصْلُ الْعَقْلُ )، الأصالة في الرأى: جودته وإحكامه. الأصالة في الأسلوب: الابتكار والتميز. قال الجوهري: أخذتُ الشيء بأَصيلَتِهِ، أي كلِّه بأصْلِهِ. ورجلٌ أَصِيلُ الرأي، أي محكَم الرأي. وقد أَصُلَ أَصالَةً. ومجدٌ أَصيلٌ: ذو أَصالَةٍ[46].
أما الأصالة في إصطلاح الأدباء فلقد ذكر الأستاذ الزيات ” أن الأصالة: أن يكون أسلوب الرجل خاصاً به، لا ينهج فيه نهج غيره، وأن تكون في عباراته طرافة وجدة مع حلاوة ملموسة تحمل من يأتى بعده على اقتباسها واستعمالها.
ويراد بالأصالة في الأسلوب بناؤه على ركنين أساسيين: من خصوصية اللفظ، وطرافة العبارة. وتلك هى الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ. وملاك الأصالة أن لا تكتب كما يكتب الناس، وأن تكون أصيلاً في نظرتك وكلمتك وفكرتك وصورتك ولهجتك، فلا تستعمل لفظاً عاماً، ولا تعبيراً محفوظاً، ولا استعارة مشاعة.[47]
ومما يبدو من كلام الأدباء أن الأصالة تعني الجدة ،والطرافة ، بعد التأمل في الحكم النبوية يبدو لي أن ابتكاراته على نوعين :
أحدهما جدة أسلوبه r حيث ابتكر كثيرا من الأساليب الجديدة والحديثة التي لم يسبق إليها أحد،وأعظم ابتكاراته بنى خطبته بناء إسلاميا صرفا في هيكلها ومعناها،كما ذكر الباحث مصعب أن خطبه r تقوم على ثلاثة أعمدة هي: المقدمة، والاستهلال والغرض، والخاتمة، ومن قبل كان العرب يسردون خطبهم سردا حسب ما تقتضيه الحال بغير مقدمة ولا خاتمة.
يرجع الفضل إلى النبي r بأنه هو الذي افتتحها بالبسملة وهي عبارة إسلامية صرف لم يسبق إليها أحد في العصر السابق،وقد كان له أثر كبير في نفوس السامعين؛ لأنه أول مايطرق مسامعهم فضلاً عن أنه يؤثر في النفس البشرية،
وثاني ابتكاراته r أنه ابتدع كثيرا من المعاني والتعبير لم يسبق إليها أحد، رغم براعة العرب وقدرتهم على الكلام،كما قال مصفطى الرافعي:”فلا جرم كان r على حد الكفاية في قدرته على الوضع،والشقيق من الألفاظ،وانتزاع المذاهب الدينية،حتى اقتضب ألفاظا كثيرة،لم تسمع من العرب قبله،ولم توجد في متقدم كلامها،وهي تعد من حسنات البيان،لم يتفق لأحد مثلها في حسن بلاغتها،وقوة دلالتها،وغرابة القريحة اللغوية في تأليفها وتنضيدها،وكلها قد صار مثلا وأصبح ميراثا خالدا في البيان العربي كقوله :”مات حتف أنفه” وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما سمعت كلمة غريبة من العرب إلا وقد سمعتها من رسول الله r،وسمعته يقول :”مات حتف أنفه” وما سمعتها من عربي قبله[48] وقال الزيات ناهيك بما استحدثه عليه السلام من أساليب الدين وألفاظ الشريعة مما لم يأت به الكتاب[49]
ومن أمثلة ذلك ما يأتي:
قوله (ﷺ) : ((اليد العليا خير من اليد السفلى[50]))
اليد العليا كناية عن المنفقة واليد السفلى كناية عن الآخذة ،بين النبي r في أسلوب رشيق وجميل بأن المتصدق أولى وأفضل من الآخذة،كناية فريدة في نوعها،لم يسبق إليها أحد في هذا التعبير.
قوله r :(( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها..[51]))
إن هذه العبارة فصيحة مبدعة صدرت من لسان النبوة في بيان حقيقة الدنيا وملذاتها وأنهالذيذة حسنة في المذاق و ناعمة طرية محبوبة في المنظر ولكنها تزول وتفنى بسرعة كما يهلك الزرع. شبه حلاوة الدنيا في القلوب والعقول، بحلاوة الثمرة الطيبة في الأفواه،يتلذذ الإنسان بأكل الفاكهة الحلوة دقائق ثم يرمي قشورها في الزبالة كذلك الدنيا يتلذذ الإنسان في الدنيا سنوات قليلة ثم يتركها وراءه.
المطلب الثامن : الجزالة والرقة
الجزالة مأخوذة من الجَزْل: جَزُلَ الْحَطَبُ بِالضَّمِّ جَزَالَةً إذَا عَظُمَ وَغَلُظَ فَهُوَ جَزْلٌ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ فِي الْعَطَاءِ فَقِيلَ أَجْزَلَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ إذَا أَوْسَعَهُ وَفُلَانٌ جَزْلُ الرَّأْيِ[52] والجَزيلُ: العظيمُ. وعطاءٌ جَزْلٌ وجَزيلٌ، والجمع جِزالٌ. وفلانٌ جَزْلُ الرأي. وامرأةٌ جَزْلَةٌ بيّنةُ الجزالَةِ، إذا كانت ذاتَ رأي[53]. واللفظ الجَزْلُ: خلاف الركيك.
الجزالة في إصطلاح البلغاء : كلمة يقصد بها الشدة والقوة وهو خلاف الركيك وهي إبراز المعاني الشريفة في معارض من الألفاظ الأنيقة اللطيفة[54]
وقيل لخالد بن صفوان: ما البلاغة ؟ قال: إصابة المعنى، والقصد إلى الحجة،
وقيل لإبراهيم الإمام:ما البلاغة؟ قال: الجزالة، والإطالة، وهذا مذهب جماعة من الناس جلة، وبه كان ابن العميد يقول في منثوره[55]
وقد أثنى الأدباء على الكمات التي تمتاز بالجزالة حسب ما تقتضيه الحال،كما يقول الرافعي في معرض خصائص أشعار شعراء الأندلس :”لأن جزالة اللفظ في شعرهم إنما هي روعة موقعه وحلاوة ارتباطه بسائر أجزاء الجملة، وتلك فلسفة الجزالة…[56]“
وقد امتازت الحكم النبوية بالجزالة والقوة حسب ما تقضيه الحال كشدة الغضب عند مخالفة الأمر، عند الكلام عن أهوال القيامة والعقاب ،والعذاب، ومن أمثلة ذلك ما يأتي :
عن أبي ذر قال قال رسول الله r : ( إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون . وإن السماء أطت وحق لها أن اتئط . مافيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله . والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا . وما تلذذتم بالنساء على الفرشات . ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ) والله لوددت أني كنت شجرة تعضد [57]
[ شرح المفردات – ( أطت ) في النهاية الأطيط صوت الأقتاب وأطيط الإبل أصواتهم وحنينها . أي إن كتره ما فيها من المرئكة قد أثقلها حتى أكت . وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثم أطيط . وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى . ( الفرشات ) جمع فرش جمع فراش . ( الصعدات ) في النهاية هي الطرق . وهي جمع صعد . وصعد كظلمة وهي فناء باب الدار وممر الناس بين يديه . ( تجأرون ) أي ترفعون أصواتكم وتستغيثون . ( لوددت ) قال الحافظ هذا من قول أبي ذر مدرج في الحديث ( تعض ) بمعنى تقطع . ]
أما الرقة: فهي اللطف والسهولة، ورقة الحاشية، ونعومة الملمس،وهذه الخصيصة الأدبية من الخصائص الفريد للخطب النبوية .
وقال الجرجاني عن الرقة : ألفاظه كالماء في السلاسة، وكالنسيم في الرٍّقة، وكالعسل في الحلاوة، يريدون أن اللفظ لا يستغلِق ولا يشتبه معناه ولا يصعُب الوُقوف عليه، وليس هو بغريب وَحْشيّ يُستكرَه، لكونه غيرَ مألوف، أو ليس في حروفه تكريرٌ وتنافرٌ يُكَدُّ اللسانُ من أجلهما، فصارت لذلك كالماء الذي يسوغُ في الحلق، والنسيم يسري في البدن، ويتخلَّل المسالك اللطيفة منه، ويُهدي إلى القلب رَوْحاً، ويُوجد في الصدر انشراحاً…[58] ويُفيد النفس نشاطاً، وهذه الرقة تكون في الخطب عن الرحمة والمغفرة، والجنة ونعيمها.
بعض نماذج من جوامع كلمه النبوية التي اشتملت على الرقة تتمثل في نقاط تالية:
قوله r :((نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها، فربّ حامل فقهٍ لا فقه له ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه[59]))
ما أروع كلمة “نضر ” في الرقة !ونعومة الملمس والرقة في بيان فضل تبليغ العلم النافع ونشره.
امتازت هذه الأقوال الحكيمة بالسهولة واللطافة وعدم النكارة ،الكلمات تخرج من اللسان كالماء الجاري في النهر الجاري.
نستنتج من كل ما سبق من الأمثلة المذكورة أعلاه أن الحكم النبوية تمتاز بالرقة عند الكلام عن الجزاء، والنعم في الدارين، وهو عين البلاغة بأن يتكلم الرجل حسب ما تقتضيه الحال كما قيل:” لكل مقام مقال”.
المطلب التاسع : السهولة والوضوح
ومماتمتاز به الحكم النبوية “السهولة والوضوح”وهما خصيصتان رائعتان من الخصائص الفنية، وهما رمزا البلاغة والفصاحة.
سهولة مأخوذة من سَهُلَ الشيء بالضم (سُهُولَةً) نقيض الصعب، جاءت الخطب النبوية سهلة عذبة،لايُعيق وصول المعاني إلى الألباب صعوبة لفظ،أو غرابة كلمة لأنها تهدف إلى توضيح تشريعات إلهية ،والتمييز بين الحق والباطل،لأنه كلام خير البشر لخير الناس مؤيد بنصر الله ،وكلام أفصح العرب بلا منازع،وقد كان يختار ألفاظا سهلة ،بغير غرابة وتعقيد، وفصيحة لما كان الناس متفاوتين في الفهم والإدراك،وعلمه ربه أحسن تعليم،وأعطاه أسهل دين ، وكان يريد إيصال المعلومات من أقرب الطرق وأيسرها،لأن صلاح الناس ينحصر عليها،وبها يفوزون في الدنيا والآخرة،وقد اقتضت المصلحة العامة والمنفعة العامة أن تكون الخطب سهلة عذبة،وخالية من جميع التعقيدات ،هذه الخصيصة ظاهرة وواضحة ولا تحتاج إلى تمثيل لأنها مطردة، وذكر العقاد أيضا أن كلام النبي r يمتاز بالسهولة والوضح وعدم التقعيد والإعراب في معرض كلامه عند بلاغة النبي r تعتمد على ثلاثة أعمدة وهي تتمثل في نقاط تالية :
خلو الكلام من الكلفة والغموض والإغراب
خلو كلام النبي من الحشو والتكرار والزيادة
اجتماع المعاني الكبار في الكلمات القصار في قوله”أوتيت جوامع الكلم”[60]
ومن أمثلة الحكم النبوية التي تنطبق عليها صفة السهولة، وهي كما يأتي:
عن عائشة قالت قلت يا رسول الله والذين يؤتون ماء اتوا وقلوبهم وجلة . أهو الذي يزنى ويسرق ويشرب الخمر ؟ قال : ( لا يابنت أبي بكر ( أو يا بنت الصديق ) ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو يخاف أن لا تقبل منه ) [61]
[ الشرح – ( هو الرجل الذي يزني ) كأنها زعمت أنالخوف إنما يناسب الأعمال القبيحة دون الصالحة . فتحمل قوله يؤتون ما ماتوا أي يؤدون من الأعمال القبيحة ما أدوا في الجاهلية . ]
تميزت هذه الكلمات بكل الوضوح ،وخلت من كل غموض وتعقيد في المعنى أو في اللفظ،يستطيع كل فرد من الناس أن يفهم فحوى الخطبة بكل سهولة،ولا يحدث ولا يقع إلا ماشاء الله ولا ماشاء الناس.
اتسمت هذه الحكم النبوية بكل الوضوح في بيان قدرة الله وصفاته الكاملة،وخلت من كل التعقيد اللفظي والمعنوي. كما تميزت أقواله بالسهولة كذلك اتسم أسلوبه بالوضوح ،من غير غموض ولاخفاء،وخلت من كل بشاعة أو عيب ،وقد أشار النبي إلى هذه الخصيصة في الحديث الذي رواه ابن ماجه بسند صحيح مرفوعا :”قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك[62]
المطلب العاشر: حسن تركيب الجمل وانتقاء المفردات
وقد حوت كلمات الرسول ذات الحكيمة صنوف البلاغة، وألوان الجمال والفصاحة، ومن أبرز مظاهر بلاغته وفصاحته حسن تركيب الجمل وانتقاد المفرادت المناسبة للتعبير والتوضيح كما يقول عبد الرحمن حسن :”ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام حسن تركيب الجمل ،بتنظيم مفرداتها على وفق نسق متلائم لا تنافر فيه ولا تشاكس، كتنظيم حبات عقد اللؤلؤ من قبل منظم ماهر، وكتنظيم الجواهر على حلية نفيسة ،من قبل صائغ بارع،مع العناية بالتزام أصول دلالات التراكيب التي نبه عليها علماء المعاني.وكذلك انتقاء المفردات الجميلة التي تحمل أقوى وأحلى وأدق دلالة على المعنى المراد، مع توافر عنصر الملائمة بينها وبين مضمون الكلام بوجه عام، وحال المخاطبين به…”[63]
وأشار عبد القاد الجرجاني صاحب سر البلاغة إلى أن الفصاحة تنحصر على بناء الجملة وتنظيم الكلام ،وأن جمال البلاغة لا يقتصر على اللفظ و المعنى، وإنما في نظم الكلام، وبناء الجملة، ومواقع الإيجاز والإطناب، وضرورة مطابقة الكلام لمقتضى الحال،وقد ذكر البلاغيون شروطا تجب مراعاتها عند بناء الجملة ونظم الكلام لتكون الجملة فصيحة وبليغة، ومن أهم ما ذكروه ما يأتي:
أ. أن تكون حروف الكلمة متباعدة المخارج..
ب ـ أن لا تكون الكلمة غريبة متوعرة أو وحشية لا يمكن استيعابها وفهمها..
ج ـ ألا تكون الكلمة عامية مبتذلة تنفر منها الأسماع والأذواق..
ه. أن تكون الكلمة معتدلة في عدد حروفها[64]
كما نرى هذا في ما روي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله : ( إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها . وآخر أهل الجنة دخولا الجنة . رجل يخرج من النار حبوا . فيقال له اذهب فادخل الجنة . فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع . فيقول يا رب وجدتها ملأى . فيقول الله اذهب فادخل الجنة . فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملأى . فيقول الله سبحانه اذهب فادخل الجنة . فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يا رب إنها ملأى . فيقول الله اذهب فادخل الجنة . فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها ( أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا ) فيقول أتسخر بي ( أو أتضحك بي ) وأنت الملك ؟ ) قال فلقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه فكان يقال هذا أدنى أهل الجنة منزلا.[65]
نصوص الحكم النبوية المذكورة في الفصول و المباحث السابقة شاهدة على حسن تركيب الجمل وانتقاء المفردات المناسبة.
المطلب الحادي عشر : المرونة والسعة
المرونة والسعة: مَرَنَ الشّيءُ يَمْرُنُ مُرُونةً، إذا استمرّ، وهو لَيِّنٌ في صَلابةٍ. ومَرَنَتْ يَدُهُ على العمل: صَلُبَتْ واستَمَرَّتْ.. والمارِنُ من الرِّماح: ما لان.
والمقصود من المرونة اللين ضد الصلابة بأن أحاديث النبي تمتاز باللين وعدم الخشونة والتوسع والتعدد في المفاهيم ،وهذه الخصيصة الكبرى التي تميزت بها الحكم النبوية مما وسع على الأمة في العمل وأدى إلى الإضافة في التراث العربي، الكلمة الواحدة صالحة لمعان متعددة، فالكلمة ليست وقفاً على معنى معين لا تخرج عنه، بل هى صالحة لكل ما يراد بها ، ولأنه يثبت للعقل دوره في إدراك المعانى المختلفة من الكلمة الواحدة التى تستعمل في مقامات متعددة ومن أمثلة ذلك ما يأتي :
قوله r :(( وَتَجِىءُ فِتْنَةٌ فيرقق بعضها بعضا..[66]))
يصير بعضها رقيقا أي خفيفا لعظم ما بعده فالثاني يجعل الأول رقيقا وقيل معناه يشبه بعضها بعضا وقيل يدور بعضها في بعض ويذهب ويجئ وقيل معناه يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويلها[67]
قوله r :((إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يخفض القسط ويرفعه[68]))
قال ابن قتيبة : القِسط الميزان ، والمراد أن الله يخفض الميزان ويرفعه بما يِوزن من أعمال العباد المرتفعة إليه، وقيل المراد بالقسط الرزق الذي هو قسط كل مخلوق يخفضه فيقتره ويرفعه فيوسعه.
المطلب الثاني عشر : الإظهار في مواضع الإضمار
إن من السمات الأدبية التي تتسم بها الحكم النبوية الإظهار في مواضع الإضمار،وهو وجه بلاغي وأدبي يؤكد الكلام تأكيدا بالغا ويزيده رونقا وبهاء،والمقصود بالإظهار في مقام الإضمار قد يكون استخدام الضمير في الكلام هو المتبادر الذي يقتضيه ظاهر الأسلوب المعتاد،لكن قد يوجد داع بلاغي يستدعي استخدام الاسم الظاهر بدل استخدام الضمير ،وله أغراض بلاغية ذكرها عبد الرحمن صاحب الكتاب” البلاغة أسسها وفنونها” ومن أهمها ما يأتي:
1.التهكم باستخدام الاسم الظاهر كما يتبين من قوله تعالى:إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح…) والمعنى إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم الفتح ،وكان مقتضى الظاهر أن يكتفى بالضمير فيقال :”إن تستفتحوا فقد جاءكم “ولكن جيء بالاسم المظهر للتهكم بهم،لأن الفتح الذي جاء وهو النصر الذي جاءهم.
2.إدخال الروعة والمهابة في نفس المخاطب ومنه قول الله تعالى : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (سورة النساء:159)
إن مقتضى الظاهر يقتضي أن يقال: “فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّه يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”
وضع الاسم الظاهر لفظ الجلالة “الله ” في موضع الضمير لإدخال الروعة والمهابة في نفس المخاطب،نظرا إلى أن لفظ الجلالة يجمع كل صفات الكمال لله تعالى.[69]ومن أمثلة ذلك من الأحاديث النبوية ما يأتي :
عن عبد الله بن سعيد بن هند عن أبيه قال سمعت ابن عباس يقول قال رسول الله (ﷺ) ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ) [70]
[ الشرح – ( مغبون فيهما ) أي ذو خسران فيهما .
قال ابن الخازن النعمة ما ينتعم به الإنسان ويستلذه . والغبن أن يشتري بأعاف الثمن أو يبيع بدون ثمن المثل . فمن صح بدنه وتفرغ من الاشتغال العائقة ولم يسمع لصلاح آخرته فهو كالمغبون في البيع والمقصود بيان أن غالب الناس لا ينتفعون بالصحة والفراغ بل يصرفونهما في غير محالهما . فيصير كل واحد منهما في حقهم وبالا . ولو أنهم صرفوا كل واحد منهما في محله لكان خيرا لهم أي خير . ]
كما في قوله r : ((ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله..[71])) إن مقتضى الظاهر يقتضي أن يقال: ، ما كان من شرط ليس فيه ” وضع الاسم الظاهر لفظ الجلالة “الله” في موضع الضمير وذلك لإدخال الروعة والمهابة في نفس السامع،لأن لفظ الجلالة متصف بصفات الكمال يسبب الروعة والمهابة في قلوب الناس.
المطلب الثالث عشر : تنوع أساليب التوكيد
إن من عناصر الجمال الأدبي في الحكم النبوية توكيد الكلام بأساليب متنوعة،التنويع والتعديد في الأساليب أمر مرغوب ومحبوب لدى الأدباء،لأن الالتزام بطريقة واحدة في كلامه مما يجعل السامع تتلبد ويدب السأم إليه،ولذا سلك النبي مسالك شتى في توكيد الكلام.
التوكيد في اللغة :أصله شد السرج على ظهر الدابة بالسيور حتى لا يسقط،وتسمى هذه السيور تواكيد وتآكيد.ثم استعمل في في توثيق العهود.[72]
اصطلاحا :فقد عرف ابن جني بقوله :اعلم أن التوكيد لفظ يتبع الاسم المؤكد في إعرابه لرفع اللبس ،وإزالة الاتساع[73]
وقد احتاج النبي r إلى توكيد الكلام لأن العرب مع ثقتهم الكبيرة في شخصيته r ومعرفتهم له بالأمانة والصدق في كل ما يصدر عنه من خلال حياته بين ظهرانيهم وهم مع ذلك كله أمام نقطة تحول في تاريخهم ،وفي موقف لم يشهدوه في حياتهم فلن يستجيبوا لدعوة محمد r ولن يقبلوا لأنفسهم قلب معتقداتهم بيسر وسهولة لهذا عمد صلى الله إلى توكيد قوله بالقسم وبغيره من أنواع التوكيد التي وردت في الخطبة[74].
وأساليب توكيد النبي r تتمثل في نقاط تالية :
1.القسم بلفظ الجلالة :وقد استعان بالقسم كتوكيد الكلام وتوثيقه لما يقوله، القسم وهو أسلوب عرفه العرب منذ القدم، وسيلة من وسائل تأكيد القول أو الخبر لا سيما، إذا أريد العزم أو الإصرار على أمر من الأمور أو إلزام النفس بشيء معين، والناحية الثانية- ما يتركه المقسم به (لفظ الجلالة) من تأثير واضح في تصديق السامعين لما يعرض عليهم من أقوال ، وزيادة على ذلك، فإن القسم يحدث وقعاً بليغاً تهتز له النفوس،ومن أمثلة ذلك :
قوله r : ((واللهِ لَوْ كَذَبتُ النّاسَ جميعاً مَا كَذَبتكُمْ…[75]))
2.التوكيد بالنواسخ كـ إنَّ، لكن، وهي تدخل على المبتدأ والخبر ينصب المبتدأ ويرفع الخبر ويجعل الكلام مؤكدا ومن أمثلة ذلك :
قوله r : ((إِنّ الرّائد لا يكذب أهله….[76]))
3.التوكيد بالعبارة: ((الّلهمّ اشهد))وقد كررها النبي r في خطبة حجة الوداع مرات ،وهذا أسلوب توكيد فريد في نوعها، غرضه إلزام السامعين بالتوصيات أو التبليغات التي بلغها الرسول (r)).
4.التوكيد بأداة “ألا”التي ترد للتنبيه في فاتحة الكلام ،وتدخل على الجملتين الاسمية والفعلية .
كقوله r: ((ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية من دم أو مال تذكر وتدعى تحت قدمي ،إلا ما كان من سقاية الحاج ،وسدانة البيت[77]))
قد حسن التوكيد بأداة التنبيه “ألا” لأن الكلام في سياق النفي،وأكد النبي r بأبلغ التأكيد في تحريم التفاخر والقتل بغير حق،والتعدى على المال .
المطلب الرابع عشر : الكنايات اللطيفة
الكناية من الملامح البلاغية البارزة في الحكم النبوية ،وهي من ألطف أساليبِ البلاغة وأدقِّها، وهي مَظهرٌ من مظاهر البلاغةِ، وهي من أبدع وأجمل فنون الأدب، ولا يستطيع تصيُّد الجميل النادر منها، ووضعه في الموضع الملائم لمقتضى الحال إلاَّ أذكياء البلغاء وفطناؤهم، وممارسو التعبير عمّا يريدون التعبير عنه بطُرُقٍ جميلة بديعة غير مباشرة،أذكر فيمايلي نبذة عن الكناية مع التمثيل من الحكم النبوية الشريفة:
الكناية لغة: ما يتكلمُ به الإنسانُ، ويريد به غيره، وهي: مصدر كنيت، أو كنوت بكذا، عن كذا، إذا تركت التصريح به . كَنَى عَن الأمْر بغيره يَكْنِي كِنَايةً، أي: تكلّم بغيره ممّا يُسْتَدَلُّ به عليه. ويُقَالُ: تَكنَّى إذَا تَسَتَّرَ، مِنْ كَنَى عَنْهُ إذا وَرَّى.
واصطلاحاً: لفظٌ أريد به غيرُ معناهُ الذي وضعَ له، مع جواز إرادةِ المعنى الأصليِّ، لعدم وجود قرينةٍ مانعة من إرادته، نحو : « زيدٌ طويل ُالنجادُ » أريد بهذا التركيب أنه شجاعٌ عظيم، وطويل القامة وتنقسمُ الكنايةُ بحسبِ المعنى الذي تُشيرُ إليه إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
1-كنايةٌ عن صفةٍ : كما تقول :(فلانٌ نظيفُ اليدِ) تكني عن العفةِ والأمانةِ وكما في الحديث “لحم جمل غث “كناية عن قلة الخير ، ،و كما جاء في الحديث :”عظيم الرماد ” كناية عن الضيافة تعرف كنايةُ الصفة بذكر الموصوفِ: ملفوظاً أو ملحوظاً من سياق الكلام
2- كنايةٌ عن موصوفٍ :
كما تقولُ (الناطقينَ بالضادِ) تكني عن العربِ، و (دارُ السَّلام) تكني عن بغدادَ
3-كنايةٌ عن نسبةٍ:
الكنايةُ التي يراد بها نسبة ُأمرٍ لآخرَ، إثباتاً أو نفياً فيكون المكنَّى عنه نسبةً، أسنِدتْ إلى ماله اتصالٌ به – نحو قولنا عن شخص: ( العزُّ في بيتهِ ) فإن العزَّ ينسبُ للشخصِ وليس للبيت[78]
ومن عادات العرب أنهم كانوا يكنون عما يسيغ الأذان سماعه كقضاء الحاجة، وغيرها.وقد أحسن النبي استخدام الكنايات في خطبه العظيمة لبيان ما يسؤه من العادات السيئة ،وما يحبه من الخصال الحميدة .
ومن أمثلة ذلك ما يأتي :
قوله r:(( شر العمى عمى القلب [79]))
كلمة “عمى ” لا تقع إلا على فاقد البصر وهنا كناية عن الضلالة وعدم الاهتداء بالتعليمات الربانية.
قوله r :(يا أيها الناس خذوا من العلم قبل أن يقبض العلم[80])
قبض العلم كناية عن وفاة العلماء،قرن النبي r بين وفاة العلماء وذهاب العلم وفنائه.
قوله r : (وجعل فقره بين عينينه[81])
كناية عن الاحتياج إلى الخلق، فلا يشعر بالقناعة أبداً دائماً ولو كان عنده ما يكفيه فهو يريد الزيادة
المطلب الخامس عشر : الحذف الجميل وأثره في تعميم المعنى
الحذف مظهر من مظاهر الأدب والبلاغة،و هو فن بديع لا يقدر عليه إلا من رسخت أقدامه في اللغة والبيان كما يقول الإمام عبدالقاهر في بلاغة الحذف وأثره الجميل في تقوية الفكرة.
((هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فتلك ترى به ترك المذكور أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك انطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبين[82]))
الحذف خلاف الأصل ولكن متى ما وجدت قرينة تدل على المعنى وترجيح الحذف يرجحه ، وقد تنوعت أغراض الحذف في كلام العرب ومن أهمها ما يأتي:
1-الاحترازُ عن العبثِ – بناءً على الظاهرِ -كقولهِ: (زيدٌ أتى ثمَّ ذهبَ) ولم يقلْ (زيدٌ ذهبَ).
2 – ضيقُ الصَّدرِ عن إطالةِ الكلامِ ، بسببِ ما يُعرض للمتكلِّمِ من ضجرٍ أو حزنٍ كقول الشاعر: قَالَ لِي كَيْفَ أنْتَ قُلْتُ عَلِيلُ سَهرٌ دَائِمٌ وَحُزْن طَوِيلُ ولم يقل: (أنا عليلٌ) تضجّراً منْ علَّتهِ.
3-تَيَسُّر الإنكار ِإن مَسَّتْ إليه الحاجةُ: نحو «لئيمٌ خسيسٌ» بعد ذكر شخصٍ، لا تذكرُ اسمهُ ليتَأتَّى لكَ عند الحاجةِ أن تقولَ ما أردتُهُ ولا قصدتُهُ.
4- المحافظةُ على السَّجَعِ نحو: منْ طابَتْ سريرتُهُ، حُمِدَتْ سيرتُهُ
5-كونُ المسندِ إليه مُعيّناً معلوماً حقيقةً نحو قوله تعالى : (عالمُ الغَيْبِ والشَّهادة)(الأنعام: 73، التوبة: 94)أي اللهُ، أو معلوماً ادَّعاءً ، نحو: وهَّابُ الألوفِ أيْ فلانٌ.[83]
تظهر براعة النبي r في الكلام بأنه تعرض للحذف أثناء الخطبة في تعميم المعنى وتأكيده اقتداء بأسلوب القرآن ومن أمثلة ذلك مايأتي:
قوله r : ((ألا هل بلغت …[84]))
استغنى البيان النبوي عن ذكر المفعول به لأنه أراد أن يشهد الناس على التبليغ وأداء الأمانة ،فالمقام يقتضي ان يكون كلامه عاما ولو ذكر المفعول به لاقتصر المعنى مثل لو قال هل بلغت القرآن؟! المعنى أنه بلغ القرآن من غير ما يتعلق بالقرآن من شرح وتفسير.
قوله r :((… وأطعموا الطعام..[85]))
حذف المفعول به لتعميم المعنى والتقدير أطعموا المساكين والمحتاجين والفقراء وغيرهم الطعام،حذف المفعول به ،وقدسبب تعميم المعنى ولوذكر المفعول به لاختص المعنى بنوع واحد دون الآخر.
قوله r:((إنه لا يأتي الخير بالشر وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم إلا آكلة الخضراء[86]))
قد تم حذف المفعول به من الفعلين “يقتل” و”يلم” مما أدى إلى تعميم المعنى والمعنى أي حيوان يكثر الأكل في موسم الربيع إما يميته أو يقربه إلى الهلاك،ولو ذكر المفعول به لاختص المعنى بنوع من أنواع الحيوان.
هذا ما تبين لي و الله أعلم بالصواب وصلى الله على نبينا محمد و بارك وسلم و الحمد لله رب العالمين .
الهوامش
[1] -سنن ابن ماجة برقم 4208و أخرجه البخاري برقم 1409.
[2]-صحيح البخاري :349
[3] -شرح النووي على مسلم :1/294
[4] .البلاغة الواضحة لعلى ومصطفى أمين ص : 270
[5] .صبح الأعشى في صناعة الإنشاءلأحمد بن علي القلقشندي ص:1/234-235
[6] . تاريخ الرسل والملوك 2/ 395
[7] .سنن البيهقي الكبرى 3/206 برقم : 5544
[8] .صحيح البخاري 5/157 برقم : 4330
[9] .صحيح مسلم 1/371 برقم :523
[10] .شرح صحيح مسلم للنووي 5/5 برقم :523
[11] .لسان العرب 5/427
[12] . مفتاح العلوم للسكاكي ص:277
[13] . العمدة في محاسن الشعر وآدابه ص: ابن رشيق القيرواني 1/250
[14] .. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لضياء الدين بن الأثير 2/216
[15] .صحيح مسلم 2/886 برقم :1218
[16] .سنن ابن ماجة برقم : 2669،صححه الألباني
[17] .فتح الباري 13/540
[18] . البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 2/503
[19] . المصدر السابق 2/503
[21]سنن النسائي 8/42 برقم 4799
[22] . صحيح البخاري 3/73 برقم : 2168
[23] . سنن ابن ماجه 1/423 برقم : 1334
[24] . أسرار البلاغة لعبد القادر الجرجاني ص:115
[25] .الخصائص البلاغية للبيان النبوي :112
[26].الكامـل في التاريخ لابـن الأثير 1/659.
[27].صحيح البخاري 5/157 برقم : 4330
[28].البداية والنهاية 5/18
[29] . مسندالإمام أحمد: 32/384 برقم : 19606،: الترهيب والترغيب: 1/40 برقم :60
[30] . البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها لعبد الرحمن 2/375
[31] . ابن كثير في البداية والنهاية: 3/259
[32] . سنن البيهقي 3/ 215برقم :5595 ،زاد المعاد1/181
[33] .صحيح البخاري 5/157 برقم :4330
[34] .البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها لعبد الرحمن2/485
[35] مفتاح العلوم للسكاكي1/429
[36] الإيضاح، القزويني، 354.
[37] .الطراز للعلوي 2/185
[38] .البلاغة الواضحة ص:266
[39] .البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 487
[40] .أسرار البلاغة للجرجاني ص:7
[41].المغازي للواقدي 1/222
[42] . الكامـل في التاريخ لابـن الأثير 1/659.
[43] .المغازي للواقدي 1/221
[44] .صحيح مسلم 4/1996 برقم: 2578
[45] .سنن الترمذي 3/255 برقم:2101
[46] .الصحاح للجوهري :4/1623 وانظر مادة :أصل،المصباح المنير 1/16
[47] . الحديث النبوى مصطلحه وبلاغته وكتبه ص 98,97
[48] . إعجاز القرآن والبلاغة النبيوية ص :214
[49] .تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن زيات ص :181
[50] . البداية والنهاية 5/17، السيرة النبوية لابن كثير 4/25
[51] . سنن ابن ماجة برقم : 4000،ضعفه الألباني
[52] .المصباح المنير 1/99
[53] .الصحاح للجوهري 4/1655
[54] .جواهر الأدب أحمد الهاشمي 1/20
[55] . العمدة في محاسن الشعر وآدابه :1/245
[56] . تاريخ الأدب العربي للرافعي 2/266
[57] -سنن ابن ماجة برقم :4190، قال الشيخ الألباني : حسن دون قوله والله لوددت فإنه مدرج
[58] . أسرار البلاغة للجرجاني :93
[59] .سنن ابن ماجة برقم :236، قال الشيخ الألباني : صحيح
[60] بلاغة النبي د.اسماعيل نواهضة مجلة الإسراء ص:11 العدد السادس فلسطين
[61] -سنن ابن ماجة برقم :4198، قال الشيخ الألباني : حسن
[62] .سنن ابن ماجه 1/16 برقم :43
[63] . البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 1/106
[64] . المصدر السابق 1/15
[65] -سنن ابن ماجة : برقم :4339 و قال الشيخ الألباني : صحيح
[66] . صحيح مسلم 3/1472 برقم :1844
[67] . المنهاج شرح مسلم 12/233
[68] . صحيح مسلم 1/161 برقم :179
[69] . البلاغة العربية أسسها وعلومها 1/506،504
[70] -سنن ابن مجة برقم :4170، قال الشيخ الألباني : صحيح
[71] . صحيح البخاري 3/73 برقم : 2168
[72] . البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها 1/185
[73] .اللمع لابن جني ص:84
[74] . الأدب العربي في العصر الجاهلي وصدر الإسلام:220
[75] . جمهرة خطب العرب ،1/147 ،و الكامـل في التاريخ لابـن الأثير 1/659.
[76] . المصدر السابق
[77] .سنن أبي داؤود 4/304 برقم :4588
[78] .جواهر البلاغة 1/288
[79] . البداية والنهاية 5/17، السيرة النبوية لابن كثير 4/25
[80] . مسند الإمام أحمد 36/621 برقم : 22290
[81] . جمهرة خطب العرب 1/151
[83] .الخلاصة في علوم البلاغة :1/15
[84] . صحيح مسلم 3/1305 برقم : 1679
[85] . سنن ابن ماجه 1/423 برقم : 1334
[86] . البخاري 2/ 121برقم :1465؛ ومسلم 2/727 برقم :1052