Main Menu

الحوار عند بديع الزمان النورسي

 محمد أمين محمد الديرشوي

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. أما بعد.

فالباحث في مجال الحوار الإسلامي في العصر الحديث سيجد بأن هناك علماء ودعاة من المسلمين اهتموا بمجال الحوار ودعوا له واستخدموه بكافة قواعده وشروطه وآدابه في دعوتهم وخطبهم ومشاوراتهم.

ومن هؤلاء العلماء نجد عالماً بارزاً ظهر في وقت من الأوقات الحرجة في التاريخ الإسلامي وحمل على عاتقه مهمة الدعوة الإسلامية والدفاع عن القرآن الكريم في ظل موجة شرسة من الغرب تجاه الإسلام وبالأخص القرآن الكريم.

وهو الإمام بديع الزمان سعيد النورسي، الذي أولى اهتماماً كبيراً بالقرآن الكريم، تفسيراً وشرحاً وتطبيقاً وتدبراً لمعانيه وآياته، والقرآن الكريم اهتم بالحوار بمختلف أشكاله، فكان أن اهتم النورسي بدوره بالحوار وجعله منهجاً له في مسيرته الطويلة والزاخرة بالدفاع عن الدين الإسلامي في وجه المعتدين.

وفي هذا البحث الموجز سأتحدث عن الحوار عند النورسي، وسيكون على الشكل التالي، سأتحدث أولاً عن الحوار لغة واصطلاحاً ثم سأعرف بشخصية الإمام النورسي وحياته ومسيرته ومؤلفاته ووفاته.

ثم سأتحدث عن موقفه من الحوار وأقدم نماذج من الحوار من وحي سيرته وكتبه، ثم سأتكلم عن شروط وقواعد الحوار عند النورسي، وأخيراً عن موقفه من الحوار مع غير المسلمين.

والله أسأل التوفيق.

المبحث الأول : تعريف الحوار لغة واصطلاحاً والتعريف ببديع الزمان النورسي :

المطلب الأول : مفهوم الحوار في اللغة والاصطلاح :

  • الحوار في اللغة : أصله من الحور – بفتح الحاء وسكون الواو – وهو الرجوع عن الشيء ، وإلى الشيء.

ويقال : حار بمعنى رجع ، وهم يتحاورون أي يتراجعون ، وحاورته : راجعته الكلام ، والمحاورة : مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة : وكلمته فما حار جواباً[1].

فالحوار هو المراجعة في الكلام ، قال الإمام القرطبي : والله يسمع تحاوركما ، تحاورك أي تراجعك في الكلام[2].

ويقول الإمام الزمخشري : يحاوره أي يراجعه في الكلام من حار يحور إذا رجع ، وسألته فما أحار كلمة[3].

ومنه قوله تعالى : (( إنه ظن أن لن يحور )) ، أي رجع إلى ربه ، ويأتي الحوار بمعنى المجاوبة ، والتحاور التجاوب ، ويقال : كلمته فما أحار إلي جواباً ، وما رجع إلى حويراء ولا محورة ولا حواراً ، أي : ما رد جواباً[4].

وأحار عليه جوابه : رده وأحرت له جواباً ، وما أحرت بكلمة ، والاسم من المحاورة وفي القاموس المحيط : المحاورة : الجواب ، وتحاوروا : تراجعوا الكلام بينهم ، والتحاور التجاوب[5].

ويأتي الحوار بمعنى المخاطبة ، ويقول الإمام الطبري : قوله تعالى : (( وهو يحاوره )) وهو يخاطبه ويكلمه[6].

فالخطاب أصله الكلام بين اثنين فحاوره : راجعه في المنطق والكلام في المخاطبة ، وخاطبه مخاطبة : كلمه وراجعه في الكلام ، وتخاطبا : تراجعا في الكلام وتكالما ، والخطاب ما يكلم الرجل به صاحبه.

وإن الحوار هو تراجع الكلام ، والتجاوب فيه بالمخاطبة والرد ، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في الآيات السابقة ذكرها.

ومن خلال هذه المواضع التي جاء فيها ذكر كلمة الحوار : أن الحوار فيها هو مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين والأخذ والرد ، وتراجع الكلام والمخاطبة والمجاوبة فيه.

ويمكن أن يقال بأن الحوار له معان منها : المراجعة والتجاوب والخطاب[7].

  • الحوار اصطلاحاً :
  • نوع من الحديث بين شخصين أو فريقين ، يتم فيد تداول الكلام بينهما بطريقة متكافئة فلا يستأثر به أحدهما دون الآخر ، ويغلب عليه الهدوء والبعد عن الخصومة والتعصب[8].
  • وهو ضرب من الأدب وأسلوب من أساليبه ، وحالة من التفاعل والتجاوب والمجادلة.
  • وهو مراجعة الكلام والحديث بين طرفين ، ينتقل من الأول إلى الثاني ثم يعود إلى الأول وهكذا ، دون أن يكون بين هذين الطرفين ما يدل بالضرورة على وجوب الخصومة[9].

المطلب الثاني: التعريف ببديع الزمان النورسي:

أولاً: اسمه ومولده:

هو سعيد ميرزا النورسي، نسبة إلى قرية نورس التي تقع في ولاية بتليس أو بدليس شرق الأناضول، واشتهر بلقب بديع الزمان النورسي.

ولد سنة 1293 هجرية، الموافق سنة 1877 ميلادي، وسط أسرة كردية متدينة، متوسطة الحوال وتعمل في مجال الزراعة.

والده هو ميرزا بن علي والذي لقب بالصوفي، أما والدته فهي نورية بنت ملا طاهر والتي اشتهرت بالتقوى والصلاح[10].

ثانياً: نبذة عن حياته:

تعلم القرآن الكريم في صغره وتأثر بأخيه الأكبر عبد الله والذي فاق أقرانه في القرية في تحصيل العلوم والقراءة والكتابة، مما حدا به إلى الاهتمام بالعلم، فشد الرحال إلى القرى المجاورة لقريته نورس وتابع علومه في مدرسة الملا محمد أمين أفندي.

وزاد ميله للعلم أكثر بعد الرؤيا التي رآها وظلت راسخة في ذاكرته إلى آخر حياته، وذكر في سيرته الذاتية التالي:

لقد رأى في ما يرى النائم: أن القيامة قامت، والكائنات بعثت من جديد، ففكر كيف يتمكن من زيارة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ثم تذكر أن عليه الانتظار في بداية الصراط الذي يمر عليه كل فرد، فأسرع إليه… وهكذا مر به جميع الأنبياء والرسل الكرام فزارهم واحداً واحداً وقبل أيديهم وعندما حظي بزيارة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم هوى على يديه فقبلهما ثم طلب من العلم، فبشره الرسول صلى الله عليه وسلم: ((سيوهب لك علم القرآن ما لم تسأل أحداً))[11].

وبدأ الدراسة الجادة على يد أستاذه محمد جلالي في فترة لم تزد الثلاثة أشهر، ولكنها برغم قصرها إلا أنها شكلت نواة التكوين الفكري لديه، إذ أتم دراسة الكتب التي كانت مقررة في ذلك الوقت في المدارس الدينية.

وبعدها حاول النورسي خدمة الإسلام عبر الانخراط في الحياة السياسية ومحاولة التأثير فيها، وعبر دعوته للإصلاح السياسي والتعليمي في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وألقى خطباً في الجوامع والساحات، ونشر عدداً من المقالات السياسية العنيفة في جريدة وولقان، وحاول استمالة رجال الاتحاد والترقي وتسخيرهم لخدمة الإسلام والتصدي للتيارات المعادية.

رحل إلى وان وأقام فيها خمس عشرة سنة قضاها في التدريس وإرشاد القبائل والإصلاح بينها، ونجح في ذلك، وحاز على احترام وتقدير الجميع بما فيها الدولة.

وشعر بأنه مقصر في مجال العلوم الحديثة فحاول تعلمها والتمكن منها في فترة وجيزة، وكان أن اطلع على الجيولوجيا والكيمياء والفلك والجغرافيا والتاريخ والفلسفة إلى أن تمكن منها إلى حد ما وأصبح قادراً على التأليف في بعضها، ومناقشة المتخصصين في مجالاتها، ولحدة ذكائه ونبوغه العلمي ذاعت شهرته، فلقب ببديع الزمان.

وبعد أن علم بمحاولات الغرب بتشويه القرآن الكريم، غير اهتمامه الفكري وانصب على تعلم القرآن الكريم وإدراك معانيه وإثبات حقائقه، ولم يعرف بعد ذلك سوى القرآن هدفاً لعلمه وغاية لحياته، وأصبحت المعجزة المعنوية للقرآن الكريم دليلاً ومرشداً وأستاذاً له، وعد نفسه خادماً للقرآن.

وانتقد النورسي نظام الحكم، وسياسة الاستبداد المتبعة من السلطة، مما أثار ذلك غضب السلطة عليه وسجنه ومحاكمته.

واصطدم بحركة الاتحاد والترقي التي سيطرت على الأمور في تركيا وعزلت السلطان عبد الحميد وأعلنت العمل بالأحكام العرفية، ومحاسبة كل من يدعو إلى تطبيق الشريعة، وكان من بينهم النورسي، ولكنه خرج بريئاً من المحاكمة بعد أن لم تستطع إثبات أي تهمة عليه.

وبعدها مارس نشاطه في التدريس وتعليم الناس أمور دينهم وزار بلاد الشام وألقى فيها خطبة سميت بالخطبة الشامية.

ووقع في الأسر عندما تصدى لمواجه الجيش الروسي الزاحف على الحدود، وقد تمكن من التخلص من الأسر وعاد إلى إسطنبول وعين عضواً في دار الحكمة.

وهاجم الإنجليز هجوماً عنيفاً بسبب أطماعهم الاستعمارية، داعياً المسلمين إلى مقاومتهم ومحاربتهم.وبعد وصول أتاتورك إلى السلطة واتباعه سياسة محاربة الدين، نفى الشيخ سعيد النورسي إلى بلدة بارلا البعيدة عن المركز، ليتخلص من معارضته، ولكن الشيخ سعيد استغل فترة نفيه في كتابة رسائل النور وهي من أشهر مؤلفاته[12].

ثالثاً: وفاته:

مرض الشيخ سعيد مرضاً شديداً في أواخر حياته وفارق الحياة سنة 1379 هجرية، الموافق 1960 ميلادي، وقد توافد الناس من جميع أنحاء تركيا في الاشتراك في تشييعه وتوديعه حيث دفن في مقبرة أولو جامع، ثم قامت السلطات بنقل رفاته إلى أورفة ثم جهة أخرى غير معلومة إلى يومنا هذا[13].

رابعاً: مؤلفاته:

عرف الشيخ سعيد النورسي بغزارة الإنتاج في التأليف والنشر، وكان دافعه في ذلك القيام بواجبه تجاه وطنه وأهله بما أنه مصلح ومثقف وداع إلى الحق، ولأنه يتناول موضوع الإنسان في كتاباته وهمومه وحيرته الوجودية ومصيره، وكل ذلك عبر رسائل وكتابات كتبت بأسلوب سهل لاقت رواجاً عند الناس وإقبالاً عليها.

وهذه مجموعة من أشهر مؤلفاته:

1- رسائل النورالمكونة من خمس مجلدات:

  • أ‌- الكلمات.
  • ب‌- المكتوبات.
  • ت‌- اللمعات.
  • ث‌- الشعاعات.
  • ج‌- الملاحق.

2- الخطبة الشامية.

3- إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز

4- ذرة من شعاع هداية القرآن.

5- شعاعات من معرفة النبي صلى الله عليه وسلم.

6- المحاكمات.

7- صيقل الإسلام.

8- حقيقة التوحيد.

9- سيرة ذاتية.

10- عصا موسى[14].

المبحث الثاني: الحوار عند بديع الزمان النورسي:

المطلب الأول: موقف بديع الزمان النورسي من الحوار من خلال رسائل النور:

من خلال قراءة سيرة الشيخ النورسي نجد بأنه كان يهتم بالحوار في كتاباته ورسائله، فهو كان يدعو إلى الحوار والتواصل والإقناع والحجاج، وسيرته مليئة بخطاباته التي كان يحاور فيها ويحاجج ويقنع ويقتنع، ويتفاعل ويتواصل مع الآخرين.

والحوار كان على عدة أشكال فمنها:

  1. الحوار مع الذات.
  2. الحوار مع التلامذة الذين كانوا يقصدونه طلباً للعلم.
  3. الحوار مع العلماء.
  4. الحوار مع المسلمين.
  5. الحوار مع غير المسلمين ولا سيما النصارى.
  6. الحوار مع السلطات الحاكمة والقوى المركزية.

ويمكن اعتبار ذلك بأنه كان مهتماً كثيراً بالقرآن الكريم وكان منهجه منهج القرآن، منه يستمد مبادئه وأفكاره وخواطره التي ملأ بها كتبه ورسائله، والقرآن الكريم اهتم بالحوار اهتماماً كبيراً وقدم فيها مجالات شتى استمد منها العلماء آداب ومبادئ وشروط ومقاصد الحوار.

ونجد بأن رسائل النور التي ألفها الشيخ، استلهم فيها المعاني والمقاصد من القرآن الكريم، وهي على الشكل التالي:

  1. تملك رسائل النور بنية حوارية واضحة، وهي مجموعة من الحوارات المباشرة وغير المباشرة، الحوارات الصريحة أو المضمرة، الحوارات المنجزة الفعلية أو المفترضة المتخيلة.
  2. جاء الحوار في رسائل النور على أشكال عدة منها:
  • أ‌- حوار على شكل مناجاة أو مونولوج وهو حوار مع النفس.
  • ب‌- حوار على شكل مكاتيب ومراسلات مع الطلاب والتلامذة اللذين كانوا يقصدونه طلباً في العلم.
  • ت‌- حوار على شكل مناظرة أو مناقشة أو نقد، ويكون الغرض من ذلك إيصال فكرة ما أو معلومة هامة إلى القارئ.
  • ث‌- حوار على شكل جواب عن الأسئلة التي كانت ترد إليه من طلابه أو من غيرهم.
  1. توجد مادة حوارية ثرية في رسائل النور، وقد استخدمت مصطلحات مثل:

الحوار، المحاور، النقاش، الجدال، المناقشة، المناظرة، المذاكرة، الإقناع، الاقتناع، المناجاة، التشاور، الرسائل، المكاتيب، الأسئلة والأجوبة، وغيرها.

  1. المؤشرات الحوارية التي تدل دلالة أكيدة على أن رسائل النور هي مجموعة من الحوار ميزتها الكثرة والتنوع[15].

وقد تميزت رسائل النور بمجموعة حوارات كانت على الشكل الآتي:

  1. استخدم النورسي عبارات تعد عناوين فرعية داخلية من قبيل: حوار في رؤيا، حوار مع الشخصية المعنوية لأوروبا، حوار مع المؤمنات أخوات الآخرة، حوار مع النفس، حوار مع مجموعة من الشباب، حوار مع وزير شؤون العدل والحكام الذين لهم علاقة برسائل النور، خطاب إلى أوروبا، وغيرها.
  2. العبارات الإشارية الإحالية، مثل الضمائر وظروف المكان والزمان، وألفاظ القول والتي تكون على شكل: اعلموا، تعلمون، وتعابير مثل: إخوتي الأعزاء، أخي العزيز المحترم، أيها الإنسان، أيها الأخ القارئ لهذه الرسالة بإنصاف، يا صاحبي، يا نفسي، وغيرها[16].

المطلب الثاني: نماذج من الحوار في رسائل النور:

يمكن أن أورد هنا نماذج من الحوارات التي تزخر بها رسائل النور، منها:

  1. النموذج الأول: يقول النورسي مخاطباً أوروبا الثانية: يا أوروبا الثانية! اعلمي جيداً أنكِ قد أخذتِ بيمينك الفلسفة المضلة السقيمة، وبشمالك المدنية المضرة السفيهة، ثم تدعين أن سعادة الإنسان بهما. ألا شلت يداكِ، وبئستِ الهدية هديتكِ، ولتكن وبالاً عليكِ، وستكون.

أيتها الروح الخبيثة التي تنشر الكفر وتبث الجحود! ترى هل يمكن أن يسعد إنسان بمجرد تملكه ثروة طائلة، وترفله في زينة ظاهرة خادعة، وهو المصاب في روحه وفي وجدانه وفي عقله وفي قلبه بمصائب هائلة؟ وهل يمكن أن نطلق عليه أنه سعيد؟ ألا ترين أن من يئس من أمر جزئي، وانقطع رجاؤه من أمل وهمي، وخاب ظنه من عمل تافه، كيف يتحول خياله العذب مراً علقماً، وكيف يتعذب مما حوله من أوضاع لطيفة، فتضيق عليه الدنيا كالسجن بما رحبت! فكيف بمن أصيب بشؤمك بضربات الضلالة في أعمق أعماق قلبه، وفي أغوار روحه، حتى انقطعت -بتلك الضلالة- جميع آماله، فانشقت عنها جميع آلامه، فأي سعادة يمكنك أن تضمني لمثل هذا المسكين الشقي؟ وهي يمكن أن يطلق لمن روحه وقلبه يعذبان في جهنم، وجسمه فقط في جنة كاذبة زائلة.. أنه سعيد؟[17]

في هذا النص نجدالنورسي يخاطب أوروبا الثانية، وحتى نفهم المقصد من هذه التسمية، أوضح بأن الشيخ جعل أوروبا اثنتين:

  • أ‌- الأولى: هي أوروبا النافعة للبشرية، بما استفاضت من النصرانية الحقة، وأدت خدمات لحياة الإنسان الاجتماعية، وبما توصلت إليه من صناعات وعلوم تحدم العدل والإنصاف.
  • ب‌- الثانية: وهي التي تعفنت بظلمات الفلسفة الطبيعية وفسدت بالمادية الجاسية، وحسبت سيئات الحضارة حسنات لها، وتوهمت مساوءها فضائل، فساقت البشرية إلى السفاهة وأردتها الضلالة والتعاسة.

وقد وجه خطابه لأوروبا الثانية كما وصفها بالشخصية التي أخذت بيدها الفلسفة المضرة التافهة والحضارة الفاسدة السفيهة[18].

نجد في هذا النص بأنه يخاطب أوروبا بيا أوروبا الثانية! اعلمي جيداً، وكأنها يجسد أوروبا في شخصية ويخاطبها، ثم يوجه لها خطاباً شديد اللهجة بما أنها فسدت وأفسدت البشرية بمصطلحات مثل: ألا شلت يداكِ، وبئست الهدية هديتكِ، أيتها الروح الخبيثة التي تنشر الكفر وتبث الجمود.

  1. النموذج الثاني: دار حوار بين الشيخ النورسي وبين بطريرك الروم (آشنو كراس) سنة 1953 في الاحتفال الذي أقيم بإسطنبول بمناسبة مرور 500 عام على فتحها، وقد التقى خلالها الشيخ النورسي ببطريرك الروم، ودار بينهما الحوار التالي:

النورسي: يمكن أن تكونوا من أهل النجاة يوم القيامة إذا آمنتم بالدين النصراني الحق، بشرط الاعتراف بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبالاعتراف بالقرآن الكريم كتابًا من عند الله.

البطريرك: إني أعترف بذلك.

النورسي: حسناً، فهل تعلنون ذلك أمام الرؤساء الروحانيين الآخرين؟

البطريرك: أجل إنني أقول ذلك ولكنهم لا يقبلون[19].

في هذا النص نكتشف بأن النورسي حاول استمالة بطريرك الروم بحوار هادئ يركز على عناصر الوحدة والاختلاف بين الديانتين، ويأتي ذلك تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾(آل عمران:64)، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(العنكبوت:46).

  1. النموذج الثالث:يقول النورسي وهو يخاطب زملاءه في السجن:

يا إخوتي في الدين ويا زملائي في السجن!

لقد أخطر لقلبي أن أبين لكم حقيقة مهمة، تنقذكم بإذن الله من عذاب الدنيا والآخرة وهي كما أوضحها بمثال:

إن أحداً قد قتل شقيق شخص آخر أو أحد أقربائه، فهذا القتل الناجم من لذة غرور الانتقام التي لا تستغرق دقيقة واحدة تورثه مقاساة ملايين الدقائق من ضيق القلب وآلام السجن، وفي الوقت نفسه يظل أقرباء المقتول أيضاً في قلق دائم وتحين الفرص لأخذ الثأر، كلما فكروا بالقاتل ورأوا ذويه، فتضيع منهم لذة العمر ومتعة الحياة بما يكابدون من عذاب الخوف والقلق والحقد والغضب.

ولا علاج لهذا الأمر ولا دواء له إلا الصلح والمصالحة بينهما، وذلك الذي يأمر به القرآن الكريم، ويدعو إليه الحق والحقيقة، وفيه مصلحة الطرفين، وتقتضيه الإنسانية، ويحث عليه الإسلام[20].

في هذا النص نجد بأن النورسي، وهو في السجن، يحاور المسجونين بخطاب يمكن استخراج ما يلي منه:

  • خاطبهم بعبارة: يا إخوتي في الدين، ويا زملائي في السجن. وهذه العبارة تعد من باب الألفة والاستئناس.
  • بين لهم بأن في قلبه حقيقة مهمة ستنقذهم من عذاب الدنيا والآخرة، وهي باب الاطمئنان والتبشير لهم.
  • التحذير من القتل وأنه لا فائدة منه لأن لذته لا تستغرق دقيقة واحدة، في حين بأن ذلك يورثه مقاساة ملايين الدقائق من ضيق القلب وآلام السجن، وترقب ثأر أقرباء القتيل، وفي هذا نجده يستخدم أسلوب التحذير والمقارنة بين لذة جرم القتل وما يورثه من آلام ومتاعب بعد ذلك.
  • يشير عليهم بأن علاج هذا الأمر هو الصلح والمصالحة كما أمر به القرآن الكريم ويدعوا إليه الحق والحقيقة، وهنا نجده يستخدم أسلوب النصح والإرشاد.
  1. النموذج الرابع:

خصص النورسي في كتابه اللمعات صفحات حاور فيها النساء المؤمنات[21]، بعدما طلبن منه أن يلقي عليهم دروساً على غرار ما يلقى في المساجد من دروس الوعظ والإرشاد، ولكن النورسي حينها كان يعاني من أمراض عدة مع ضعف وإنهاك منعته من الكلام والدرس.

فكتب لهن ما يلزمهن من مسائل وخصصها في نكات[22] ثلاث:

  • أ‌- الأولى:

إن فداء الأم بروحها إنقاذاً لولدها من الهلاك من دون انتظار لأجر، وتضحيتها بنفسها بإخلاص حقيقي لأولادها باعتبار وظيفتها الفطرية، تدلان على وجود بطولة سامية رفيعة في النساء، بحيث يستطعن أن ينقذن حياتهن الدنيوية والأخروية بانكشاف هذه البطولة وانجلائها في أنفسهن، إلا أن تيارات فاسدة تحول دون ظهور تلك السجية القيمة القويمة وتمنع اكتشافها، أو تصرف تلك التيارات هذه السجية الطيبة إلى غير محالها فتسيء استعمالها[23].

  • ب‌- الثانية:

سمعت من بعض الأصدقاء شكاوى عن حياتهم الأسرية التي دبت الفساد فيها، ففتشت عن السبب الذي أدى إلى فسادها وعلمت أن هناك منظمات سرية تسعى لإضلال الشباب وإفسادهم بتذليل سبل الشهوات أمامهم وسوقهم إلى السفاهة والغواية لإفساد المجتمع الإسلامي، والتأثير في الغافلات من النساء اللطيفات ودفعهن إلى طرق خاطئة آثمة.

إن العلاج الناجع لإنقاذ سعادة النساء من الإفساد في دنياهن وأخراهن معاً، وإن الوسيلة الوحيدة لصون سجاياهن الراقية اللاتي في فطرتهن من الفساد، ليس إلا في تربيتهن تربية دينية ضمن نطاق الإسلام الشامل[24].

  • ت‌- الثالثة:

أخواتي العزيزات

اعلمن قطعاً أن الأذواق والمتع الخارجة عن حدود الشرع، فيها من الآلام والمتاعب أضعاف أضعاف لذائذها، فعليكن القناعة والاطمئنان والاكتفاء بما في حدود الشرع من أذواق ولذائذ، فملاطفة أولادكن الأبرياء ومداعبتهم ومجالستهم في بيوتكن متعة نزيهة تفضل مئات المرات متعة السينما[25].

واعلمن يقيناً، أن اللذة الحقيقية في هذه الدنيا إنا هي في الإيمان وفي حدود الإيمان، وأن في كل عمل صالح لذة معنوية، بينما في الضلالة والغي آلام منغصة في هذه الدنيا أيضاً[26].

المطلب الثالث: شروط وقواعد والحوار عند النورسي:

في كتاب (المكتوبات) نجد بديع الزمان النورسي يضع شروطاً للحوار بعدما عرض عليه حديث نبوي شريف، يقول:

أولا: إن الشرط الأول في مناقشة هذه المسائل وأمثالها هو:

أن تكون المذاكرة في جو من الإنصاف.. وأن تجرى بنية الوصول إلى الحق.. وبصورة لا تتسم بالعناد.. وبين من هم أهل للمناقشة.. دون أن تكون وسيلة لسوء الفهم وسوء التلقي.

فضمن هذه الشروط قد تكون مناقشة هذه المسألة[27] وما شابهها جائزة.

أما الدليل على أن المناقشة هي في سبيل الوصول إلى الحق فهو أن لا يحمل المناقش شيئاً في قلبه.. ولا يتألم ولا ينفعل إذا ما ظهر الحق على لسان الطرف المخالف له، بل عليه الرضى والاطمئنان، إذ قد تعلم ما كان يجهله، فلو ظهر الحق على لسانه لما ازداد علماً وربما أصابه غرور.

ثانياً: إن كان موضوع المناقشة حديثاً شريفاً فينبغي معرفة: مراتب الحديث.. والإحاطة بدرجات الوحي الضمني.. وأقسام الكلام النبوي.

ولا يجوز لأحد مناقشة مشكلات الحديث بين العوام من الناس.. ولا الدفاع عن رأيه إظهاراً للتفوق على الآخرين.. ولا البحث عن أدلة ترجح رأيه وتنمي غروره على الحق والإنصاف[28].

ويمكن استخراج شروط الحوار من النص على الشكل التالي:

1- الإنصاف.

2- نية الوصول إلى الحق.

3- عدم العناد.

4- التكافؤ والأهلية للحوار والمناقشة.

5- أن لا تكون وسيلة لسوء الفهم وسوء التلقي.

6- أن لا يحمل المناقش شيئاً في قلبه.

7- عدم الانفعال والتألم إذا انتصر الطرف الآخر بالحق.

8- الرضا والاطمئنان بذلك والتعلم منه.

9- أن لا يصيبه الغرور في حالة إذا انتصر على الطرف الآخر.

وقد قسم الباحث أبو بكر العزاوي قواعد الحوار في النص المذكور أعلاه على الشكل التالي:

1- قاعدة الشمولية: (ينبغي معرفة مراتب الحديث – الإحاطة بدرجات الوحي الضمني وأقسام الكلام النبوي).

2- قاعدة التأدب: المناقشة لا ينبغي أن تتسم بالعناد، وأن تجري في جو من الإنصاف.

3- قاعدة الورود أو المناسبة: أن تكون المذاكرة في المسائل المتخصصة بين من هم أهل للمناقشة.

4- القاعدة المتعلقة بالهدف والغاية من الحوار، فالمناقشة ينبغي أن تجري بنية الوصول إلى الحق، وأن يكون هناك تعاون حواري فعلي من أجل تحقيق هذا الهدف المنشود والغاية المرجوة.

والحديث الشريف الذي أثار الإشكال هو الذي يذكر فيه أن سيدنا موسى عليه السلام لطم عين سيدنا عزرائيل عليه السلام، فهل ننكر الحديث أم نأخذ بظاهر المعنى أم نؤول، أي نبحث عن معنى ضمني سياقي، وهذه المسألة تندرج هي الأخرى ضمن قواعد الحوار والنقاش العلمي، ولهذا يقول النورسي: (لا ينبغي فتح باب المناقشة في الأمور الفرعية الجزئية التي تسبب الخلاف)[29].

المطلب الرابع: الحوار مع غير المسلمين عند النورسي:

لم يقتصر حوار بديع الزمان النورسي مع المسلمين فقط وإنما كان يدعو غير المسلمين أيضاً، ويدعو إلى التواصل والتحاور معهم وإلى اللجوء إلى أسلوب الإقناع والحجاج والاستدلال، يقول مؤكداً على هذه النقطة:

“وليطمئن غير المسلمين بأن اتحادنا هو الهجوم على هذه الصفات الثلاث:

  • أ‌- الجهل.
  • ب‌- الحاجة.
  • ت‌- النفاق.

وبالنسبة إليهم فسبيلنا الإقناع، لأننا نعتقدهم مدنيين، وأننا مكلفون بأن نظهر الإسلام بمظهر الجمال والحسن المحبوب لأننا نظن فيهم الإنصاف”[30].

وفي نص آخر يقول:

“إن الظهور على المدنيين من منظور الدين إنما هو بالإقناع وليس بالإكراه، وبإظهار الإسلام محبوباً وسامياً لديهم وذلك بالامتثال الجميل للأوامر وإظهار الأخلاق الفاضلة”[31].

ومن خلال هذين النصين نجد بأن بديع الزمان النورسي يدعو إلى اعتماد قوة المنطق لا منطق القوة، وذلك لأن الدين الإسلامي يدعو إلى الحوار والحجاج والإقناع، وليس الإكراه والعداء، وفي القرآن الكريم يقول الله عز وجل: ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)) البقرة 256 ، وهنا نجد بأن لا في قوله تعالى هي لا النافية وليست الناهية.

والنورسي يدعو إلى الحوار والتفاعل والتواصل مع غير المسلمين ضمن الشروط الحوارية والتخاطبية المطلوبة، وهذا بحكم العلاقة القائمة بين الحوار والحجاج، فالأصل في الحجاج هو إنجاح الحوار وتدبير الاختلاف ورفع الخلاف وتحقيق الاتفاق، ولولا الاختلاف لم يكن هناك حوار، ولولا الحوار لم يكن هناك إقناع وحجاج، ولولا الحجاج ما كان هناك خطاب وكلام.

إن الحجاج نسبي والإقناع جزئي، والمطلوب منا أن نحاور ونبرهن ونقنع باستمرار، فإن كان نتيجة ذلك أن اقتنع الغير فذلك هو المطلوب، وإن لم يقتنع فلنحاول مرة تلو أخرى، ويقول بديع الزمان:

“إن وظيفتنا العمل والإيمان بإخلاص، أما إحراز التوفيق وحمل الناس على القبول ودفع المعارضين، فهو مما يتولاه الله، نحن لا نتدخل في ما هو موكول إلى الله، حتى إذا غلبنا فلا يؤثر هذا في قوانا المعنوية وخدماتنا”[32].

وقد دعا النورسي إلى الحوار العقائدي بين المذاهب والأديان والملل والنحل، وقد وجد بأن أهل الأديان الأخرى وخصوصاً الكتابية، هم أحوج إلى سماع القرآن وتدبر معانيه فكان يدعوهم ب(يا أهل الكتاب) ويتلو عليهم الآيات القرآنية ويحاورهم، كما في النموذج الثاني الذي ذكرته في السابق.

والحوار بين الأديان ليس وسيلة للتبشير أو الدعاية الدينية أو إجبار الغير على معانقة دين معين بل هو مناسبة لإصغاء إلى الغير وفهم القيم الروحية التي تكون القالب الذي يؤدي حياته فيه فمن الضروري أن نشير هنا إلى أن الحوار الذي يجري بين المسيحيين والمسلمين في النصف الثاني من القرن الماضي، هو حوار بين الناس الذين يتبعون المسيحية ويؤمنون بها وبين الناس الذي يتبعون الإسلام ويؤمنون به وليس بالنقاش أو الجدال حول عقيدة أو أخرى وأفضلية هذه على تلك العقائد، بل الحوار في تحقيق السلام بينهم مؤسساً على الشفقة والمحبة.

وكان بديع الزمان النورسي قد عبر عن هذه الأفكار قبل أن تتبلور فكرة الحوار ما بين الأديان اليوم، وقد أعطى تعريفاً لهذا النوع من الحوار مؤكداً على عدم إكراه الغير على الدخول في دين آخر، بل الشيء الوحيد المطلوب منه هو الاستماع وإكمال معلوماته الدينية وفي نهاية المطاف تبقى له حرية الاختيار، إن فيه إشارة إلى تشويق أهل الكتاب على الإيمان وتأنيسهم والتسهيل عليهم، كأنه يقول:

“لا تشقن عليكم الدخول في هذا السلك، إذ لا تخرجون عن قشركم بالمرة بل إنما تكملون معتقداتكم، وتبنون على ما هو مؤسس لديكم”[33].

وفي النورسي يرى بأن القرآن وهو الكتاب المقدس في الإسلام الذي هو دين من الأديان السماوية أو الإبراهيمية الثلاثة إلى جانب اليهودية والمسيحية، يأتي كتتويج على كل ما سبق تنزيله وهو مجوهر كل محاسن الكتب التي سبقته:

“إذ القرآن معدل ومكمل في الأصول والعقائد، وجامع لجميع محاسن الكتب السابقة وأصول الشرائع السالفة، إلا أنه مؤسس في التفرعات التي تتحول بتأثير تغير الزمان والمكان”[34].

فيخاطب في القرآن الكريم أتباع الأديان الإبراهيمية الثلاثة قائلاً: (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ)) المائدة 68 ، وبالإضافة لما سبق فإن القرآن جعل ثاني أكبر سور القرآن (آل عمران) أي والد مريم وأسرته، وذلك في جو من التقديس والتبجيل، وسورة أخرى باسم (مريم) الصديقة الطاهرة، في جو من التكريم والاحترام.

هذه الوحدة التي تشمل كل الأديان السماوية كما يتبين من الآيات القرآنية تعد قاعدة قوية لمباشرة الحوار الذي ينوي المسلم أن يجريه مع اليهود أو النصارى، أخذاً بعين الاعتبار إيمانه بكل ما نزل إلى المرسلين الذي سبقوا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى في كتابه : ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰوَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) البقرة 136 .

هذه النقاط المشتركة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية هي التي تضمن إمكانية العمل المشترك بين المسلمين والمسيحيين ضد الإلحاد بناء على حقيقة مشتركة بين الديانتين وهي التقاؤهما في الإيمان بحقائق أبدية، ونظراً إلى نشاطات سعيد النورسي في مجال الحوار الإسلامي المسيحي، فمن الممكن وصف هذا الحوار بنوعين:

  • أ‌- الحوار الداخلي: ويقصد به الحوار الذي يجري بين أبناء قطر واحد تربطهم نفس التراكيب الثقافية والتاريخ المشترك.
  • ب‌- الحوار الخارجي: وهو الحوار الذي يجري بين أبناء حضارات شتى وأقطار تنتمي إلى ثقافات متنوعة.

وتطبيقاً للحوار الداخلي الذي يستهدف في منظر النورسي التفاهم حول المواقف المشتركة لتشديد الإيمان في صفوف الناس بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية.

وقد قام النورسي في عام 1953 بزيارة بطريرك أثيناغوراس في مقره الواقع في استانبول لإيجاد سبل تعاون بين مسلمي ومسيحي تركيا لمواجهة الاتجاهات الإلحادية المعدية التي بدأت تغزو تركيا كذلك، أما في الحوار الخارجي، فهو لإنشاء تعاون بين الأمم، بذل النورسي جهوداً لإقامة علاقات ودية متينة مع المسيحيين في أوروبا.

والنورسي كان يعد المؤمنين من المسلمين والمسيحيين بأن يتحدوا أمام عدوهم المشترك وهو الإلحاد الذي ينتشر بسرعة في كافة المجتمعات المعاصرة مهما كان الدين السائد فيها أصلاً.

وفي عام 1946 وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية دعا النورسي كل المؤمنين أن يتحدوا ليس مع المسلمين فقط وإنما مع المتدينين المسيحيين كذلك لإبعاد القضاء على عدوهم المشترك وهو الإلحاد والزندقة.

يقول:

“لقد ثبت في الحديث الصحيح أن المتدينين الحقيقيين من النصارى سيتفقون في آخر الزمان مستندين إلى أهل القرآن للوقوف معاً تجاه عدوهم المشترك الزندقة، لذا فأهل الإيمان والحقيقة في زماننا هذا ليسوا بحاجة إلى الاتفاق الخالص فيما بينهم وحده، بل مدعوون أيضاً إلى الاتفاق حتى مع الروحانيين المتدينين الحقيقيين من النصارى، فيتركوا مؤقتاً كل ما يثير الخلافات والمناقشات دفعاً لعدوهم المشترك الملحد المعتدي”[35].

الخاتمة:

وفي الخاتمة سأبرز أهم النتائج التي توصلت إليها خلال البحث:

1- اهتم بديع الزمان النورسي منذ نشأته بالقرآن الكريم، واتخذه منهجاً له في حياته وعمله ودعوته، وكان نتيجة ذلك أن اهتم بمجال الحوار وطبقه ودعا إليه.

2- مر في حياته بعدة مراحل منها مراحل التعلم والتعليم والمشاركة في الحرب ثم وقوعه في الأسر عدة مرات، ثم محاولاته السياسية لإصلاح الأمور في المجتمع، واصطدامه بالسلطات ونفيه.

3- كتب رسائل النور وهي أعظم ما كتب فهي حوت تفسيراً قيماً للقرآن الكريم ولمعة براقة من لمعات إعجازه المعنوي، ورشحة من رشحات ذلك البحر، وشعاع من تلك الشمس، وحقيقة ملهمة من كنز علم الحقيقة، وترجمة معنوية نابعة من فيوضاته[36].

3- تعد رسائل النور من المؤلفات التي تناولت الحوار بمختلف أشكاله، فكان النورسي يحاور فيها ذاته أولاً، ويحاور تلاميذه ومريديه وأهله وشعبه ويحاور الآخر غير المسلم.

4- استخدم النورسي الحوار على أشكال منها حوار على شكل مناجاة أو حوار مع النفس، وحار على شكل مكاتيب ومراسلات مع الطلاب والتلامذة والمريدين، وحوار على شكل مناظرة أو مناقشة أو نقد أو جواب عن الأسئلة التي ترد إليه.

5- وضع النورسي شروطاً وقواعد للحوار، منها أن يكون الحوار في جو من الإنصاف وأن تجرى بنية الوصول إلى الحق، والابتعاد عن العناد، وعدم الانفعال، وإعطاء المجال للآخر للحديث وعدم التألم إذا ظهر الحق على يد الآخر.

6- دعا النورسي للحوار مع الآخر غير المسلم، وكان يدعو إلى التواصل والتحاور معهم وإلى اللجوء إلى أسلوب الإقناع والحجاج والاستدلال، وعدم الإكراه.

7- دعا النورسي إلى الحوار العقائدي بين المذاهب والأديان والملل والنحل، وأن هذه فرصة لكي يتم التقارب بينهم.

8- عد الحوار بين الأديان مناسبة للإصغاء للغير وفهم القيم الروحية وعدم إكراه على اعتناق أي دين، وأن يستخدم الحوار في تحقيق السلام والرحمة والمحبة بين أهل الأديان.

9- دعا إلى الحوار بين المسلمين والمسيحيين وأن يتحد المؤمنين منهم مع بعض لكي يواجهوا الإلحاد والزندقة.

10- ترك النورسي إرثاً كبيراً من المؤلفات والكتب التي توجد فيها مادة كبيرة للحوار، وهي مناسبة لكي يهتم بها الباحثين ويستخرجوا أهم الفوائد والعبر التي ستثري المكتبة الإسلامية، والتي تفتقر إلى مجال الحوار مقارنة باللغات الأخرى.

11- أكد على دور النساء في بناء المجتمع ونهضته وأنهن مخلوقات مباركات خلقن ليكن منشأ للأخلاق الفاضلة والتربية الصالحة القويمة.

المصادر والمراجع:

1- النورسي، بديع الزمان: سيرة ذاتية، شركة سوزلر للنشر، القاهرة، الطبعة السادسة سنة 2011 ميلادي.

2- النورسي، بديع الزمان: اللمعات، شركة سوزلر للنشر، القاهرة، الطبعة السادسة سنة 2011 ميلادي.

3- النورسي، بديع الزمان: الكلمات، شركة سوزلر للنشر، القاهرة، الطبعة السادسة سنة 2011 ميلادي.

4- النورسي، بديع الزمان: المكتوبات، شركة سوزلر للنشر، القاهرة، الطبعة السادسة سنة 2011 ميلادي.

5- النورسي، بديع الزمان: إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، شركة سوزلر للنشر، القاهرة، الطبعة السادسة سنة 2011 ميلادي.

6- العزاوي، أبو بكر: النورسي رجل الحوار والإقناع، النور للدراسات الحضارية والفكرية، السنة الخامسة، يوليو 2014 العدد 10

7- SujiatZubaidiSaleh ، أسلوب الحوار القرآني بين المسلمين والنصارى عند بديع الزمان سعيد النورسي، Jurnal TSAQAFAH ، المجلد العاشر ، العدد الثاني نوفمبر 2014

8- الحجري، حمادي: بديع الزمان سعيد النورسي ومنهجه الفكري الإصلاحي في تركيا من خلال كليات رسائل النور، رسالة ماجستير جامعة الزيتونة ، سنة 2000

9- أبو حليوه، إبراهيم سليم: بديع الزمان النورسي وتحديات عصره، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 2010

[1]ابن منظور ، لسان العرب مجلد 4 ص 217 والفيروزآبادي ، القاموس المحيط مجلد 2 صفحة 15

[2]القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مجلد 17 صفحة 272

[3]الزمخشري ، الكشاف ، مجلد 4 صفحة 484

[4]الجوهري ، الصحاح ، مجلد 2 صفحة 638

[5]الجوهري ، القاموس المحيط ، مجلد 2 صفحة 16

[6]الطبري ، جامع البيان ، مجلد 15 صفحة 47

[7]عوض، أحمد عبده: الحوار في الإسلام ، صفحة 19

[8]الندوة العالمية للشباب في أصول الحوار ، صفحة 11

[9]المرجع السابق صفحة 12

[10]النورسي، بديع الزمان، سيرة ذاتية، شركة سوزلر للنشر، القاهرة، الطبعة السادسة سنة 2011 م، صفحة 58

[11]المرجع السابق صفحة 67

[12]أبو حليوه، إبراهيم سليم، بديع الزمان النورسي وتحديات عصره، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 2010 م، صفحة 47

[13]المرجع السابق صفحة 54

[14]الحجري،حمادي، بديع الزمان سعيد النورسي ومنهجه الفكري الإصلاحي في تركيا من خلال كليات رسائل النور، صفحة 48

[15]العزاوي، أبو بكر، النورسي رجل الحوار أو الإقناع، صفحة 4

[16]المرجع السابق صفحة 4

[17]النورسي، بديع الزمان، اللمعات، صفحة 163

[18]المرجع السابق صفحة 162

[19]العزاوي، أبو بكر، النورسي رجل الحوار أو الإقناع، صفحة 5 ، نقلاً عن كتاب بديع الزمان النورسي لإحسان قاسم الصالحي.

[20]النورسي، الكلمات، صفحة 167

[21]باسم: حوار مع المؤمنات، أخواتي في الآخرة

[22]النكتة من معانيها في اللعة: الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس.

[23]اللمعات صفحة 281

[24]المرجع السابق صفحة 283 بتصرف

[25]من خلال حديثه السابق نجد بأنه كتب هذه الرسالة في فترة الخمسينات من القرن الماضي، وهي فترة انتشار كبير للسينما وإقبال عليها كثيف من الشباب والشابات، وتتميز هذه الفترة عما قبلها أن قدمت فيها الأفلام بالألوان الطبيعية، مما أدى إلى الإقبال عليها أكثر من السابق.

[26]اللمعات صفحة 286

[27]يقصد مسألة الحديث النبوي الذي عرض عليه.

[28]النورسي، المكتوبات، صفحة 439

[29]العزاوي، أبو بكر، النورسي رجل الحوار أو الإقناع، صفحة 8

[30]أسلوب الحوار القرآني بين المسلمين والنصارى عند بديع الزمان، SujiatZubaidiSaleh ، صفحة 433

[31]المرجع السابق صفحة 433

[32]المرجع السابق صفحة 435

[33]المرجع السابق صفحة 437 ، وقول النورسي من كتابه إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز صفحة 590

[34]المرجع السابق صفحة 438 ، وقول النورسي من كتابه إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز صفحة 591

[35]المرجع السابق صفحة 439 ، وقول النورسي من كتابه اللمعات صفحة 229

[36]النورسي، كتاب الملاحق صفحة 202