Main Menu

الحركة الاشتراكية وأثرها على الأدبين العربي والأردي في القرن العشرين

 الحافظ محمد شرف الدين

باحث الدكتوراة قسم اللغة البية الشرقية

الجامعة العثمانية  بحيدر آباد الهند

الملخص

بدأت إرهاصات التناول الاشتراكي في الأدب العربي في فترة مبكرة من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ثم بدأ مد الحركة الاشتراكية في الأدبين العربي والأردي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهي فترة ظهور كبار أدبائها ومنظريها، ثم اتسع نطاق انتشارها في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم مع اندلاع حركات التحرر الوطني، وتتابع الثورات السياسية، ونهجت نحو الالتزام الثوري في معالجة أوضاع المجتمعات، ومالت إلى نصرة قضايا الطبقة العاملة دون سواها، ثم إنه بسبب غلوها في الالتصاق بالواقع الاجتماعي برز منتقدوها وبدأ عهد انحسارها.

إرهاصات وبدايات التأثر

   من مبكري الميول الاشتراكية في الأدب العربي يأتي الأديب محمد توفيق البكري، المتوفي سنة 1932م ([1])، ولعل ميول الاشتراكية قد تبدتمن خلال نظرته إلى الحكام، وإلى أبناء الخاصة، وآراؤه الاشتراكية، فقد كان التنافس على أشده في تلك الأيام بين أبناء الذوات من الأتراك وأبناء السادة من المصريين، ولعل البكري أراد أن يغمز الأتراك غمزة قوية، ويصورهم هذه الصور الزرية لشدة تعسفهم ومباهاتهم الجوفاء، بيد أن نزعته الاشتراكية تظهر في عطفه على العامة حين يقول([2]):

“وأما العامة، أيدك الله، فهو عظم على وضم، وصيد في غير حرم، سيد مأمور، والإخشيد في يد كافور، ويتيم غني في يد وصي”.

   وبتلك الكلمات تبدو عاطفة البكري القوية نحو الفقراء، وكيف صور بؤسهم وفاقتهم، وظلم الطبقة الحاكمة وذوي الثراء لهم، ولقد كانت هذه آراء متقدمة على زمانه، ولا سيما في مصر حيث يسود الإقطاع بظاهر الاستعمار.

وكان بعض تلاميذه قد تأثر بدعوته إلى الإصلاح الاجتماعي مثل عبد الله النديم، وكان خطيبًا مفوَّهًا من خطباء الثورة العرابية، وكأنها كانت متنفسًا عنده لثورته وحدة عاطفته الوطنية، وكان أحيانًا يُجْري مقالاته في جوانب اجتماعية إصلاحية([3]).

   ثم تلاه في الميول الاشتراكية مصطفى المنفلوطي، وكان أهم موضوع حظي من المنفلوطي بعنايته، وحشد له كل عواطفه وحماسته، هو موضوع الفاقة والبؤس والفقر تلك التي كان يتردى فيها سواد الشعب، وقد قرب في معالجته لهذا الداء المستفحل إلى حد الاشتراكية، وإن لم يدركها تمام الإدراك، وقد ابتدأ المنفلوطي يدبج مقالاته منذ أواخر سنة 1907 وكان التفاوت حينها بين الفئة القليلة الثرية، وبين سواد الشعب في كل مظاهر الحياة، فلا بدع إذا أحس الأدباء ذوو الضمائر الحية والعاطفة القوية بعظم مأساة هذا الشعب، وحاولوا جهدهم أن يصوروا آلامه المبرحة التي طال عليها الأمد قرونًا طويلة، وكان المنفلوطي قد عاش في الريف وخالط الناس البسطاء، وعرف أحوالهم الاجتماعية، وكان جياش العاطفة سريع العبرة، ينفطر قلبه لبكاء المحزونين، ويشق على أذنه نداء المكروبين، ما حفزه على الإكثار من وصف مناظر البؤس، والشقاء([4]).

 

تطور الحركة الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية

   بدأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية مرحلة جديدة في الحياة الفكرية والأدبية، ففي سنواتها عرف كثير مما كان مجهولًا عن الاشتراكية وفكرها، وأدبها، وفي أعقابها أخذ الاتجاه الواقعي الاشتراكي يجذب طائفة من المفكرين والأدباء العرب، ولم يعد الفكر والأدب الغربيهو من ينفرد بالتأثير، كما كان الحال قبل تلك الحرب، وإنما ظهر مؤثر جديد له قوته، وفعاليته في الأدب العرب، بالإضافة إلى ما وفد من مذاهب واتجاهات غربية، وما نشأ من قيم وأفكار منذ تلك الحرب غيرت الكثير من الغرب، وما نشأ من قيم وأفكار غيرت الكثير من المقررات والمواضعات، الأمر الذي يجعل منها نقطة لعصر، ونقطة ابتداء لعصر جديد([5]).

ووقفت مصر من البلاد العربية موقف الريادة، فتحررت شعوب، وثارت أخرى، وانعكس هذا على حياتنا الفكرية، وبدأ الكتاب يستعيدون مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة، وصاغوا ذلك في ثوب جديد من الحركة الاشتراكية الحريصة على تحقيق الكفاية والعدل، وتمكن الكتاب خلال هذه التجربة الحية من ممارسة الحرية والشعور بها، وانطلقوا في كتاباتهم دون الوقوف عند حد، فأتوا بالجديد في الأدب والفكر([6]).

وحفل هذا الطور بنفر من الكتاب اللامعين من أمثال: محمود أبو الفتح، وميخائيل نعيمة، وعلي مصطفى أمين، ومحمد التابعي، ومحمد حسنين هيكل، وزكي نجيب محمود، وأحمد بهاء الدين، وحسين فوزي، ولويس عوض، ومحمد زكي عبد القادر، وأحمد الصاوي، وعلي حمدي الجمال، وغيرهم ممن استلهموا ثقافاتهم من ينابيع شتى، ويعملون بجد ونشاط في حياة الفكر المعاصر، ولا نستطيع أن ندخل كتاباتهم التاريخ حتى تستكمل آثارها، ويصبح لها طابع فني يؤهلها للحكم عليها، ومن أبرزهم سلامة موسى الذيتأثر بالعديد من مفكري الغرب ومن بينهم”كارل ماركس” حامل لواء الاشتراكية([7]).

ويقابلهم في الأدب الأردي أسماء لامعة، من مثل الأدباء فيض أحمد فيض، علي سردار جعفري، سجاد ظهير، كيفي أعظمي، كرشن جندر، أحمد نديم قاسمي، مخدوم محيي الدين، عابد علي خان، وغيرهم ممن عبروا عن الفكر الواقعي الاشتراكي في أعمالهم الأدبية شعرا ونثرا، وسيطرت على كثير منهم موضوعات الاضطراب الاجتماعي،والشكوى من الظلم المجتمعي ([8]).

وبلغ صعود الحركة الاشتراكية ذروتها وانتشارها على نطاق واسع في أرجاء العالم العربي في الخمسينيات والستينيات؛فقد وجدت سبيلها للتألق والبروز، وأصبحت المذهب الأدبي والنقدي السائد، وهيأ لذلك المناخ الذي خلقته الثورات في بقاع شتى من الوطن العربي ([9])،وبذلك ظهرتالحركة الاشتراكية الثوريةذات اتصال وثيق بتطور الشعر الحديث، وبرسم الوجهات التي يسير فيها، وهيحركة عملية تعتمد تنظيما واعيا، وتؤمن بأن العمل هو الرابطة بين الإنسان والطبيعة، وتحتكم إلى التاريخ، وما دام التحول الاجتماعيالمادي هو الذي يخلق الأشكال الفكرية حسب رؤية المادية التاريخية فإن المنادين بالحركة الاشتراكية يعتقدون أن الثورة هي المهمة الضرورية الوحيدة للإنسان، ويعد الفن؟ ولاسيما الشعرجزءا من النشاطات الإنسانية التي تحقق تلك الثورة لدى الاشتراكيين.

   إن هذا التيار الثوري قد أثر بعمق في الشعر العربي المعاصر، وبني مفهومه للأدب والشعر على أساس من الالتزام، ووقف الشاعر نفسه من فكر عصره وثقافته وأيديولوجياته متحدثا عن البروليتاريا، والثورة، وصراع الطبقات، وحتمية التاريخ([10]). ودعا الأدباء إلى الالتزام بالنهج الاشتراكي في أعمالهم الأدبية مواكبة للخط الذي اختطته الثورة الوطنية فكرًا رسميًا لها، فلم يعد الشعر والأدب عمومًا ترفًا بل أضحت تعرية الواقع من صميم مهمته ومن ثم ” يجب أن يأخذ الشاعر مكانه بين الجماهير وأن يستلهمها ويعبر عن هذا الإلهام بأسلوب فني مؤثر تفهمه الجماهير” ([11]).

ومن ثم كانت الواقعية الاشتراكية تمجد دور الطبقة العاملة التي ترى أنها ظلت رغم دورها الأساسي في النهوض بمجتمعاتها مقهورة من سائر الطبقات المستعلية عليها والمحتقرة من شأنها، لهذا ترى هذه الواقعية كما يقولأحد النقاد: “إن مهمة الشاعر في تصوير الواقع إنما هي المعاناة لخلق صورة للواقع الأفضل المتحرر من كل آثار التخلف والقهر الطبقي” ([12])، وليس مجرد تصوير الواقع وحسب بل يجب عليه كذلك أن يحرض أولئك المقهورين ويحثهم على التمرد على واقعهم، ومن هذا المنظور ينبغي أن يتوجه الأدباء، كما يقول الملاحي، “إلى الجماهير الكادحة فيتأثرون بها ويؤثرون فيها ويطلون عليها إطلالة النور على الأرض المظلمة فيحيلون ظلامها نورًا وبؤسها نعيمًا ويمنحونها الفعالية في حركة التحرر والتطوير” ([13])، وفي هذا دعوة إلى جعل رسالة الأدب وكأنها أداة للثورة الاجتماعية، أو كما يقول الناقد سعيد سبتي “رسالة الأديب المقبلة هي رسالة توعية وأخذ بيد القوى الجديدة التي تتحرك بنوازع حية لتغيير الواقع الراهن وإبداله بواقع جديد، ولا يمكن أن يكون هذا الدور الطليعي للأديب إلا بتثوير الأدب” ([14])،وفي ذلك يقول الشاعر عبد الله الملاحي:(2)

                  ما كتبت القريــــض إلا لأشـفي       لوعة أو صــــــــــــــــــــــبابة أو شقاء

                  أو أجيجًا من المواجـــــــــــــد والآ       لام ضاقت بها الصدور انطواء

                  خلق الفن للحيـــــــاة كذا الشعـ       ـر فبشــــــــــــــــــــــر بذلك الأحياء

                  في حياة الشـعوب ما يلهم الفـ        ـنان فنًا مخــــــــــــلدًا وضـــــــــــــــــــاء

                  وحري بالخلد من وســـــــــع الكـ       ـون بتحنانه وهز الســـــــــــــماء

 

منتقدو الاتجاه الاشتراكيللأدب

  وفي الوقت نفسه قاوم الفكرة الاشتراكيةعدد من الشعراء العرب،ورأوهافكرة عقيمة؛ لأنها تحرم على الأديب أن يكتب حرفًا لا ينتهي إلى “لقمة خبز”، أو إلى تسجيل حرب الطبقات ونظم الاجتماع([15])، وأن الزعم بأن الواقعية الاشتراكية “تساعد الفنان على الرؤية أو تقدم له المعتقدات الصحيحة للعلاقات الاجتماعية ينفي في الوقت نفسه ما يجب وما يختص به الفنان من قدرة ذاتية على الرؤية الصحيحة للأشياء من مطلات فنيته الخاصة” ([16]).

الهوامش

([1]) أعلام الزركلي 6/65

([2]) نشأة النثر الحديث وتطوره 163

([3]) الأدب العربي المعاصر في مصر 205

([4]) نشأة النثر الحديث وتطوره 181

([5]) تطور الأدب الحديث في مصر 15

([6]) فن المقال الصحفي في أدب طه حسين 62

([7]) المقال وتطوره في الأدب المعاصر 185

([8]) الأدب الأردي الإسلامي 697

[9]))النقد والأيديولوجيا 34

([10]) اتجاهات الشعرالعربي المعاصر 59

[11]))الحرية والالتزام في معركة المصير، عبد الله عبدالكريم الملاحي، الحكمة ع10، فبراير 1972، 29

[12]))الحرية والالتزام في معركة المصير، الحكمة ع10، 28

[13]))نفسه 25

[14]))رسالة الأدب، سعيد سبتي، الشرارة ع475، الحزب الاشتراكي اليمني، المكلا، 1/3/1986، 6

(2)وفاء، عبد الله عبد الكريم الملاحي، الطليعة ع7، 16/7/1959، 3

([15]) في الأدب الحديث 2/267

[16]فلسفة الالتزام 202

المصادر والمراجع

الكتب

اتجاهات الشعرالعربي المعاصر، د. إحسان عباس، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978

الأدب الأردي الإسلامي، د. سمير عبد الحميد إبراهيم، إدارة الثقافة والنشر، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،

الأدب العربي المعاصر في مصر، د. شوقي ضيف، دار المعارف، الطبعة الثالثة عشرة

الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر،2002م

تطور الأدب الحديث في مصر، أحمد عبد المقصود هيكل، دار المعارف، الطبعة السادسة، 1994م

فلسفة الالتزامفي النقد العربي بين النظرية والتطبيق، رجاء عيد، منشأة المعارف، الإسكندرية

فن المقال الصحفي في أدب طه حسين، د. عبد العزيز شرف، الهيئة المصرية العامة للكتاب

في الأدب الحديث، عمر الدسوقي، دار الفكر العربي، 2000م

المقال وتطوره في الأدب المعاصر، السيد مرسي أبو ذكري، دار المعارف، 1981

نشأة النثر الحديث وتطوره، عمر الدسوقي، دار الفكر العربي، 2007م

النقد والأيديولوجيا، فاروق العمراني، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس، 1995

 

الدوريات:

الحرية والالتزام في معركة المصير، عبد الله عبدالكريم الملاحي، الحكمة العدد 10، عدن، فبراير 1972

رسالة الأدب، سعيد سبتي، الشرارة العدد 475، صادرة عن الحزب الاشتراكي اليمني، المكلا، 1/3/1986

وفاء، عبد الله عبد الكريم الملاحي، الطليعة،العدد 7، المكلا، 16/7/1959