Main Menu

التجربة الشخصية و الترجمة الذاتية في الرواية العربية

د. عائشة شهناز فاطمة

الترجمة أو السيرة الذاتية

إن لفظتى “ترجمة” و “سيرة” كانتا تدوران على معنى “تاريخ الحياة”. وقد اتخذ التاريخ للفرد صورا مختلفة لدى العرب, وكانت السيرة أولى هذه الصور, و قصد بها حياة الرسول الكريمة و مغازيه و إن لم يمنع ذلك وجود “سيرة معاوية و بني أمية” لعوانة الكلبي. وقد ظهرت فيما يبدو في وقت ظهور “سيرة ابن اسحاق” وظلت السيرة عصوراً يقتصر استعمالها على بيان حياة الرسول, ثم تتطور الاستعمال في عصور تالية, فاستعملت بمعنى حياة الشخص بصفة عامة.[1]

أما كلمة “الترجمة” فيرى عبد الغني محسن “أن هناك لا فرق بين كلمتى “سيرة” و”ترجمة” إذتدل الأولى على “التاريخ المسهب للخياة” والثانية على التاريخ “الموجز لحياة الفرد”.[2]

و يقول ابراهيم عبد الدايم إن السابقين إذا كانوا “يفرقون في الاستعمال بين اللفظين فإن الاصطلاح الحديث لا يفرق بينهما كثيراً, بل يستخدم إحداهما مرادفة للأخرى. و من ثم جاء الاصطلاح المعاصر” الترجمة أو السيرة الذاتية”.[3]

فالسيرة الذاتية بوصفها جنساً أدبياً بحسب فيليب لوجون Philippe LeJeune هى “حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة”.[4]

وهناك باحثون ودارسون ومنظرون عرب عرفوا السيرة الذاتية تعريفا دقيقا. ونظر كل منهم إليها من زاويته الخاصة. فيرى احسان عباس: “هى تجربة ذاتية لفرد من الافراد فإذاما بلغت هذه التجربة دور النضج واصبحت في نفس صاحبها نوعا من القلق الفني, فإنه لا بدّ أن يكتبها.”[5]

والباحث محمد عبد الغني حسن يقول عن التراجم الذاتية أوالشخصية “هى أن يكتب المرء بنفسه تاريخ نفسه. فيسجّل حوادثه و أخباره و يسرد أعماله وآثاره. ويذكر أيام طفولته وشبابه وكهولته, وما جرى له فيها من أحداث تعظم وتضؤل تبعا لأهميته”[6]

ويرى عبد العزيز شرف ” أن السيرة الذاتية” تعني حرفياً ترجمة حياة انسان كما يراها هو”. و رأى فيها تعبيراً عن ” النشاط الذهني والنشاط العملي في حياة الانسان من خلال نشاط لغوي, الأمر الذي يجعل من السيرة قصة حياة ترويها للآخرين”.[7]

وذهب أنيس المقدسي إلى أن السيرة الذاتية “توع من الادب يجمع بين التحرّي و الإمتاع القصصي, ويراد به درس حياة فرد من الأفراد, ورسم صورة دقيقة لشخصه”.[8]

وعند احمد ابراهيم “الترجمة الذاتية الفنية, هى التي يصوغها صاحبها في صورة مترابطة, على أساس من الوحدة والاتساق في البناء والروح و في اسلوب قادر على أن ينقل إلينا محتوى وافيا كاملا, عن تاريخه الشخصي على نحو موجز, حافل بالتجارب والخبرات الممنوعة الخصبة, هذا الأسلوب يقوم على جمال العرض, حسن التقييم وعذوبة العبارة, و حلاوة النص الأدبي, وبث الحياة والحركة في تصوير الوقائع والشخصيات, و فيما يتمثله من حواره مستعيناً بعناصر ضئيلة من الخيال لربط أجزاء عمله, حتى تبدو ترجمته الذاتية في صورة متماسكة محكمة, على ألا يسترسل مع التخيل والتصور حتى لا ينأى عن الترجمة الذاتية, خاصة إذا كان يكتب ترجمته في قلب روائي”.[9]

اما محمد شعبان فينقل لنا مفهوم دائرة المعارف البريطانية التي وجدت في السيرة الذاتية “المؤلف الروائي التي يسجل بصورة واعية وبصغة فنية الحدث. ويعيد للحياة الدرامية, لأن موضوعها الحياة, وفرع من الأدب يحتوي على تقرير عن حياة أشخاص, و هى صيغة أدبية قديمة.”[10]

 

الترجمة الذاتية لمحة تاريخية.

وإن تاريخ السيرة الذاتية  في الادب العربي الحديث لا يختلف عن تاريخ الأجناس السردية الأخرى شأن الرواية والقصة القصيرة , فهى جنس مستحدث ظهر بعد الرواية ونتج عن عامل المثاقفة بحكم العلاقة الوطيدة بين الثقافة الأوربية والثقافة العربية.وفي هذا الصدد نجد أن للباحثين آراء مختلفة فمنهم من يراها جنساً أدبياً عربياً موغلا في القدم مثل الباحث كارل بروكلمن حيث يعتقد أن هذا الجنس الأدبي نشأ في العهد الجاهلي. بينما يرى الدكتور عبد الرحمن بدوي أن العرب غير قادرين على كتابة السيرة الذاتية.[11]

و قد سعى ابراهيم عبد الدايم منذ زمن متقدم نسبياًّ أن يؤصّل هذا الجنس السردي في التراث مؤكداً أن السيرة الذاتية و إن لم يعرف مصطلحها إلا حديثاً ذات جذور تاريخية تعود إلى موقف ابن خلدون….”التعرف بابن خلدون ورحلته شرقا و غربا”.[12]

وقد جارته في ذلك الباحثة التونسية فوزية الصفار فهى ترى أن القدماء لم يكونوا يعرفون هذاالمصطلح رغم أنهم دونوا حياتهم في صفحات تنتمي إلى ما نسميه اليوم بالترجمة الذاتية. و يمكن أن نسوق بعض الأمثلة لذلكك .منها “مذذكرات الأمير عبد الله الموسومة بكتاب التبيان لصاحبها عبد الله بن بلقين بن باديس.[13]

كما توصلت الباحثة تهاني عبد الفتاح شاكر إلى أن سيرة سلمان الفارسي هى أول نواة لسيرة ذاتية عربية في القرن الأول الهجري. ثم تتبعت نماذج متأثرة لسير ذاتية في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. ولم تقتصر النماذج المتناثرة للسير الذاتية على كتاب الأغاني و إنما تجاوزته إلى كتاب و رسائل أدبية

معروفة مثل “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” لإبن أبي أصيبعة, و “رسالة الصداقة والصديق” لأبي حيان التوحيدي التي نتلمس فيها بعض ملامح السيرة الذاتية والنفسية لمؤلفها الذي يتوفر على نفس إبداعي عال. كما أن كتاب “المنقذ من الضلال” للغزالي هو سيرة ذاتية أيضا صوّر فيه جانبا من أزمته الروحية الحادة التي لازمته طوال ستة أشهر…..ثم تستنتج الباحثة إلى آخر بذور السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم التي وصلتنا في كتاب هى سيرة العلامة ابن خلدون التي تحمل عنوان “التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً و غرباً.[14]

وإذا سلمنا جدلا أن السيرة الذاتية هى نوع أدبي غربي خالص ما يدّعى بعض النقاد و المنظرين الغربيين. وأن العرب لم يعرفوا هذا الجنس الأدبي بمواصفاته و معاييره الأوربية فإن كتاب “الأيام” لطه حسين يعد النص الأدبي الأول المتمثل لمفهوم السيرة الذاتية و إشاليتها وقضاياها وهو الانموذج الأقرب إلى السيرة الذاتية الأوربية. فقد كان إلمامه بالثقافة الغربية ولا سيما الثقافة الفرنسية عاملا مساعدا على تأليف النص. و إذا تجاوزنا “كتاب الأغاني, و رسالة الصداقة و الصديق و غيرها بحجة أنها لا تتوفر على عناصر السيرة الذاتية المعاصرة فإن الأدب العربي الحديث قد عرف هذا الانوع الأدبي منذ ثلاثينات القرن العشرين. و يمكننا الإشارة إلى “قصة حياة” للمازني,و “طفل من القرية” لسيد قطب, و “حياتي” لاحمد أمين, و “سبعون” لميخائيل نعيمة, و”الخبز الحافي” لمحمد شكري و “أوراقي” لنوال السعداوي وغيرها من المؤلفات الأخرى.

تداخل الترجمة الذاتية مع الأجناس الأخرى

الرواية.

كثر الجدل و النقاش حول تداخل الأجناس الأدبية في الفنون النثرية عامة, وفي السردية أكثر من سواها, و في الرواية أكثر من غيرها من الأجناس السردية, فإن الرواية تعد فنا أدبيا يتسم بالمرونة, والاتساع, والقدرة على استيعاب أجناس عديدة دون تشويه عناصر العمل الروائي, أو إضعافها, فهى “فن سردي يستدعى فناً سردياًآخر هو القصة القصيرة, كما يستدعي ضروبا من فنون الحكي القديمة التي تنهض على السرد كالمقامة والحكاية الشعبية و الأسطورية.

والطبيعة السردية هى التي تؤسس لمساحة تلاق بين الرواية والسيرة الذاتية. “وهى مساحة مرجعيتها الواقع أو هى النقطة التي يلتقي عندها التص الروائي والسيرة الذاتية حيث يكون الواقع معياراً و مرجعية حاكمة للحكم على واقعية الرواية ومصداقية السيرة الذاتية.

وبما أن السيرة الذاتية تترجم حياة الفرد, وتعرض حقائق عاشها, و تعالج وقائع شتى ترتبط به كان الأسلوب المباشر الأقرب لسرد تلك الأحداث. وهذا أمر يقيّد الكاتب, ويحد من قدرته على رسم الشخصيات و صياعة الأحداث. لذلك وجدنا أدباء القرنين التاسع عشر والعشرين يميلون “إلى استخدام الصياغة الفنية الروائية. وهذا نحو من الأنحاء في معالجتها, وهو بلا شك, أحفل بالعناصر الفنيّة, وأكثر إظهاراً لقدرة المترجم لنفسه على تمثّل الأحداث والشخصيات والمحاورات والانطباعات و إعادة تمثلها على نحو فنّي هو  أكثر تعقيداً وعمقاً من الاسلوب المباشر.[15]

وهذاالتداخل بينهما يؤدي إلى ظهور فروقات ومشتركات بينهما ندرسها على حدة. أما الفروقات الموجودة بين الجنسين:هواعتماد الرواية على الخيال المطلق. فهو أكثر العناصر تحديداً لهذين الجنسين. فالسيرة الذاتية تعتمد على سردأحداث و عرض مواقف عاشها الكاتب, وهذا يعني أن الخيال لن يضطلع بدور رئيس في النص وحضوره يقتصر على صياغة الحقائق, لا على اختلاق الوقائع, و افتعال المواقف, فكاتب السيرة الذاتية يعتمد على “الذاكرة” واستبطان الذات والبوح النفسي, مصوّراً انفعالاته و مشاعره الدفينة إزاء هذه المواقف التي تصوّر حياته, أما قالب الرواية فهو يعتمد على الخيال.[16]

وكذلك حرية الكاتب الروائي في تناول الزمان والمكان و التزام كاتب السيرة الذاتية بالزمان والمكان.[17]

أما المشتركات الموجودة بين هذين الجنسين فإنها تتمثل في “وجود التداخل بين الجنسين من حيث البناء الفني” و” وجود إشارة المتعة وعنصر التشويق في الجنسين”.[18]

وهناك أشكال أدبية أخرى ترتبط بالسيرة الذاتية ارتباطاًمباشراً, يوظفهاالكاتب و يستعين بها خلال تدوين سيرته, ومن تلك الألوان,الرسائل و اليوميات, والمذكرات, والمفكرة اليومية والاعترافات.

والواضح منها أن الترجمة الذاتية لها القدرة أن تميل نحو الرواية وتتخذ القالب الروائي لتخلق جنساً جديداً تسمى “برواية السيرةالذاتية” أو ” السيرةالذاتية الروائية”. وهذا الأمر جعل أكثر الأشكال الفنية قربا من السيرة  الذاتية.

رواية الترجمة الذاتية

تعدالسيرة الذاتية الروائية فنا مستحدثا في الادب العربي, حيث استعاره أدباؤنا من الغرب مع بداية القرن التاسع عشربفعل التواصل والتبادل الثقافي, ويقرب هذا الجنس الأدبي من السيرة الذاتية من حيث المضمون فكلاهما يعرض حياة صاحبه وفكره و آراءه ,فتأتي الأحداث متتابعة من بدايةحياة صاحبها إلى لحظة كتابة السيرة التي يوّظفيها الكاتب العناصر الروائية التي تتماز بقدرة أكبر على ترجمة الأحداث و صياغتها فنيا. ويستخدم المؤلف في سرد تلك الأحداث تقنية الرواية. وهذا يعني أنها تؤام “بين عرض صاحبها, واستخدام التقنيات الروائية, فطغيان التقنيات الروائية يحوّل السيرة إلى رواية.[19]

والواضح منها أن رواية الترجمة الذاتية هى الرواية التي يرتكز محورها الرئيسي على تجربة عاناها المؤلف, حيث كان بطلها و مدار أهم أحداثها, و حيث أن تلك الأحداث تمثل جزءاً من حياة البطل أو صفحة من حياته, كل ذلك بشرط أن يعبر المؤلف عن تلك التجربة الشخصية في قالب روائي تتوفر فيه أهم عناصر الرواية. و ذلك ليبعد العمل عن أن يكون ترجمة ذاتية أو اعترافات أو يوميات.

والأسلوب الذي يلجأ إليه الكاتب هو الفاصل بينهما. ففي الترجمة الذاتية يلجأ الكاتب إلى الأسلوب المباشر لعرض الأحداث. أما الترجمة الذاتية الروائية فيسرد الكاتب أحداث حياته في قالب روائي اعتماداًعلى السرد و التصوير و ايجاد الترابط بين الأحداث الفنية و استخدام الخيال استخداما محدودا في تجسيد الأحداث الحقيقية.[20]

و هذا يعني أن الكاتب لا يختلق أحداثا إنما يفتعل أسلوبا خياليا, و يأتي بصياغة  فنية لعرض أحداث حقيقية, فالكاتب هنا سارد للأحداث من خلال تظرية إليها, وتحليله لها, وهذا يعني أن السيرة الروائية “نوع من السرد الكثيف الذي يقابل فيه الراوي والروائي ويندرجان معا في تداخل مستمر ولا تهائي, عندها يستمد السارد مادته من الراوي نفسه, ويتماهيان إلى الدرجة التي يصبحان فيها شخصية واحدة في كثير من الأحيان في نوع من الكشف الداخلي.

ويلجأ الكاتب في الترجمة الذاتية الروائية إلى استعارة القالب الروائي, فيصوغ “سيرته الشخصية” في ثناياه مفصحا في تصويره لقصة عن هدفه الذي يتصرف إلى تصوير حياته في شكل روائي دون إلغاز أو محاولة للتخفي خلف شخصية روائية الرئيسية, أو انسياق وراء عناصر الفن الروائي, وما يستوجبه هذا الفن من إهمال الخيال و التحوير لبعضالحقائق تحويرا يخل بالحقيقة التاريخية, وحقيقة حياته الخاصة.

والجدير بالذكر أن ما يبعد بين رواية الترجمة الذاتية المعتمدة على حياة صاحبها و بين الترجمة الذاتية “اختيار الأحداث اختيارا فنيا صالحا للتأليف الروائي, و عدم حشد تلك الأحداث كأنها تاريخ يدوّن, بل عرضها كعناصر روائية تنمو و تتطور لكى تصل إلى نهاية معينة, وكذذلك عملية الاضافة و ربط الأحداث الرئيسية الواقعة بأحداث جانبية مخترعة. وذلك بتدخل المؤلف في ترتيبها ترتيببا يحقق الفنية  القصصية, وعدم الاكتفاء بإيرادها حسب وقوعها الزمني”.[21]

عناصررواية الترجمة الذاتية.

1.الميثاق أو العقد

يشكل الميثاق السيري حدًا فاصلا بين الأجناس الأدبيّة؛ إذ يحدّد هويّة النص إذا ما كان سيرة ذاتيّة، من خلال ما ورد في النص ذاته، دون الاستعانة بعوامل خارجيّة لإثبات ذلك فوجوده يحقق التطابق بين المؤلف، والسارد، والشخصيّة الرئيسيّة، مما يضع النص ضمن جنس السيرة الذاتيّة، وتتمثل أهميته في كونه اتفاقًا يعقده المؤلف مع القارئ، وبموجب هذا الاتفاق يوجّه القارئ، وتحدّد طبيعة قراءته. فالميثاق يقود القارئ للوصول إلى حقائق، تتعلق بتاريخ شخصيّة واقعيّة، يسرد لها. ورأى جابر عصفور أنّ السيرة الذاتية الأدبيّة فن يتطلب ميثاقًا مرجعيًّا “طراز الإحالة فيه يحدّد الإشارة بحضور داخليّ غالبًا”.فهذا النوع من الميثاق يحدد ضمنًا أو صراحة، العلاقة بين كتابة السيرة الذاتيّة والواقع الذي تشير إليه من منظور التطابق الذي تنبني عليه بين المؤلف، والسارد، والشخصيّة في الدلالة على ما وقع في الخارج.[22]

2.المؤلف, السارد, الشخصية

يهتم دارسو النصوص المرتبطة بحياة أصحابها وتجاربهم بقضية التطابق بين المؤلف والسارد، والشخصيّة، أو عدمه؛ لما لهذه العلاقة من دور في تجنيس النص الأدبي، وتحدية هويّته.

3.الدوافع

وجود الدوافع في السيرة الذاتية أمر مؤكد صرح كاتبها بها أم لم يصرح و الدوافع هذه عديدة لاتعد ولاتحصى إلا أن تحديد الدوافع الرئيسية في سيرة ذاتية بعينها أمر ممكن. وهناك من عدد بعضا من هذه الدوافع كالتبرير و الرغبة في اتخاذ موقف ذاتي من الحياة. والتخفف من ثورة أو انفعال و تصوير الحياة الفكرية و الرغبة في استرجاع الذكريات.[23]

ولعل في القلق النفسيّ، والاستجابة للهموم الثقال، التي تعصف بفكر الأديب دافعًا رئيسيًّا لتدوين السيرة الذاتيّة , وما كتب الايام لطه حسين إلا خير مثال على ذلك, فتأليفه كان نتاج هبّة شنّت عليه بعد كتابه (في الشعر الجاهلي).

4.الصراع

ويؤدّي الصراع دورًا بارزًا في بناء السيرة الذاتيّة ؛ فهو من “أهم مظاهر الحياة الشخصية للكاتب, إذ يصوّر الداخل والخارج, وما يمور فيهما من مواقف متباينة, و آراءمتناقضة, فحظ السيرة الذاتية من البقاء منوط بحظّ صاحبها نفسه من عمق الصراع الداخلي, أو شدّة الصراع الخارجي.[24]

  1. الحقيقة و الخيال.

يلعب الخيال دورًا في الفصل بين الأجناس الأدبيّة، والتمييز بين حدودها، والحريّة فيه هى التي تضع الحدّ الفاصل بين القصة والسيرة، فالقصصي حر في الخلق والبناء, يملك أن يتخيل مواقف ومحاورات, وله الحق أن يصف التيّار الداخلي في أنفس الشخصيات التي يرسمّها.[25] أما كاتب السيرة الذاتية فيستلهم الأحداث من واقع عاشه, معتمدا في ذلك على مصادر منتوّعة كالرسائل, و المذكرات, و الزكريات و غيرها.

  1. الصدق و الصراحة.

يعد التزام كاتب السيرة الذاتية الصدق و الصراحة ضرورة ملحّة, فهما من العناصر المهمة في بنائها, و حضورهما يولّد ثقة بين المرسل والمرسل إليه, ويكسب النص قيمة تاريخية و اجتماعية و يحيله وثيقة يمكن الرجوع إليها, و مرآة تعكس حياة صاحبها. لأن السيرة تبحث عن حياة انسان ,و تكشف عن مواهبه وأسرار عبقريّته من ظروف حياته والأحداث التي واجهتهافي محيطه, والأثر الذي خلفه.[26]

الترجمة الذاتية في الرواية العربية.

امتدّ هذا الفن فكتب الأديب المصري أحمدأمين “حياتي” 1950, و كتب ابراهيم عبد القادر المازني “قصة حياة” 1961, ثم كتب لطفي السيد “قصة حياتي” 1962, و آخرهم عبّاس محمود العقّاد “أنا” 1964, و ها هو ذا توفيق الحكيم يكتب “عصفور من الشرق” 1938و “سجن العمر” 1964, و سرعان امتدّ هذاالفن في البلاد العربية فهذاالأديب المهجري ميخائيل نعيمة يصدر سيرته الذاتية في ثلاثة أجزاء حملت عنوان “سبعون” 1960 ويكتب حنّا مينة ثلاثيته الشهيرة “بقايا صور” 1975 و”المستنقع” 1977 و” القطاف” 1986, كما يكتب محمد شكري رواية “الخبز الحافي” 1982 و” زمن الأخطاء” 1992, ويسجّل عبد الله الطوخي سيرته “سنين الحب والسجن” 1994, وتصدر نوال الصعداوي “أوراقي حياتي”2001-2000, كما يصدر سهيل ادريس روايته الشهيرة “الحي اللاتيني” التي هى جزء من حياته, ويكتب رفعت سعيد “مجرّد ذكريات” 1989, وعبد الرحمن بدوي “سيرة حياتي” 2000, وادوار سعيد “خارج المكان” 2000, ويخرج الباحث و المحقق المعروف باحسان عبد القدّوس سيرته “غربة الراعي”, وتكتب الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان سيرتها “رحلة جبلية….رحلة صعبة” 1989, وكذلك دوّن الأديب الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا سيرته في “البئر الأولى”.

النماذج من رواية الترجمة الذاتية.

 

رواية “الايام” لطه حسين.

إن طه حسين هو الأب الروحي لهذا الفن (رواية الترجمة الذاتية) في الادب العربي الحديث و ذلك حينما صدر الجزء الأول من كتابه “الايام” عام 1926م و تبعه الجزء الثاني الذي صدر عام 1939م.فهذا الكتاب يعد أول سيرة ذاتية بالمعنى الحديث, في الأدب العربي وأيضا أول كتاب في الأدب العربي الحديث يكتسب اعترافا دوليا ويترجم إلى لغات عدة.[27]

في الجزء الأول اتجه الكاتب إلى التاريخ للفترة الأولى من حياته, منذ الطفولة و النشأة في القرية, إلى الصبا والقدوم على القاهرة لاتمام الدراسة في الأزهر. وقد يؤرخ في الوقت نفسه حكايته مع الناس في أسرته , وفي الكتاب الذي أرسل إليه ليحفظ القرآن, وفي مختلف البيئات القروية الأخرى التي ترعرع في كنفها. و يطلعنا على حالة بيئته القديمة و يدخلنا إلى أعماق نفسه.[28]

وينتقل بنا إلى الجزء الثاني فنراه يتّبع أخاه إلى الأزهر حيث زاول الدراسة القديمة فيه إلى جانب عمود من أعمدته يستمع إلى هذا الشيخ أو ذاك. ووصف لنا في أثناء ذلك المصاعب التي واجهته, والاهمال الذي عاناه من أخيه, و أعطاه صورة دقيقة لحياة الأزهري الضرير من أمثاله في أوائل القرن العشرين و ما كان يشقي به في غدوه و رواحه و  يقظته و  نومه.[29]

خصائصه الفنية.و من خصائصة الفنية هى انتقاء الحوادث ملائما و ترتيبها ترتيبا فنيا, وعرضها عرضا مصورا صادقا حياً, و منهاحكاية الكاتب للأحداث بطريقة الحديث عن الغائب. و ذلك ليعطى نفسه فرصة ايراد الأفكار العالية, والصور الممتازة و الأسلوب الأخاذ. و كذلك منها الميل إلى الاطلاق, و عدم التحديد في الأسماء و الأماكن عندما لاتدعوالضرورة كما قال “الشيخ” لوالد الصبي, و “سيدنا” لمعلم الكتاب, و “القرية” لقرية الولد.[30]

وهكذا فإن قارئ “الأيام” يطلع على سيرة طه حسين في أطوارها المتعاقبة و أطوارها التاريخية والفكرية مستكملة شروطها الموضوعية والفنية من حيث تنظيم طريقته في سرد الأحداث, ومن حيث الايقاع الموسيقي في الجملة و المفردة اللغوية, ومن حيث الحرية التي وفرتها المواصفات الأدبية, وأخيرا من حيث خطورة التجربة وغناها و قابلية انتقاع جمهور القراء بعرضها

رواية “عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم

هذا العمل من عمل رواية التجربة الشخصية لأنه يقوم أساسا على تجربة مرّ بها الكاتب ثم قدمها في قالب روائي. وفي الحقيقة هذه التجربة الشخصية هى الاحساس بالمفارقة بين حضارة الغرب و حضارة الشرق. ثم تفصيل حضارة الشرق الروحية على حضارة الغرب المادية.[31]

فجاء النص في عشرين فصلا, تحدّث خلالها الحكيم عن محسن العصفور الشرقي, القادم إلى باريس, لمواصلة تحصيله العلمي, فجعله يروي الأحداث ليكشف من خلالها عن تفاصيل تلك المرحلة من حياته, و يصرّح بأفكار لامست عقول كثيرين من أبناء جيله فأوفقهم في صراعات داخلية و صدامات خارية. وإن استخدام القالب الروائي في تقديم تجربة شخصية, قد فرض الاهتمام بشرح هذه التجربة و تجسيمها و محاولة الاقناع بها.

خاتمة البحث.

وفي الختام نخلص إلى أن الترجمة الذاتية جنس أدبي يتطلب حضور عناصر محدّدة, و غيابها, أو غياب بعضها يحيل إلى اجناس أدبية أخرى , أقربها الرواية. و أن هناك جمهرة من المشتغلين بالأدب قد مارسوا كتابة هذا الفن و أخرجوا للمكتبة العربية طائفة من المؤلفات في هذا التحصص.و الدكتور طه حسين هو الاب الروحي لهذا الفن في الادب العربي الحديث و ذلك حينما صدر كتابه ” ألأيام” و هى أشهر سيرة ذاتية في الأدب المعاصر. ولعل هذا النجاح حققه “الأيام” دفع كثيرا من الأدباء لتسجيل حياتهم و نقل تجربتهم إلى الآخرين و لا سيما الأجيال القادمة.

 الهوامش 

[1] عبدالدايم, يحيى. الترججمة الذاتية في الأدب العربي الحديث. ص: 30-31

[2] عبد الغني, حسن. التراجم والسير. ص: 28

[3] عبدالدايم, يحيى. الترججمة الذاتية في الأدب العربي الحديث. ص: 31

[4]لوجون, فيليب. السيرة الذاتية: الميثاق و التاريخ الأدبي. ترجمة عمر حلي. ص: 24

[5] عباس, احسان. فن السيرة. ص: 102

[6] عبد الغني, حسن. التراجم والسير. ص: 28

[7] شرف, عبد العزيز. ادب السيرة الذاتية. ص: 27

[8] المقدسي, انيس.الفنون الأدبية وأعلامها في النهضة العربية الحديثة. ص:547

[9] عبدالدايم, يحيى. الترججمة الذاتية في الأدب العربي الحديث. ص: 31

[10] محمد, شعبان. السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث: ص: 10

[11] عزيزي وفيق. السيرة الذاتية في الأدب العربي لتهاني عبد الفتاح شاكر, صحيفة البلد الأليكترونية, لبنان. بيروت, 10 يونيو 2005

[12] ا عبدالدايم, يحيى. الترججمة الذاتية في الأدب العربي الحديث .ص: 37

[13] الصفار, فوزية. الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث: كتاب سبعون نموذجا. ص: 17

[14] عبدالفتاح شاكر, تهاني. السيرة الذاتية في الأدب العربي.

[15] عبدالدايم, يحيى. الترججمة الذاتية في الأدب العربي الحديث. ص: 21

[16] محمد, شعبان. السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث: ص: 20

[17] عبدالدايم, يحيى. الترججمة الذاتية في الأدب العربي الحديث. ص: 28

[18] عبدالفتاح شاكر, تهاني. السيرة الذاتية في الأدب العربي.ص: 21, وعبد الديم, يححى. الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث.ص: 29

[19] محمد, شعبان. السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث: ص: 193

[20] المصدر نفسه. ص: 72

[21] هيكل, احمد حسين. الأدب القصصي والمسرحي في مصر من أعقاب ثورة 1919 إلى قيام الحرب الكبرى الثانية. ص: 143

[22] عصفور جابر, زمن الرواية, ص: 191-192

[23] عبدالدايم, يحيى. الترججمة الذاتية في الأدب العربي الحديث. ص: 30

[24] عباس, احسان. فن السيرة. ص: 95

[25] عباس, احسان. فن السيرة. ص: 71

[26] فهمي, ماهر حسن. السيرة تاريخ و فن. ص: 21

[27] د السكوت, حمدي. قاموس الأدب العربي الحديث. ص: 303

[28] ضيف, شوقي. في الادب المصري المعاصر. ص: 284

[29] ضيف, شوقي. الترجمة الشخصية. ص: 118

[30] هيكل, احمد حسين. الأدب القصصي والمسرحي في مصر من أعقاب ثورة 1919 إلى قيام الحرب الكبرى الثانية. ص: 145

[31] هيكل, احمد حسين. الأدب القصصي والمسرحي في مصر من أعقاب ثورة 1919 إلى قيام الحرب الكبرى الثانية. ص: 159

المصادر و المراجع

الحكيم, توفيق. عصفور من الشرق. مصر: دار مصر للطباعة.

السكوت, حمدي. 2007. قاموس الأدب العربي الحديث. القاهرة: دار الشروق.

شاكر عبد الفتاح, تهاني. 2002 السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث. الطبعة الأولى. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات و النشر.

شرف, عبد العزيز. 1998. ادب السيرة الذاتية.مصر: الشركة المصرية العالمية للنشر.

ضيف, شوقي. الترجمة الشخصية. الطبعة الرابعة. القاهرة: دارالمعارف.

عباس, احسان. 1996. فن السيرة.الطبعة الأولى.الأردنك دار الشروق للنشر والتوزيع.

عبدالدايم, يحيى. 1976. الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث.بيروت: دار إحياء التراث الأدبي.

عبد الغني, حسن. 1980. التراجم والسير. الطبعة الثالثة. القاهرة: دار المعارف.

فهمي, ماهر حسن. 1970 .السيرة تاريخ و فن. القاهرة: مكتبة النهضة المصرية.

لوجون, فيليب. 1994. السيرة الذاتية: الميثاق و التاريخ الأدبي. ترجمة عمر حلي. بيروت: المركز الثقافي العربي.

المقدسي, انيس.1980. الفنون الأدبية وأعلامها في النهضة العربية الحديثة. الطبعة الثالثة. بيروت: دارالعلم للملائين

هيكل, احمد حسين. 1968.الأدب القصصي والمسرحي في مصر من أعقاب ثورة 1919 إلى قيام الحرب الكبرى الثانية. مصر: دارالمعارف.