Main Menu

الأدب البوليسي: مفهومه ونشأته

بقلم: د. معراج أحمد الصديقي

ضابط مترجم في وزارة السكك الحديدية، الهند.

الأدب ابن بيئته فإن كانت البيئة تعيش حروبا، ونزاعات، واضطهاداً، وظلماً، فسيعكس الأدب ذلك. الأدب سجل ثقافي للشعوب، ينقل للعالم الخصائص المميزة لكل قومية معينة، فالفروقات بين شعوب العالم تتعدد، وتتجلى في لباسهم وأكلهم وزينتهم وبالطبع في أدبهم. فالأدب هو المحيط الذي يشكل الفرد فيه ذوقه وشخصيته وتميزه الفكري والديني.

يُعتبر الأدب الوسيلة المثلى للتعبير عن الواقع الإنساني وتصويره بكيفية تسمح بتحصين هذا الموروث وتحميه من الاندثار، فتمكن الأدب من نقل أفكار وفلسفات أكل عليها الدهر وشرب، فالقصائد الشعرية، والنتاجات النثرية المعروفة التي نشأنا في كنفها صورت لنا تلك العوالم التي عاش فيها أصحابها الحقيقية منها والمتخيلة. فمما نقله الأدب ملخص التاريخ، وملخص الأحداث السياسية، وخلاصة التجارب الحياتية، والظاهرات الإنسانية.

هناك تساؤلات مهمة، هي: هل الكتابة البوليسية في شيء من الأدب؟ هل المجتمع العربي في حاجة إلى مثل هذه الكتابة؟ هل الهامش هو الموقع الصحيح للكتابة البوليسية؟ وهل يمكن أن نصنّف الكتابة البوليسية في خانة الأدب الشعبي؟ هذه الورقة البحثية تسعى إلى الإجابة على هذه الأسئلة. وقبل أن نخوض في أغوار البحث نسرّح النظر في الرواية التي تتشعب منها الكتابة البوليسية، ثم قبل أن نشرح معنى الرواية ومفهومها.

مفهوم الرواية البوليسية:

ومن الأنواع الأدبية التي لاقت رواجا كبيرا واهتماما كثيرا من القراء في العصر الراهن، هي الرواية البوليسية الغامضة التي تعالج المشاكل، والغموض الإجرامية. الرواية البوليسية لون خاص جداً من ألوان الأدب يجعل القارئ لا يستطيع الابتعاد عن عالم الرواية، وينتقل به إلى عالم الجريمة المناقض بأحداثه وحركته لرتابة الحياة اليومية، وتعده بحتمية تحقيق العدالة في النهاية. بالإضافة إلى ذلك يترك باب الحل مغلقا لزيادة الغرابة، والغموض في الرواية مع ترك الفسحة للقارئ بالمشاركة في عملية البحث. وفي رحلة بواطن الحبكة المرتبطة بالواقع يكتشف القارئ أمورا صادمة. الرواية البوليسية بطلاها اثنان: مجرم يوقظ فينا القلق مما يمكن للحياة الاجتماعية أن تحمله من مخاطر، وشرطي أو محقق يأوي قلقنا ويبدده بفعل قدرته على الانتصار للحق”([1]).

استطاعت الرواية البوليسية أن تتجاوز مفهومها المتفق عليه أنها “شكل أدبي يرتدي أردية لغوية تنهض على جملة من الأشكال، والأصول كاللغة، والشخصيات، والزمان، والمكان، والحدث يربط بينها طائفة من التقنيات كالسرد، والوصف، والحبكة، والصراع لتصل إلى نهاية مرسومة بدقة متناهية، وعناية شديدة”([2])، وهذا نصف البناء أو الشكل الخارجي للرواية، فعالمها المتخيل أمر، وبُعد آخر.

الروايات التي تدور حول الجواسيس، والخونة، والأحداث المثيرة، والقوى الهائلة التي تتمتع بها شخصيات تلك الروايات تسمى الرواية البوليسية، أو الرواية المخابراتية، أو رواية التحقيق وغيرها من التسميات. ويطلق عليها البعض الآخر تسمية رواية الغموض، واللغز، لما تحمله بين أسطرها من أسرار خفية، وأحداث مثيرة. ينقل القارئ تلك الأحداث إلى عالمه الحقيقي رغبة منه في الوصول إلى حل. وهذا المعنى نجده في المقتبس الآتي: للرواية (البوليسية) طبيعتها الخاصة في تظهير مدى تشابك العمليات التفعيلية للفكرة الأدبية من أجل أن تستوي نصا يخرج من دائرة الزمان، والمكان إلى دائرة الوجود، والتهيؤ، والتحقق، فتتلقفه الجماهير القرائية بلهفة المتعة التي لا تؤمنها إلا الفنون بطريقتها الساحرة، وتحقق بذلك الارتباط المعنوي بين الكتاب، والقارئ([3]).

الرواية البوليسية عبارة عن الرواية أو القصة التي تدور أحداثها حول جريمة قتل غامضة، وتُبنى على عملية التحري التي يقوم بها مفوّض الشرطة، أو يتكفّل المحقّق الخاص بفك ألغازها إلى أن يتوّج بحثه عن مرتكب جريمة، أو عدة جرائم باكتشاف المجرم الحقيقي([4])، ويغلق عملية البحث هذه بإطار تشويقي”([5]).

لم يكن هذا النوع من الكتابة واضح المفهوم والمعالم – كما ذكرنا- فيما مضى وتعتبر متضمنة في جنس الرواية، أو القصة. “تندرج القصة البوليسية تحت إطار السرد القصصي عامة، ومن ثم فهي ليست جنساً قائماً بذاته، بل هي من الأنماط السردية المتداولة، مثل: قصص الخيال العلمي، وقصص الأطفال”([6]).

تعريف الرواية البوليسية:

يعود أصل التسمية إلى اللفظتين “الرواية” و “البوليسية”. وقد مر تعريف “الرواية” فيما أسلفناه. أما تعريف الرواية البوليسية فهذا النوع من الرواية يجمع معاني البوليس (الشرطة) والتجسس، والسعي نحو كشف الخبايا في سير أحداث سرية، مع التركيز على خاصية الغموض، والتي تضفي على الرواية بعداً آخر مما يدل على عبقرية الكاتب. وميزة الغموض هي المسؤول الأساسي عن خاصية الجذب، واستحواذ القارئ.

وفي مفهوم آخر، تعرّف الرواية البوليسية “أدب الغموض، أو القصة البوليسية نوع من أنواع الأدب المتخيل يعرض للقارئ مجموعة من التحقيقات في قالب خاص، وتعرّف برواية التحقيقات، أو رواية الجريمة”([7]). ونجد البعض يحصرها في تعريف خاص ويقول: “إن الرواية البوليسية هي نوع مخصص قبل كل شيء لاكتشاف الطرق بواسطة وسائل عقلية، وظروف دقيقة لحادث غريب”([8]).

وتعتمد هذه الرواية على عناصر أساسية لا تكاد تخلو منها، ونعني بها: المحقق الذي يسعى إلى كشف النقاب عن اقتراف الجريمة، والمجرم، والضحية. كثيراً ما يكون أبطال الرواية البوليسية من سلك الشرطة، إذ يصور الكاتب بأدق التفاصيل العمل الرتيب الذي يرسمه قسم الشرطة الجنائية بغية كشف المجرم، وجمع الأدلة، والقرائن المساعدة على الوصول إلى ذلك.

ومما سبق يظهر أن أغلب المفاهيم اتفقت على اعتبار الرواية البوليسية جنسا من الأجناس الأدبية الجديدة، والهامة، والمميزة، وتعتمد في الأساس على شرطين هامين الإثارة والغموض، ففي الأول والأخير هي تصور شكلا من أشكال الحياة الإنسانية.

الرواية المخابراتية:

هذا نوع آخر من أنواع الرواية الجاسوسية، وقد يخطئ الناس حينما يطلق على الرواية البوليسية اسم الرواية المخابراتية بسبب المماثلة، والاقتراب المعنوي بينهما. والحقيقة أن الأدب البوليسي غير أدب المخابرات، فالأول يتخصص بالجريمة في الحياة اليومية داخل دولة ما، بينما الآخر يتحدد بقصص الجواسيس وقدرتهم على التخفي والعمل في بلاد العدو([9]). وبما للرواية المخابراتية صلة مع الرواية البوليسية نبين هنا معناها ومفهومها.

الرواية المخابراتية لغة: للوقوف على معنى ومفهوم “المخابراتية” نعود إلى المعاجم فنجد أن المخابراتية من “خابر” ومادته “خبر”. ففي لسان العرب خبره بكذا، وأنبأه، واستخبره، أي سأله عن الخبر، وطلب أن يخبره. والاستخبار، والتخبر أي السؤال عن الخبر. وفي حديث الحديبية أن بعث عينا خزاعة يتخبر لهما خبر قريش أي يتعرف، يقال تخبر الخبر واستخبر إذا سأل عن الأخبار ليعرفها([10]). وهذا فيما يتعلق بالمعنى اللغوي.

الرواية المخابراتية اصطلاحاً: أما المفهوم الاصطلاحي فهو يتعدد، ويتنوع نظرا لتنوع مفهوماتها لدى الكتاب، واختلاف الاتجاهات والأفكار عند المؤلفين في هذا الصنف من الإنتاج الأدبي، فنجد من يعرّف الرواية المخابراتية بأنها “عمل فني تقوم فكرته الأساسية على صراع معلوماتي بين طرفين يمثلان دولتين أو أكثر، ويستند غالبا إلى حقائق واقعية، وتتداخل في الأبعاد الإنسانية، التي تجسدها حركة الشخصيات، معتمدا على وسائل سردية، لتوفير عوامل الإثارة، والتشويق، والترقب، وتجاوز الطابع الوثائقي الذي تعتمد عليه طبيعة تلك النصوص”([11]).

الرواية البوليسية والرواية المخابراتية:

إن رواية الجاسوسية، أو الرواية المخابراتية هي وليدة الرواية البوليسية، فقد أصبحت تلك الأخيرة بطبيعة بنائها “نوعاً أدبياً أمّاً من الأمومة للعديد من الأنواع الأدبية التي ازدهرت في القرن العشرين، وانبثقت منها رواية التجسس”([12]).

تربط الرواية البوليسية والمخابراتية بعلاقة محكمة، ولهما سمات فنية مشتركة، إذ تلتقي الروايتان في طبيعة الحبكة الدرامية التي تغلب على بنائهما، من غموض الأحداث، وأجواء الإثارة، والمغامرة في صراع دائر بين طرفين ينتهي لصالح أحدهما، إلى جانب البعد الإجرامي المشترك بينهما، وارتباطهما بالواقع أحداثاً وتخيّلاً، ومن ثم فهما يبتعدان عن أية أحداث خارج المنطق، أو المألوف، وإلا أُفْسِد تخيل الملتقي([13]).

ولكن مع هذا التلاقي هناك أوجه اختلاف، ونقاط فاصلة، تقيم خصوصية واضحة، وفارقة لكل نوع منهما، من أبرز تلك النقاط:

  • قد تأخذ الرواية البوليسية في اختلاق أحداثها هدف التشويق والإثارة، في فك لغز الجريمة، وإثارة الفضول الإنساني في اكتشاف الآتي، وتتبع مشاهد المطاردة، ووسائلها، ومسار الأحداث بشد الانتباه في حل هذا اللغز، في حين يختلف الأمر في الرواية المخابراتية، فإن عنصر الإثارة فيها يعتمد على المراوغة والتضليل، وتضييق فرص الحصول على تحقيق مكاسب معلوماتية بشتى وسائلها البشرية، والتقنية.
  • الرواية البوليسية كثيراً ما يتداخل في نسجها الخيال بالواقع، فمن المألوف أن تأخذ أحداثها بُعداً خياليًّا، بينما يعتمد بناء الرواية المخابراتية – في الأعم الأغلب – على حقائق الواقعية الصارمة، والشخصيات التي تنتمي إلى الواقع بقوة، بما يجعل المعلومات، والوثائق جزءًا أصيلاً في بناء أحداثها.
  • يتعلق الصراع في الرواية البوليسية بارتكاب جريمة في حق فرد أو جماعة بعينها، أما الرواية المخابراتية فيكون الصراع فيها متعلقًا بأمن وطن بأكمله، ومن ثم يكون أكثر احتدامًا في بواعثه، وما قد يترتب عليها من آثار.
  • على الرغم من أن المغامرة، والمراوغة من الأمور التي تجمع بين الروايتين، ولكن العنف هو السمة الغالبة على الرواية البوليسية، فالمغامرة فيها تعتمد على الذكاء، والقدرة الذهنية أكثر من المهارة البدنية.
  • البواعث الإجرامية التي تقف وراء الروايات البوليسية تختلف عن دوافع الإجرام في الرواية المخابراتية، فالانتماءات القومية، وتصادم المصالح الوطنية سياسيًّا واقتصادياً أهم ما يقف وراء مخططات الجاسوسية ومآربها؛ إذ أن الصراع في الرواية المخابراتية يقع بين دولتين أو أكثر تختلف الثقافات، والانتماءات بمرجعيات، واعتبارات عدة، بينما في الرواية البوليسية تنتمي الشخصيات إلى ثقافة اجتماعية واحدة([14]).

نشأة الرواية البوليسية في الأدب العربي:

لا بد في دراسة أي نوع من الأنواع الأدبية التي ولجت بوابة الأدب العربي، من دراسة نشأتها والرجوع إلى بوادر ظهورها في الأدب الغربي والاطلاع على دورة انتقالها للأدب العربي وبداية فن جديد. فقد نشط هذا الاتجاه في الأدب الغربي مع اندلاع الحرب الباردة متأثراً بنشاط أعمال الجاسوسية بين الدول الحليفة، بحيث تصدرت روايات ذلك الأدب الجديد قوائم المبيعات، إلى أن فقد بريقه مع انتهاء الحرب الباردة، وتغير الأوضاع السياسية، باعتبار أن التحول إلى السياسة قد تصيب كتاب الجاسوسية بالارتباك والتشوش، انتقلت الفنون النثرية بأشكالها المتعددة للعرب بعد الفتوحات الإسلامية، والاطلاع على ثقافات جديدة بداية من العصر العباسي، ومع مرور الزمن، وبالضبط فترة عصر النهضة العربية.

والرواية البوليسية حديثة المولد في الأدب العربي، ومن الأنواع التي تتطلب بيئة معينة، وجواً خاصاً. وأتت في أدبنا مستجيبة في مضمونها، وأحداثها، وطبيعة شخصياتها لمستجدات الواقع العربي، وما تقتضيه عوامل التطور في الفن الروائي، وبواعث دخول اتجاهات جديدة إليه، “ولم تأتِ تأثراً بالأدب الغربي رغم أسبقيته”([15]). وعلى أساس أن الرواية أصبحت جنساً أدبياً لا يمكن مجاراته، فإن بعض المبعدين العرب حاولوا تطعيم أقلامهم بمعالجة أنواع الرواية كالبوليسية مثلاً، فكان السرد البوليسي عنصراً من عناصر التأسيس في هذه التجربة، حيث نجد روايات كسلسلة “رجل المستحيل” لنبيل فاروق علامة فارقة في الكتابة الروائية البوليسية العربية، حيث نلمس الدور الكبير الذي قام به النص البوليسي في إثراء التجربة الروائية العربية، وما له من تأثير في كتابة، وقراءة أبعاد فكرية، واجتماعية، وأخلاقية متنوعة. وبالرغم من محدودية الرواية البوليسية في الوطن العربي كنوع روائي قائم بذاته – وهي محدودية يقف ورائها عدة عوامل ستتعرض لها الرسالة في موضعها- وعلى الرغم من ممارسة الدارسين والنقاد التحفظ في أقوالهم، وأحكامهم إزائها، فقد استطاعت أن تحقق مقروئية عالية، وإقبالاً هائلاً من القراء، وانتشارًا وذيوعًا كبيرين بالنظر إلى ما أتيح من نتاج فيها. وتدريجيا تفتح الرواية المخابراتية بابًا واسعًا أمام الإقبال الجماهيري على تلك الأعمال التي جعلت وقائع الجاسوسية عالمًا فنّيًا يُسرد، كما يقول عبد الرحيم مؤدّن: “وبالإضافة إلى هذا وذاك ساهمت الرواية البوليسية بدور تأسيسي في ظهور الرواية العربية، ومن ثمة جسّدت هذه الرواية مرحلة انتقال من السرد الشفهي إلى السرد المكتوب، من الحكاية إلى القصة، من التراث الحكائي إلى الاقتباس، والترجمة، والتعريب”([16]).

لو تقصينا الأمور لأدى بنا ذلك إلى أن المرحلة التاريخية التي أعقبت النكسة فرضت أن يكون الأدب البوليسي جزءاً مهمًا في الصراع العربي الإسرائيلي، إذ يشكل الباعث الوطني أحد أهم الأسباب التي تقف وراء ظهور هذا اللون في أدبنا العربي، وهي بذلك تشكل أحد مظاهر القومية فيه، والتعبير عن الشخصية العربية بهمومها وأهدافها المشتركة، اتكاءاً على “الصلة الوثيقة بين تطور الهمّ القومي، وتطوّر الهم الروائي، وهو ما ينعكس على الجنس الأدبي أو الروائي بوجه خاص من بدهية أن الرواية بطبيعتها فن قومي”([17]).  فامتداد الصراع في تلك الحرب الخفية عمل أولاً على نشأة هذا الاتجاه في الأدب العربي. وبعد هذا الصراع كانت بواعث هذا الاتجاه قائمة لا تنقطع، وأضافت إلى مسيرة هذا الاتجاه في أدبنا عنصراً آخر لنشأته، حيث أن التحولات الطارئة على العلوم، والمعارف المتراكمة، والتغيرات العالمية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية منذ القرن التاسع عشر، وحتى أواسط، وأواخر القرن العشرين، كل ذلك كان سبباً رئيساً لظهور أنواع من الكتابات أراد بها أصحابها معالجة مشاكل المجتمعات العالمية دون استثناء، أو بعض مشكلات طبقات المجتمعات المحلية التي تنتمي إليها، مما جعل انتماء هذه الصنوف من الكتابات إلى الحقل الأدبي أمراً تشوبه الكثير من العوائق المعرفية والعلمية التي حدّدت للأدب مفهوماً معيناً خلصه من شكلية الكتابة العابرة. ارتبط ظهور الرواية البوليسية بالمعنى الفني في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين بتطور المجتمع الرأسمالي، واتساع المدن الصناعية الحديثة([18]).

للكاتب عادل محمد كتاب يسلط الضوء على وجود الرواية المخابراتية وأهدافها، نلخص ما قاله فيه: “نشأت الرواية المخابراتية في أدبنا العربي تلبية لطبيعة المرحلة التاريخية التي أعقبت النكسة، وهي مرحلة فرضت أن يكون الأدب جزءاً مهمًا في الصراع العربي الإسرائيلي، رغم أن مسيرة الأدب المخابراتي لم ينقطع مع انتهاء الصراع العسكري، وعقد اتفاقيات سلام بين مصر وإسرائيل. وامتداد الصراع في تلك الحرب الخفية التي ستبقى جزءاً من طبيعة العلاقة بين العرب، ومخططات الصهيونية، يؤكدها سقوط شبكات التجسس التي تم الكشف عنها، أو مما لم يكشف عنها، وقد تكون يومًا مادة لعمل روائي يضاف إلى مسيرة هذا الاتجاه في أدبنا، وهذا الامتداد إحدى النقاط المؤكدة لخصوصية نشأة هذا الاتجاه في الأدب العربي في ارتباطه ببواعثه، وظروفه السياسية الخاصة، رغم البطء الشديد في مسيرته الإبداعية”([19]).

أصول الرواية البوليسية الأولى:

لو تصدينا للحديث عن نشأة الرواية البوليسية وتطوّرها لوصلنا إلى أن الرواية البوليسية إنتاج حمم الحضارة المتمدنة، وجدت نشأتها وتطوّرها خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر في أوربا، في الفترة الصاخبة، حيث تعاقبت الحكومات، وكانت تُسمّى “الرواية القضائية”، كما نُلفي الناقد “ميشال لوبران” يعلّق على هذا الجانب بقوله: “إن بحثه سيتناول أول بدايات هذا الجنس في فرنسا في القرن التاسع عشر، في الوقت الذي لم تكن التسمية “الرواية البوليسية” موجودة بعدُ في مصطلح المؤرخين للأدب، وحين كان الجنس جنينًا في رحم الرواية الشعبية وروايات أخرى”، إلا أن الرواية البوليسية أصبحت جنسًا أدبيًا متميز المعالم بعد العشرينيات من القرن العشرين، على يد الفيلولوج الأمريكي فان دين [Van Dine]. وعناصر جوهرية للرواية البوليسية؛ كالمحقق مثلاً، لم تظهر بصورتها الكاملة إلا في العشرينيات من القرن العشرين في شخصية أركيل بوارو [Hercule Poiro] بإنجلترا في رواية لأجاتا كريستي.

أهمية الرواية البوليسية:

إذا كان من الثابت أن فنون الأدب لها من الغايات ما يجعلها تتجاوز مجرد تحقيق المتعة الفنية لجماليات الإبداع؛ فإن ذلك يجعلنا لنبحث عن الأبعاد الأخرى التي تضاف إلى الأهمية الفنية لروايات هذا الاتجاه. فتكتسب الرواية البوليسية أو المخابراتية أهميتها من عدة مصادر، منها:

  1. هي رواية قضية، تنقل لنا واقعًا يحتشد بالصراعات الإنسانية، وبواعثها الحضارية في إطار فني، وتبرز الصراع الدائر بين المجتمعات الإنسانية الذي يُعدّ ركنًا أساسيًّا في بناء أحداثها، وهو صراع يتشكل من بواعث عدة، كحفاظ تلك المجتمعات على أمنها.
  2. تسهم أحداث هذه الروايات في تعزيز الانتماء، والشعور بالمسؤولية الوطنية، وتحمل المرء على درء المخاطر التي تهدد الوطن، وحماية مصالحه المشروعة. وتؤدي بالقارئ إلى الوقوف على الصراع المفتوح الذي لا يتحدد بمرحلة، أو فترات نزاع ضد رغبة بعض القوى الاستعمارية في فرض الهيمنة والاستحواذ، وتحقيق مطامعها التوسعية. وكذلك لها التأثير في سياسات الدول، وقراراتها الذي يمكّن منه اختراق أمنها المعلوماتي، والوقوف على مواطن القوة، والضعف لديها، ومن ثَمّ هو أدب يُظهر معه الصراع الحضاري القائم بين القوى المتنافرة، والاستجابة للأطماع البشرية التي ستبقى تهديداً لمفهوم التعايش الإنساني.
  3. تعتبر الرواية البوليسية ظاهرة مذهلة بسبب توافد القراء عليها، وانتشار أعداد هائلة منها في الأسواق، مما أدى إلى دراستها نقديا، وفنيا ومعالجة هذه الظاهرة من قبل الدارسين، والباحثين، وهو مصدر ثالث تقتبس منه الرواية البوليسية أهميتها.
  4. تؤدي تلك الروايات دوراً مهماً في تعميق ثقة الفرد بوجود سياج قويٍّ آمن يحمي وطنه ومكتسباته من أي اختراق أو تهديد، وتتعلق هذه الأهمية بأحد أهم الأسباب التي وقفت وراء نشأة تلك الروايات في الأدب العربي.
  5. من شأن تلك الأعمال أن تعمق ثقة كل مواطن بهويته وقوميته، وبقدرة دولته على التصدي لمخططات الإضعاف التي تروجها أعداؤها. وأحداث هذه الأعمال تقوم على استعراض المهارة الذهنية، والتفوق المعرفي والمعلوماتي اللذين يشكلان جزءاً أساسياً من أدوات التغلب على شعور سلبي.
  6. قد تشكل أحداث تلك الأعمال دوراً وقائياً له أهميته في مواجهة أعمال الجاسوسية، من خلال التعريف ببعض الوسائل، والمداخل التي يستخدمها أعداء الوطن في استدراج أبنائه إلى هاوية الخيانة، وأشار رئيس المخابرات العامة المصرية الأسبق “كمال حسن علي” في مذكراته إلى أهمية تلك الأعمال الأدبية في تعزيز الوعي بالوسائل التي تمثل غطاء لمخططات الجاسوسية([20]).
  7. تكشف هذه الأعمال بطولات وطنية وفدائية لأبطال القصة في سبيل حماية الوطن، وتعمل على إرساء معاني العطاء، والوفاء في النفوس، ولا سيما لدى الشباب، وتحمل في طياتها تكريماً معنوياً لهؤلاء الأبطال.
  8. يعكس هذا الأدب جانباً إنسانياً له أهميته، وهو الصراع الأبدي القائم بين الخير والشر في تاريخ الإنسان، فما دام أن هناك مجتمعات بشرية سيبقى الخير والشر في صراع لا ينقطع، وستبقى “الجاسوسية” إحدى وسائل هذا الصدام([21]).

بالإضافة إلى تلك الأهمية التي تحتفظ بها الرواية البوليسية، لها سمات مميزة لا تنفك عنها، وهي ما يعطيها خاصية التفرد عن باقي الأجناس النثرية، أو الروائية “وهو جنس أدبي لا يمكن التحرر من القيود المفروضة عليه مسبقا، وهو إن حاول التحرر من هذه القيود تَجرَد من سمة البوليسية، وتَحوَل إلى مجرد أدب عادي” ([22]).

الأدب البوليسي واللغة العربية

كل العرب الذين كتبوا في الأدب البوليسي على حياء، وهم أيضاً قليلون، على غير ما ظهرت هذه الظاهرة في الأدب الغربي، ودول أخرى في العالم، فالأديب العربي لم يلتفت إلى هذه الأجواء، وظل بعيداً عنها، فحُرم أدبنا من هذا الجنس في الحياة الثقافية، ويعتبر نقصاً وحالة سلبية يعاني منها الأدب العربي بشكل عام. تتجاوز الرواية البوليسية مجرد تحقيق المتعة الفنية لجماليات الإبداع؛ فإن ذلك يجعلنا لنبحث عن الأبعاد الأخرى التي تضاف إلى الأهمية الفنية لروايات هذا الاتجاه.

الرواية البوليسية العربية والبحث عن الذات:

وإن كانت الحداثة العربية قد استطاعت في حقب زمنية متتالية جلب أشكال كثيرة من الفنون والمعارف، واستعارة أصناف من المهارات، وأساليب العيش. فقد استعصى عليها استيراد شكل فني أدبي محدد، بقي متمرداً على كل محاولة، إنه الرواية البوليسية([23]). فهي فن له أدوات خاصة لا بد أن تتوفر في من يغامر في هذا النوع من الكتابة، وله عناصر لا بد من وجودها تتمثل في جرأة في كشف الأسرار، وشجاعة في عرض المؤامرة، وحرية في التعبير، فهي نظراً لتلك الأدوات والعناصر مغامرة كبيرة خاصة في عالم تغيب فيه حرية القلم.

رغم الخلافات البينة بين كتاب الرواية الحديثة من المصريين نجدهم يُنتجون بعض الأعمال في هذا النوع المثير، ومن بين الذين جربوا أن يكتبوا رواية بوليسية مرة واحدة على الأقل: نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي وغيرهم. أما نجيب محفوظ فقد أبدع في ذلك وروايته الرائعة “اللص والكلاب” التي جرت أحداثها في أربعينيات القرن الماضي تعتمد على قصة حقيقية لقاتل أثار الرعب، والهلع في أحياء مدينة الإسكندرية، وقد تابعتها الصحف يوما بعد يوم.

ومن بين المعاصرين يمكن اعتبار رواية “شرف” للأديب صنع الله إبراهيم، واحدة من الروايات التي كانت جريمة القتل محركا أساسيا لأحداثها، وكان التحقيق فيها مبررا للكشف عن كثير من سوءات المجتمع، وتناقضاته، فضلا عن تفنيد مقولات كبرى من نوع العلاقة مع الآخر الغربي كون القتيل كان أجنبيا.

تلعب الرواية البوليسية دور تحفيز القراء على بناء نظرة نقدية، من خلال عملية إدخال القارئ في علاقة تساؤل مستمر دون إعطاء أجوبة. وعلى الرغم من ذلك ظلت الرواية البوليسية لزمن طويل مبعدةً عن مجال الأدب.

الرواية البوليسية العربية والنقاد العرب:

وعلى الرغم من الأهمية الأدبية التي تحظى بها تلك الرواية، يعتبر هذا النوع من الرواية جنسا أدبيا هامشيا في الثقافة العربية، وتندرج ضمن ما يعرف بالأدب الموازي أو أدب الشباب، ورغم أنها قد احتلت مكانة كبيرة لدى القراء، وامتازت بسعة الانتشار وتزايد الإقبال، لم تحظَ بالاهتمام النقدي، والبحثي الذي يتناسب مع قيمتها الإبداعية، وما في مضمونها من أفكار، ومرامٍ تستمد منها أهميتها، بل نجد من النقاد من يرفض الاعتراف بشرعيتها كآداب جادة تستحق اهتمام الدارسين بحجة اعتماد أحداثها على وثائق، ووقائع فعلية، تفتقر معها – وفقًا لهذا الرأي- إلى عنصر الخيال، “فالرأي السائد في أوساط النقد الأدبي أن الرواية البوليسية مستبعدة تماماً من مجال الأدب، فلا يوليها النقاد أي اهتمام، ولا يذكرونها – إذا اضطرتهم الدراسة أو المقارنة إلى الإشارة إليها- إلا موصوفة بالرخص، والابتذال”([24]).

وفي لقاء مع مجلة عربية قال نبيل فاروق: “للأسف النقاد تعاملوا ومازالوا مع الأدب البوليسي، وأدب الجاسوسية باستخفاف، لكن القراء أقبلوا عليه، وأسقطوا مقولات كثيرين ممن أسميتهم ديناصورات المشهد الأدبي، الذين يسيطرون على المشهد إبداعا ونقدا ويفرضون ذوقهم على الناس”([25]). ولفهم مسألة رفض الرواية البوليسية في الأدب العربي لابد من التركيز على عناصر أساسية وهي كما يلي:

  1. رفض المثقفين لهذا النوع من الفنون الأدبية لاعتبار مجرد وصف ونقل لأحداث لا يرتبط بالأدب إطلاقا.
  2. إهمال الدراسات الأدبية، والنقدية لهذا الأدب رغم ما سجله من حضور كبير في ذاكرة الملتقي، ووجدانه ووقع في قلب الإبداع الروائي الخلاق. وقد يكون من بواعث هذا الإهمال النقدي لتلك الأعمال أن النقاد ينظرون إليها على أنها روايات للترفيه تعتمد على تكثيف عنصر الإثارة في أحداثها، رغم ما يمتلكه هذا الاتجاه الروائي من أهمية قد لا يمتلكه غيره من اتجاهات الرواية.
  3. الاختلاف الاجتماعي والفروق السياسية بين العالمين العربي والغربي.
  4. المستوى البلاغي في التعبير الأدبي ففي نظر النقاد الرواية البوليسية تعتمد الأسلوب البسيط، والعبارات السهلة.
  5. انعدام حرية المعلومة وحرية التعبير فلا يتوفر للكاتب العربي ما يتوفر للكاتب الأجنبي.
  6. يعتبرها النقاد العرب مجرد تسلية لا غير، ولا يرون فيها أهدافاً فنية، فالأدب إنتاج إبداعي يبتعد عن هذا النوع من التأليف.([26])

الحركة النقدية كما يقول بعض الأدباء العرب “هي المسؤولة عما وصلت إليه الرواية البوليسية باعتبارها أدبا من الدرجة الثالثة عربيا، ويكاد كتابها يحصون على الأصابع فهو أدب مهمش غير معترف به من قبل النقاد، ولأن تقييمها للإبداع يأتي جافا وأحيانا عدوانيا ولدينا مفاهيم خاطئة”([27]). فالنقاد يعاملونه بفوقية واستعلاء ويعتبرون أن الرواية البوليسية هي مجرد لعبة يرجى منها التسلية كالمسافر، ولا تنتمي إلى حقل الآداب. كما يقول رحيم هادي الشمخي: “فمثلا المتعة، والتفكير وتشغيل العقل من الممنوعات لذلك ليس الأدب البوليسي فقط هو الضحية، وإنما أيضا ننظر للأدب الساخر والأفلام الكوميدية على أنها أقل من المستوى مقارنة بأنواع الإبداع الأخرى، إذ أن كتابنا في الدول العربية بالفعل تشغلهم قضايا وهموم فترة الستينيات، والسبعينيات، فكانت هناك أفلام ثورة على أول الكتابات البوليسية في التاريخ، والكامنة في بطون كتب التراث العربي، وفي مناهل الأدب الأول”([28]). خاض في صميم المسألة الكاتب “حسين دحو” حين قال: “والذين تعرضوا لمقارنة مضامين الكتابة البوليسية بالآداب الكلاسيكية، ركزوا على الجانب الإنساني المفقود في القصة البوليسية”([29]).

ولا يثير أدب اليافعين في العالم العربي اهتمام الناشرين إلا بقدر محدود، ولا ينتج إلا القليل من هذه الإصدارات قياسا إلى الوضع العالمي، وهو ما يضاف إلى مؤشرات أخرى تكرس الوضع الهامشي لليافعين في الفضاء العام. رغم الانتقادات اللاذعة “الأدب البوليسي أدب استهلاكي بالدرجة الأولى”، استطاع الأدب البوليسي لفت الانتباه من أجل القاعدة الجماهيرية الضخمة التي يتمتع بها هذا الفن حاليا فلا يزال الكثير من الكتاب يمتهنون هذا الفن، ويعتمدونه في الكثير من أعمالهم.

أشكال القصص البوليسية وخصائصها الفنية:

تتعدد المسميات أو الأنواع للرواية البوليسية، حيث يمكن الحديث عن أشكال الكتابة القصصية البوليسية وخصائصها الفنية، من خلال المنجز النصي السائد على الشكل الآتي:

  • رواية الجاسوسية: تجلت ميزة هذا النمط الروائي في أنه يستفيد من تقنية النص البوليسي في جانب التحقيق الذي يأخذ في الرواية البوليسية مسارات معقدة، بعد أن أصبح الصراع في هذا النوع من الكتابة صراعاً بين الدول، والمعسكرات خاصة أثناء الحرب الباردة بمظاهرها المختلفة شرقاً، وغرباً([30]). ففي الرواية الجاسوسية قد يختلط الواقع بالخيال، وما هو ممكن قبولها بالعقل بما يرفضه كل منطق، فهو أدب غذته أحداث قبل القرن العشرين، وما جرى فيه من حدثين أسهما في تطور الرواية الجاسوسية، وهما الحربان العالميتان الأولى والثانية، وما تبعهما من حروب، إذ أفرزت الصراعات بين أجهزة مخابرات الغرب، وبفضل هذه الصراعات ولدت آلاف الشخصيات بين صفحات الكتب، وهذه الشخصيات الروائية اكتسبت جماهيرية هائلة، ومن أشهرهم على الإطلاق “جيمس بوند” والتي تحولت إلى شخصية عالمية من الأفلام السينمائية، وشخصية “أدهم صبري” و”رأفت الهجان” عند العرب.

وتجسد شخصية “جيمس بوند” المثال الحي لأدب التجسس عند الغربيين، إذ يمثل البطل الخارق، الجريء، المغامر، الرياضي، خفيف الظل، الجذاب، الأنيق، المتقد الذاكرة، الواثق من نفسه، القادر على المنازلة والقتال، المنتصر دوما، وظلت صورة “بوند” مكرسة كأنموذج ثقافي دال على حضارة الغرب، في سلسلة أفلام طوال نحو ثلث قرن أو أكثر.

أما “رأفت الهجان” فهو بطل روايات الراحل المبدع “صالح مرسي”. لعلها أبرز الروايات البوليسية التجسسية التي اعتبرت تدشيناً لميلاد جديد لروايات ذلك الأدب، وبوابة جديدة فريدة تفتح بقوة لأول مرة، والتي تحولت فيما بعد إلى مسلسل تلفزيوني شهير لاقى نجاحا معتبرا.

وتمثل شخصية “أدهم صبري” علامة فارقة في الشخصيات التي ساهمت في كتابة تاريخ ملفات المخابرات المصرية. ويعتبر الدكتور بلقاسم مارس، الأستاذ بجامعة قابس التونسية، أن نبيل فاروق من أشهر كتاب الرّواية البوليسيّة في الوطن العربي، وذلك بفضل سلسلة “رجل المستحيل” التي بطلها “أدهم صبري”.

  • الرواية البوليسية التقليدية (النموذجية): وهي الرواية التي تحترم قواعد التأليف في القص البوليسي من جريمة، وتحقيق، ومطاردة، ونهاية، تكشف أسرار الجريمة. ومن الطبيعي أن تخلو القصة من التحليل النفسي من جهة، ومن القص العاطفي من جهة ثانية. وهي بالإضافة إلى ذلك المعجم الوظيفي المرتبط باللغة اليومية البعيدة عن التقعر البلاغي، أو الحذلقة اللغوية([31]). لأن تركيب الكاتب على الأدب، والعبارة، والتعبيرات أكثر منها بالموضوعية والفنية يؤدي تارة بالرواية إلى الفشل في مهمتها، وهي تقديم المتعة للإنسان في ساعة الفراغ، وتقديم الشعور بالخلاص من قيود الشؤون العملية. تكمن نقطة انطلاق هذا النوع من الروايات بوقوع الجريمة، والعثور على الجثة في مكان ما، والتحقيق يبدأ على معنى الحادثة، وتوجيه المسؤولية عنها إلى شخص، أو مجموعة كما يحصل في المآمرة.
  • الرواية السوداء أو الرواية ذات اللغز: ظهرت في عشرينيات القرن الماضي، وتتميز بالجريمة الباردة التي مارسها أنواع من العملاء شرقاً وغرباً، وتتمحور معظم قصصها على المجرم الشديد المِراس، والإجراءات المشوّقة، والعنف الأسلوبي القصصي النابض بالحياة. وتدور الشخصية المحورية في هذه الرواية حول المجرم الذي يخضع بدوره للمطاردات الدموية، والتحقيقات لامتلاك أسرار الدول، والمؤسسات العلمية، والعسكرية، والأمنية. وقد تقتصر هذه الروايات الملغزة على الجريمة الفردية، داخل عصابات محدودة، أحياناً، أو، من ناحية أخرى، بسبب مصالح ذاتية تتحكم فيها نزوات خاصة، أو عقد نفسية، وظروف اجتماعية.

وتضم الرواية السوداء نوعا أدبياً واسع الانتشار والشيوع، يمر بأفضل أوقاته، ويمكن أن يجد فيه القراء موضوعات مختلفة ترضي جميع الأذواق. وسميت بهذا الاسم للغموض الذي يصاحبها وصعوبة فك ألغازها، ولأن أحداثها تدور في ظلام الليل عادة لارتباطها بالجريمة ومتعلقاتها، ولأن أشكال الجريمة فيها تتعقد تعقّداً يجعل الشرطة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة، بل ربما يجعلها عمياء عن رؤية لحل الألغاز والأحداث وهوية أشخاصها. وتفاصيلها تتركك في انبهار، وتجعلك تتخيل في صحة وصدق ما لم تره، وحوادثها تبدو كأنها طبيعية تنشأ وحدها من غير تكلف، فتثير قراءتها الرعب، والعتمة لما يلاقي أبطالها من أهوال وشدائد.

ومن الخصائص الفنية للرواية السوداء يذكرها لنا “شرشار” ما يلي:

  1. يتحول المحقق من رجل بحث، وتحليل الظواهر المادية والنفسية إلى مطارد عنيف يمكن أن يلجأ إلى القتل للدفاع عن نفسه، أو موكله في جو مليء بالعنف، والخوف.
  2. تتحول عملية التحقيق إلى مطاردة فعلية تشبه مطاردة الصياد لصيده.
  3. يكون التركيز في هذه الرواية على المجرم باعتباره الشخصية الصانعة للحدث والموجهة له، يشبه المحقق في كل شيء إلا أنه يختلف عنه في الباعث، والغاية من ارتكاب الجريمة، أو جرائم عدة([32]).

والرواية السوداء “تنقسم عادة إلى فئتين متقابلتين: فئة الضحايا الأبرياء الذين يكادون لا يفقهون من غرائب ما يقع لهم شيئاً، وفئة المجرمين المتوحشين الذين يتعطشون إلى الدم فيندفعو فيما يشبه الجنون إلى القتل”([33]).

  • الرواية التشويقية:

أنواع الروايات البوليسية عديدة ويحتاج كلها إلى كِتْمان العقدة في النهاية حتى لا تضيع لذة القراءة على القارئ، وأشد أنواع الرواية البوليسية حاجة إلى هذا الكِتمان هي روايات التشويق [suspense novel]، فهذا النوع من الرواية شديد الجاذبية إذ يتحقق التشويق بمسحة التعاطف مع الشخص المُدان التي يبديها القارئ. تحبس هذه الرواية نفس القارئ بما فيه من تسلسل مفاجآت، وانقلاب مواقف، ولذا يحرص النقاد على عدم كشف العقدة في مقالاتهم، فيما يحرص القارئ على عدم قراءة النقد عادة قبل قراءة الرواية نفسها، ويحوم صلب الشخصية المحورية في الرواية التشويقية حول: الضحية أي الشخص المتهم البريء الذي أدين في جريمة لم يرتكبها. فهي رواية قوامها التشويق والإثارة، حيث تقدم الرواية في صورة ألغاز الجريمة التي يسعى القارئ إلى حلها طوال فترة قراءته للرواية، أو مشاهدته لها بالبحث عن المجرم من خلال تتبع الأحداث ومسارها.

تعد رواية “نحن المحلفون” لـ “أجاثا كريستي” مثالا يحتذى به في الروايات التشويقية المشهورة على مستوى العالم، إذ تدور أحداثها في قاعة محاكمة لرجل متهم بجريمة قتل. ومن الخصائص التي تتميز بها الرواية التشويقية نذكر فيما يلي:

  1. رواية الضحية، وتتركز الأحداث حول هذه الشخصية باعتبارها شخصية محورية يراعى في هذا الاتجاه العناية بتصوير الصراع، والتركيز عليه بين الضحية والمجرم.
  2. يحدد عنصر التشويق في هذه الرواية بالتركيز على عملية مطاردة الضحية، ونصب الشراك لها، لحظة القضاء عليها.
  3. شخصية الضحية تبدو في كل الأعمال بريئة، وقاصرة عن إثبات برائتها إلى آخر لحظة منها، وتذهب (الجريمة) بها إلى حبل المشنقة.
  4. تقديم الحجج الكفيلة، وإدانة المجرم بكيفية منطقية مُدَعّمة بالأدلة المادية([34]).

الهوامش:

([1]) فيكتور سحاب، مقال موسوم بـ: الكتابة البوليسية، فصول، مجلة النقد الأدبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مجلد: 02، ع: 02، يناير/ فبراير/مارس 1982م، ص: 39.

 ([2]) محمد محمد حسن طبيل، تحولات الرواية التاريخية في الأدب العربي، رسالة ماجستير، إشراف يوسف موسى زرقه، الجامعة الإسلامية، غزة، 2016، ص02.

([3]) آمال برحمة، تأثير الرواية الأمريكية على الرواية العربية قراءة في رواية منذر القباني، رسالة دكتوراه، إشراف أ. د. الأحمر الحاج، كلية الآداب واللّغات والفنون الجزائر، 2019-2020م، ص-11.

([4]) تأليف: مجموعة من المؤلفين، إشراف: محمد القاضي، معجم السرديات، دار محمد علي للنشر، تونس، الطبعة الأولى، 2010، ص: 210.

([5]) عبد الرحيم مؤدن، مقال موسوم بـ: القصة البوليسية في الأدب المغربي الحديث، فصول، مجلة النقد الأدبي، علمية محكمة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ع: 76/صيف خريف 2009م، ص: 85.

([6]) نفس المرجع، ص: 83.

([7]) Tebba Khalil, detecting the detective elements in Dan Brown’s the da vinci code, p13, university of Telemcen, Master’s degree, 2015-2016.

([8]) عبد القادر شرشار، بحث في النظرية والأصول التاريخية والخصائص الفنية وأثر ذلك في الرواية العربية، منشورات اتحاد كتاب العرب، دط دمشق، 2003م، ص: 95.

([9]) أنظر: عبد الإله عبد القادر، مجلة البيان، 31 أكتوبر 2017.

([10]) ابن منظور، لسان العرب، المجلد الثالث، ص13، الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربي، لبنان، 1999.

([11]) عادل محمد عبد الحميد على نيل، الرواية المخابراتية في الأدب العربي الحديث، دط المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2017، ص: 16.

([12]) محمود قاسم، رواية التجسس والصراع العربي الإسرائيلي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1990م، ص: 21.

([13]) عادل محمد عبد الحميد على نيل، الرواية المخابراتية في الأدب العربي الحديث، دط المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2017، ص: 540.

([14]) أنظر: عادل محمد عبد الحميد على نيل، الرواية المخابراتية في الأدب العربي الحديث، دط المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2017، ص: 540- 542.

([15]) عادل محمد عبد الحميد على نيل، الرواية المخابراتية في الأدب العربي الحديث، المجلس الأعلى للثقافة، دط القاهرة، 2017، ص: 511.

([16]) عبد الرحيم مؤدّن، القصة البوليسة في الأدب المغربي الحديث، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ع: 76، صيف/خريف 2009، ص: 85.

([17]) د. مصطفي عبد الغني، الاتجاه القومي في الرواية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت عالم المعرفة، العدد (188)، أغسطس، 1994م، ص: 35، بتصرف.

([18]) تأليف: مجموعة من المؤلفين، إشراف: محمد القاضي، معجم السرديات، ص 208، دار محمد علي للنشر، تونس، ط1 2010.

(167) أنظر: عادل محمد عبد الحميد على نيل، الرواية المخابراتية في الأدب العربي الحديث، المجلس الأعلى للثقافة، دط القاهرة، 2017، ص: 521.

([20]) كمال حسن علي، مشاوير العمر، دار الشروق، القاهرة، ط.2 1994م، ص: 382.

([21]) عادل محمد عبد الحميد على نيل، الرواية المخابراتية في الأدب العربي الحديث، المجلس الأعلى للثقافة، دط القاهرة، 2017، ص: 534.

([22]) حسين دحو، الأدب الموازي في الأدب العربي إشكالية المفهوم والنظرية، دراسة في الكتابة البوليسية العربية، مجلة مقاليد، العدد التاسع، ورقلة، ديسمبر، 2015، ص: 12.

([23]) عبد القادر شرشار، بحث في النظرية والأصول التاريخية والخصائص الفنية وأثر ذلك في الرواية العربية، منشورات اتحاد كتاب العرب، د.ط. دمشق، 2003م، ص: 95.

([24]) الرواية البوليسية، عبد الرحمن فهمي، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد الثاني، يناير- فبراير- مارس، 1982م، ص: 39.

([25]) نبيل فاروق، الرواية البوليسية: احتفاء القراء وإهمال النقاد، المجلة العربية، الرياض، عدد: 473، مارس 2016م، ص: 15.

([26]) آمال برحمة، تأثير الرواية الأمريكية على الرواية العربية قراءة في رواية منذر القباني، رسالة دكتوراه، إشراف أ. د. الأحمر الحاج، كلية الآداب واللّغات والفنون، الجزائر، 2019 -2020م، ص: 24.

([27]) رحيم هادي الشمخي، الرواية البوليسية أدب من الدرجة الثالثة عربيا، يومية الثورة، مؤسسة الوحدة للصحافة، 23 -10 -2011م.

([28]) نفس المرجع.

([29]) حسين دحو، الأدب الموازي في الأدب العربي إشكالية المفهوم والنظرية، دراسة في الكتابة البوليسية العربية، مجلة مقاليد، العدد التاسع، ورقلة، ديسمبر، 2015م، ص: 12.

([30]) عبد الرحيم مؤدن، القصة البوليسية في الأدب المغربي الحديث، مجلة فصول، ص: 84.

([31]) نفس المرجع، ص: 85.

([32]) عبد القادر شرشار، الرواية البوليسية: بحث في النظرية والأصول التاريخية والخصائص الفنية وأثر ذلك في الرواية العربية، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 2003، ص: 63.

([33])  محمد القاضي، معجم السرديات، دار محمد علي للنشر، تونس، ط1، 2010م، ص: 218.

([34]) عبد القادر شرشار، الرواية البوليسية: بحث في النظرية والأصول التاريخية والخصائص الفنية وأثر ذلك في الرواية العربية، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2003، ص: 63.

المراجع:

  1. سعيد يقطين: قضايا الرواية العربية الجديدة، رؤية للنشر والتوزيع، 2010م.
  2. شكري عزيز القاضي: أنماط الرواية العربية الجديدة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، الكويت، 2007م.
  3. عادل محمد عبد الحميد علي نيل: الرواية المخابراتية في الأدب العربي الحديث، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2017.
  4. عبد الرحمن ياغي: الجهود الروائية حركة الترجمة في مصر في القرن العشرين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م.
  5. عبد القادر شرشار: الرواية البوليسية: بحث في النظرية والأصول التاريخية والخصائص الفنية وأثر ذلك في الرواية العربية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ٢٠٠٣م.
  1. عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد، دار علم المعرفة، الكويت، 1998.
  2. عزيزة مريدن: القصة والرواية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1971م.
  1. منذر القباني: حكومة الظل، الدار العربية للعلوم- ناشرون، ط.2، 2007م.