الدكتور فواز عبد العزيز المبار كفوري

كانت حياة العرب في الجاهلية، تقوم على الجهل، الذي هو التطاول والبغي والإشراك بالله وعبادة الاصنام وإتيان الفواحش وغير ذلك من مظاهر الجاهلية.فجاء الإسلام وغير نمط هذه الحياة الجاهلية، وأخرج العرب من الظلمات الى النور، ومن دياجير الظلام إلى أنوار الهداية، وأثر في حياتهم تأثيراً كبيراً، ورسم لهم طريقاً جديداً، ونبذ طريقهم القديم.

          والأدب بشعره ونثره مظهر من مظاهر الحياة المختلفة، أثر فيه الإسلام كما أثر في غير من نواحي الحياة، و الادب هويعبر بواسطة اللغة، فلا يمكن أن نتصور أدباً  بدون لغة، وبناء على ذلك، فإن اللغة تأثرت بالإسلام تأثرا ملموساً في طرق التعبير المختلفة، سواء كان ذلك في المفردات أو في التراكيب أو في البناء العام.

إن الإسلام رسم الطريق للأدب ووضحه، فمن الادباء من انتفع بذلك المنهج الإلهي، فسار على نهجه، ومنهم من لمم ينتفع بما رسمه الإسلام عن طريق القرآن، وانما رجع الى تقليد الجاهلين، والسير على نهجهم، كما حصل من بعض الشعراء في صدر الإسلام وما بعده وهؤلاء وأولئك ينطبق عليهم الحديث الشريف.

       “إن مثل ما بعثني الله به عن الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلاء والعشب الكثير، وكان منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منه وسقوا ودعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان، لا تمسك ولا تنبت كلاء”.(أخرجه البخاري ومسلم).

ولقد دقق القران الكريم ألفاظ اللغة وأبعد ها عن الجفاء والغلظة، كما حول أساليبها الى العذوبة والسلاسة، وقد أسهم المسلمون من غير العرب في رقي أدب اللغة العربية، فبرز شعراء وخطباء وكتاب أسهموا بنصيب كبير في تو سيع الأدب وتنويع أغراضه.

وبما أن القرآن جاء بفكر جديد، يحتاج الى شرح وتوضيح، فقد برزت الخطابة بأساليبها الجديدة، كما توسع كتاب الرسائل في التفنن في رسائلهم، وبرزت المناظرات بفنونها الأدبية والبلاغية فأثر القرآن الكريم في اللغة والأدب ظاهر وجلي، وسنحاول توضيحه وشرحه، وإبراز النقاط المهمة في هذا الموضوع، وبالله التوفيق.

القرآن الكريم:

القرآن المجيد: هو أول كتاب دون في اللغة العربية , فدراسته ضرورية لطالب تاريخ الأدب، لأنه مظهر من مظاهر الحياة العقلية والأدبية عند العرب في أواخر القرن السادس و أوائل القرن السابع، وهو الكتاب المحكم الذي أنزله الله على سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم،  ليكون هادياً و مرشدا لأهل الأرض تتلقاه القلوب بكل طمأنينة و تنشرح له الصدور هو كلام الله المبين أرسله عن طريق جبريل الأمين إلى نبي هذا الأمة فدعا محمد صلى الله عليه وسلم البشر كله إلى الإيمان بهذا القرآن وحفظه وتبليغه فآمن به الصحابة وحفظوه وأصبح سلاحهم ضد أعدائهم فسار الأمن بينهم وأصبح المهاجرون والأنصار إخوة متحابين في الله يأتمرون بأمره و يقفون عند حدوده، بعد أن كانت العصبية فتكتهم.

 وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفضل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته، حتى قالوا: “إنا سمعنا قرآنا عجبًا يهدي الى الرشد فآمنا به” من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا اليه هُدي الى صراط مستقيم” (أخرجه الترمذي).

أسلوبه:

نزل القرآن بأسلوب بديع، لا عهد للآذان ولا للأذهان بمثله، فلا هو موزون مقفى، ولا هو سجع، يتجزأ فيه المعنى في عدد من الفقر، ولا هو مرسل يطرد أسلوبه دون تقطيع ولا تسجيع، إنما هو آيات مفصلات متزاوجة، يسكت عندها الصوت ويسكن الذهن لاستقلالها بالمعنى، وانسجامها مع روح القاري ووجدانه.

نزل القرآن الكريم منجماً في نحو من ثلاث وعشرين سنة، على حسب ما يعرض من الحوادث، منها ثلاث عشرة سنة في مكة، نزلت خلالها ثلاث وتسعون سورة، وعشرة بالمدينة، نزل فيها إحدى وعشرون سورة، ولقد حاول بعض الناس الإتيان بمثله، فما نجحوا بل خابوا وخسروا وذهبت جهودهم سدىً.

وهو بحق مفخرة العرب، إذ لم يتح لأمة من الأمم كتاب مثله، لا ديني ولا دنيوي من حيث البلاغة والتأثير في النفوس والقلوب، يروع سامعيه ويأخذ بمجامع قلوبهم، سواء أكانوا من أنصاره، أم كانوا من أعدائه؟

إعجاز القرآن الكريم وبلاغته:

انعقد الإجماع على أن القرآن المجيد معجز، واختلفوا في سبب إعجازه، فذهب بعضهم الى شرف غرضه، وتنوع قصده وإخباره الغيب، وذهب آخرون إلى فصاحته الرائعة، ومذهبه الواضح وأسلوبه الحكيم الموثق.

ولقد أيد الله رسله بالمعجزات، فأيد موسى عليه السلام بفلق البحر وانقلاب العصا حية تسعى وتفجر الصخر بعيون الماء وغير ذلك.وجعل معجزة عيسى عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص، وخلق الطير واحياء الموتى بإذن الله، وجعل الله معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، لأن العرب كانوا يعتزون بالبيان والفصاحة، فجاء القرآن معجزاً لهم في ذلك، وإعجازه يتمثل فيما يلي:

الإخبار عن الغيوب:

لقد أخبرنا القرآن المجيد بكثير من المعجزات التي يستحيل على البشر معرفتها، من ذلك قوله تعالى: “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون” (التوبة: 33) فكان الصحابة رضوان الله عليهم يقرأون هذه الآية، ويثقون بوعد الله ونصره ثقة تامة وقال الله تعالى في الكافرين: “قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم وبئس المعاد” (آل عمران: 12) ولقد غلب الكافرون وذلوا، كما أخبرنا القرآن الكريم.

الإخبار عن الأمم الماضية:

لقد أخبرنا القرآن المجيد بقصة آدم عليه السلام منذ بدء خلقه حتى خروجه من الجنة، وكذلك أخبرنا بقصة نوح وهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السلام وغيرهم من الأنبياء والرسل، ولا شك أن هذه الأخبار من الأشياء المعجزة، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم أمي، فمن أين جاءته هذه الأخبار؟

قال الله تعالى: “ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك” (غافر:78)، يرى كثير من العلماء، أن إعجاز القرآن يتمثل في بلاغته، ذلك أن الذي بهر العرب وأفحمهم، هو بديع نظم القرآن وروعة تأليفه، مما لم يعهده العرب في فصحائهم وبلغائهم.

لقد كانت قريش منبع الفصاحة والبلاغة، فحاول أبطالها محاكاة هذا القرآن فعجزوا لقد أسقطوا في أيدهم وعلموا أنهم عاجزون.

ويمكن أعجاز القرآن في أنه لا يضعف في موضع ويقوى في موضع آخر، إنما هو على درجة واحدة من القوة والمتانة والتأثير، فخطب العرب وأشعارهم لا تسير على درجة واحدة، ولا يكون قوياً في كل مواضعه، فلا يوجد فيه الحوشي المستكره، ولا الغريب المعمى، ولا الكلمة السوقية الساقطة.

قال تعالى: “يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوا منه ضعف الطالب والمطلوب” (الحج 73)، فالمعنى الذي تحمله هذه الآية، وهو ضعف المدعو من دون الله، فهو لا يستطيع أن ينفع نفسه، فكيف ينفع الآخرين، وحيث أن هذا المعنى مطابق للواقع الذي يعيشه البشر، فقد أثرت هذه الآية في النفوس تأثيراً قوياً.

وقال تعالى في أسلوب مختصر شيق: “خذ العفو وَأْمُرْ بالعرف وأعرض عن الجاهلين”  (الأعراف: 199).

وأسلوب القرآن في تأديته للمعاني الكثيرة في لفظ قليل لا يمكن أن يحاكى، فقد عرض الله سبحانه قصة الطوفان في أسلوب جذاب، يدهش العقل: “وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداًً للقوم الظالمين” (هود: 44).

وكذلك تأمل في قوله تعالى: “رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماًً وألحقني بالصالحين” (يوسف: 101)، وانبهار الوليد بن المغيرة خير شاهد على إذعانهم بإعجازه وبلاغته وفيه نزلت الآيات من سورة المدثر: “ذرني ومن خلقت وحيداً”.

أثر القران في اللغة والادب:

لقد جمع القرآن العرب على لغة قريش، فتخلوا عن لهجاتهم، وإذ كان الأدباء في الجاهلية قد أثروا في قومهم، لأنهم ينظمون قصائدهم ويلقون خطبهم بلغة قريش، فهذا التأثير بقي ضعيفاً ومحدوداً لم يصل الى درجة القرآن. إن القرآن الكريم قد غير العقل العربي وأنماط تفكيره، كما دقق عاطفته وأسلوبه فأصبح يختار من الكلمات ألينها وأسهلها وأعذبها، وأخذ يبتعد عن الالفاظ الجافية الغلظة، وشعر حسان في الجاهلية والإسلام خير شاهد على ما نقول، فشعره وكذلك شعر عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك متأثر بألفاظ القرآن وأسلوبه.

وقد شاعت كلمات القرآن في اللغة بل وغزت اللغات الأخرى كالاردية، فهناك ألفاظ كثيرة مستعملة في اللغة الاردية.مثل: المؤمن، الصيام، الكافر، الايمان، الفرقان، الإشراك، النفاق.

وقد حفظ القرآن الكريم اللغة العربية، فبقيت لغة حية على مر العصور، بالإضافة أنها أتاحت لها أن تنتشر في ارجاء العالم، فالمسلمون يحفظونه ويتلونه على مدار اليوم و الليلة، وإن كانوا من غير العرب، وبمرور الزمن أخذت تتكون حوله علوم كثيرة، ولا نبالغ إذا قلنا إن ما كسبه العرب من معارف فهو مما غرسه القرآن المجيد من حب العلم والمعرفة وقد أخذوا يشتقون منه علوماً كثيرة مباشرة كعلم القراءات وغيرها من العلوم التي عرض الامام جلال الدين السيوطي في كتابه القيم: الاتقان في علوم القرآن، صور فيها ما انبثق حوله من علوم مختلفة كعلم التفسير وعلم أسباب النزول و علم نحوه و إعرابه، وعامه وخاصه ومكية ومدنية، مما هيأ لظهور علم البلاغة وإعجاز القران، ومن العلوم المتفرعة منه علم الفقه وأصوله، ولا نبالغ إذا قلنا: إن العلوم الإسلامية كلها إنما قامت لخدمته، فهو الذي هيأ العوامل بقوة لنهضة العرب العلمية وعليه قامت سوقهم و استوت.

ولقد سارع العرب على الاقتباس بنوره في أشعارهم وخطبهم ورسائلهم، واستمدوا منه واقتفوا آثاره، فلو تتبعنا الشعور والخطب والرسائل لوجدنا أن معانيها لا تبعد عما اشتمل عليه القرآن، وقد أعتمد الخطيب والمكاتب في الاستشهاد من القرآن الكريم، فأصبح بذلك مصدراًً مهماًً لدعم الخطبة والرسالة.

يقول الجاحظ في البيان والتبين 1/114: “وكانوا يستحسنون أن يكون في الخطب يوم الحفل، وفي الكلام يوم الجمع آي من القرآن، فإن ذلك مما يورث الكلام البهاء والوقار والرقة وسلس الموقع”.

ولا يزال أدباء العرب يستقون من فيضه، وينهلون من منبعه الغريد الصافي، ما يقوم ألسنتهم، ويكفل لهم إحسان القول بدون تكلف أو تحمل أو اجتلاب للألفاظ من بعيد، نذكر منهم على سبيل المثال: طه حسين ومصطفى الرافعي وكامل الكيلاني ومحمود شاكر.

 

 

المراجع:

1 القرآن الكريم.

2 تاريخ الادب العربي     احمد حسن الزيات.

3 تاريخ  الادب العربي     شوقي ضيف.

4 الادب العربي وتاريخه         عبد العزيز الفيصل.

5 التفسير والمفسرون            محمد حسين الذهبي.

6 البيان والتبيين                       الجاحظ.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *