مسعودعالم

الباحث في الدكتوراة في جامعة جواهر لال نهرو(نيودلهي)

ملخص البحث: تعتبر العلاقة بين الهند والعرب ذات طابع متميز، فقد أسهمت في تطورها معطيات تاريخية وحضارية واجتماعية وثقافية.  ومن الزمن القديم كانت هاتان الحضارتان في روابط مستمرة مع تبادل الأشياء والآراء والأشخاص والثقافة. وبلغت العلاقات بين الهند والعالم العربي مسارا متميزا مع حركة الناس من الهند إلى العالم العربي وبالعكس في شكل الزيارات وهجرة الأيدي العاملة. فإن العلاقات بين الجانبين تعود إلى قرون قبل ظهور الإسلام، فلقد عرف العرب الهند في الجاهلية من خلال الرحلات التجارية البحرية التي كانت سفنهم تنقل خلالها البضائع المتبادلة بين الجانبين، وهو ما أدى إلى أن اختلط العرب بسكان المدن وأسواقها على سواحل الهند والسند. ومن ناحية أخرى، كان الهنود يرحلون إلى العالم العربي ويشاركون حياة العرب اليومية، واختلطوا معهم حتى تأثروا بحياتهم وأثروا فيها بجميع نواحيها الفكرية والاجتماعية واللغوية. وهذه الزيارات ساهمت في التقارب الديني نظرا للمشتركات بين العقيدة الهندوسية والعقائد الموجودة في غرب آسيا آنذاك. وقد أثرت التفاعلات التجارية المتواصلة بين العرب والهنود خلال هذه الفترة في لغة كل منهما وثقافته. ووصلت بعض السلع الهندية إلى العالم العربي، وسماها العرب بالهندي والمهند. وكان السيف الهندي مشهورا جدا في العالم العربي وأطلق عليه الهندي والهندواني والمهند. واكتسبت هذه السيوف سمعة كونها مرنة جدا وحادة. والشعر العربي الجاهلي يشير إليها كما قال الشاعر الكبير طرفة بن العبد (538-564) في السيف الهندي:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة      ……………   على المرء من وقع الحسام المهند[1]

ويذكر امرؤ القيس المسك والقرنفل في معلقته:

إذا قامتا تضوع المسك منهما     ………………..      نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل[2]

وكثير من الكلمات الهندية مثل الصندل والتنبول والقرنفل والنارجيل وغيرها كانت تحظى بشعبية كبيرة وتستخدم على نطاق واسع بين العرب. ولم تقتصر الاتصالات الثقافية على التفاعلات اللغوية فحسب بل تعدت إلى مجموعة واسعة من الأنشطة التي تتراوح بين القائمة وتسمية الاشخاص والقبائل، وكثير من الأسر المتميزة في العالم العربي تحمل اسم الهندي. وقد ساهم العرب في تسمية هذه المنطقة «هندوستان». ولكن هذه العلاقات توثقت أكثر في عهد الإسلام حينما دخل هذه البلاد عن طريق التجار العرب. ولاحقا قامت أول علاقة سياسية قوية بين بلاد الهند والعرب في القرن الثامن الميلادي، أيام القائد العربي محمد بن قاسم الثقفي، الذي فتح بلاد السند والهند عسكرياً، وأسّس أول حكومة إسلامية مستقلة فيها. وتركت الحضارة الإسلامية في الهند العديد من التحف المعمارية مثل تاج محل وقطب منار وغيرها. وهناك أكثر من 25 جامعة كبرى تدرس اللغة العربية، وبعضها يخرج طلابا في الماجستير والدكتوراة في هذه اللغة.

دخول الإسلام الهند: دخل الإسلام الهند عن طريق الفتوحات الإسلامية والحملات الجهادية التي قادها قادة المسلمين لفتح البلاد ونشر دين الله بين العباد. ففي سنة أربع وأربعين من الهجرة غزا المهلب بن أبي صفرة أرض الهند، وسار إلى قندابيل.[3] وكان هذا أول غزو المسلمين لبلاد الهند، وبه تعرف أهل تلك البلاد على الإسلام وشرائعه، فدخل منهم من دخل فيه. وفي سنة ثلاث وتسعين افتتح محمد بن القاسم – وهو ابن عم الحجاج بن يوسف – مدينة الدبيل وغيرها من بلاد الهند، وكان قد ولاه الحجاج غزو الهند وعمره سبع عشرة سنة، فسار في الجيوش فلقوا الملك داهر في جمع، فاقتتلوا فهزمهم الله وهرب الملك داهر، فلما كان الليل أقبل الملك ومعه خلق كثير جدا فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل الملك داهر وغالب من معه، ثم سار محمد بن القاسم فافتتح مدينة الكبرج وبرها ورجع بغنائم كثيرة وأموال لا تحصى كثرته من الجواهر والذهب وغير ذلك.[4]

ومنذ أن وفد الاسلام والمسلمون إلى الهند كانت لهم القوة والسيادة في شبه القارة الهندية، فكانت الدولة الاسلامية التي أسسها قطب الدين محمد النوري عام 589 الموافق لعام 1193م على أنقاض الدولة الغزنوية، اقوى دولها. فقد وسعت كل شمال الهند من مرتفعات “فنديا” جنوبا والى جبال “الهيماليا” شمالا، ثم تلتها اسرات اسلامية قوية حكمتها خلال القرون الخمسة التالية، وشهدت البلاد في العهد التيموري حضارة من أزهى الحضارات الإسلامية. وقد تركت الدولة الاسلامية في شبه القارة الهندية آثارا آية في الروعة والعظمة، منها على سبيل المثال مقبرة السلطان “جهانكير”، و”تاج محل” الذي بناه السلطان ” شاه جهان” سنة ١٦٣٠م لزوجته و المسجد الجامع في دهلی، و القلعة الحمراء وغيرها الكثير.

يقول جواهر لال نهرو معلقا عن أثر دخول الإسلام إلى شبه القارة الهندية “إن دخول الغزاة الذين جاءوا من شمال غرب الهند ودخول الإسلام له أهمية كبيرة في تاريخ الهند، إنه فضح الفساد الذي كان قد انتشر في المجتمع الهندوسي، إنه قد أظهر انقسام الطبقات واللمس المنبوذ وحب الاعتزال عن العالم الذي كانت تعيش فيه الهند، وأن نظرية الأخوة الإسلامية والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها ويعيشون فيها أثرت في أذهان الهندوس تأثيرا عميقا، وكان أكثر خضوعا لهذا التأثير البؤساء الذين حرم عليهم المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية”.[5]

احترم العرب المسلمون المرأة واعترفوا بحقوقها وكرامتها، كعضو محترم من أعضاء الأسرة الإنسانية وشقيقة الرجل، ولكن في الهند كانت السيدات يحرقن أنفسهن بالنار على وفاة أزواجهن، ولا يرين ولا يرى المجتمع لهن حقا في الحياة بعد الأزواج. يقول السيد غلام علي آزاد البلكرامي: “إن المرأة في دينهم لا تنكح إلا زوجا واحدا فحظ عيشها منوط بحياة الزوج، وإذا مات فالأولى في دينهم أن تحرق نفسها بعد، فإنهم يحرقون موتاهم. والمرأة التي تعرض نفسها مع زوجها على النار يسمونها (ستي) نسبة إلى (الستة بفتح السين المهملة وتشديد الفوقانية وهو العفاف وياء النسبة عندهم ساكنة”.[6]

الثقافة العربية في الهند: وقد نقل المسلمون إلى الهند علوما جديدة مثل العلوم الاسلامية وعلم التاريخ، وقد اكتسب الهنود من دخول الإسلام توسعا في الخيال وجدة في التفكير نتيجة احتكاك الحضارة الإسلامية المزدهرة بالواقع الهندي. ومن مظاهر تأثير المسلمين في ثقافة الهند وحضارتها تأثير اللغة العربية التي حملوها إلى هذه البلاد في لغات الهند ولهجاتها وآدابها وحضارتها، وذلك لأن صلة الاسلام باللغة العربية صلة قديمة و أبدية لا تزول ولا تنقطع. ونزول القرآن بالعربية قد حكم بخلودها وبقائها ودوامها وحيويتها وعالميتها حكما باتا “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”. والمسلمون الهنود لم يشعروا بأهمية اللغة العربية فحسب بل قدروها حق قدرها، وتمسكوا بها واحتضنوها في كل زمان ومكان، وقاموا في خدمة اللغة العربية و نشرها وإشاعتها وتوسيعها وترقيتها بدور عظيم ومثالي. ولو تحدثنا عن الهند ومساهمتها وإنجازاتها فنتحدث عن بحر لا ساحل له، كلما يغوص فيه انسان فانه يستخرج حلية ويستكشف لؤلؤا لم يقف عليه من قبل، لأن رصيد الهند من هذه اللغة المباركة كبير وعظيم، ومتعدد النواحي و متنوع المجالات. لا نبالغ إذا قلنا أن الهند تعتبر من أكبر مراكز العالم الإسلامي والعربي التي سجل التاريخ الإسلامي وما زال يسجل انجازاتها وأدوارها الرائعة في خدمة اللغة العربية بكل ما تحمل الكلمة من معان، سواء في مجال التعليم والتأليف والترجمة والشعر والأدب، والقصة، والمسرحية، أو اللغة وفقهها، وعلوم النحو والصرف والبلاغة.

فانجبت الهند الأدباء والكتاب الذين نالوا شهرة واسعة، تضاهي أعمالهم الأدبية أعمال الأدباء العرب الكبار، ولهم قدرة فائقة على الكتابة في موضوعات الأدب والنقد والاجتماع والسياسة. وفاضت أقلامهم بالمقالات العلمية والبحوث الفكرية والتحقيقية والقصص الدينية. وكذلك اشتهر بعضهم في الصحافة العربية. وعندنا قائمة طويلة وكبيرة قد لا يستوعبها المجلدات بأولئك الأعمال الضخمة الكبيرة للمؤلفات في شتى الفنون والعلوم باللغة العربية التي أذهلت الغرب والشرق بما أبدع فيها مؤلفوها وجاؤوا بالأعاجيب والنوادر والتحقيقات والبحوث العلمية القيمة. ومن أهمهم مايلي:

عبد الحق سيف الدين الدهلوي: هو الشيخ الفاضل والمحدث الجليل عبدالحق بن سيف الدين. و كان أبوه سيف الدين شيخا صالحا محبا للحديث و ألف رسائل في التصوف . تلقى الشيخ عبدالحق العلم عن أبيه و غيره من علماء دهلي و حفظ القرآن الكريم . ثم رحل إلى الحجاز فتلقى علم الحديث عن علماء مكة المكرمة مثل المحدث الشيخ عبدالوهاب المتقي المتوفى 1010هـ  و الشيخ حميدالدين السندي . ثم عاد إلى دهلي و قضى حياته في تدريس العلوم و خاصة الحديث و التأليف. فتخرج عليه خلق كثير و ألف كتبا ورسائل كثيرة لا تزال معروفة ومعتمدة لدى العلماء منها: أشعة اللمعات ( ترجمة و شرح لمشكاة المصابيح بالفارسية )، ولمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (بالعربية)، والطريق القويم في شرح الصراط المستقيم ( شرح سفر السعادة للفيروز آبادي)، وجامع البركات منتخب شرح المشكاة، ومدارج النبوة، ومقدمة في بيان بعض مصطلحات الحديث (وهي في أول شرحه على مشكاة المصابيح )، وما ثبت بالسنة في أيام السَّنة ، وذكر إجازة الحديث في القديم و الحديث، والأحاديث الأربعين في أبواب علوم الدين، والإكمال بذكر أسماء الرجال. و انتفع به خلق كثير و أسهمت جهوده في نشر علوم الدين و خاصة الحديث النبوي الشريف. توفي سنة 1052 هـ بدهلي و دفن بها رحمه الله .

الشاه ولي الله: هو الشيخ إمام الأئمة علامة العلماء قطب الدين أحمد ولي الله عبد الرحيم الدهلوي، ولد في أيام عالمكير، وقرأ على والده أمهات الكتب، وكان رحمه الله فصيحا في اللغة العربية وخبيرا بفنونها. وكتابه الفوز الكبير دليل يشاهد على براعته. وقد ألف أكثر من أربعين كتابا في شتى فروع العلم، ومن أهمها: حجة الله البالغة، والمصفى شرح الموطّأ، وفتح الرحمن في ترجمة القرآن، وفتح الخبير، وشفاء القلوب، و التفهيمات الإلهية وغيرها.

أنور شاه الكشميري: هو أحد الفقهاء الحنفية وعلماء الحديث الأجلاء ولد في كشمير سنة 1292ه. ومنذ طفولته ظل الشيخ عاكفا على الدرس والإفادة منقطعا إلى مطالعة الكتب لا يعرف اللذة في غيرها. ومن مصنفاته تعليقات على فتح القدير، وتعليقات على الأشباه والنظائر، وتعليقات على صحيح مسلم، ومشكلات القرآن، وفيض الباري.

أبو الحسن علي الندوي: هو تحفة الهند إلى اللغة العربية وأهلها. وكانت أسرته من أصل عربي، بدأ تعليمه في حجر أمه بقراءة القرآن، تمهر في الأردوية والفارسية والإنجليزية وفوق كل هذه في العربية. وفي سنة 1961م انتخب ناظم دار العلوم ندوة العلماء، واختير عضوا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ورحل إلى البلدان العربية كلها.

تشهد كتاباته بالعربية والأردية على قدرته في التأليف، وكتاباته تسيل بلغة بليغة ومنها: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ورجال الفكر والدعوة في الإسلام، ومختارات في الأدب العربي، والسيد أحمد الشهيد، والطريق إلى المدينة والمرتضى وغيرها.

غلام علي آزاد: هو حسان الهند، لم يكن له نظير في زمانه في النحو واللغة والشعر والبديع والتاريخ. رحل إلى الحجاز فحج، وقرأ بالمدينة الصحاح، وكان حسان الهند ومداح النبي صلى الله عليه وسلم. وأوجد في مدحه معان كثيرة، وله مصنفات ممتعة منها: ضوء الدراري، وتسلية الفؤاد في قصائد آزاد، شفاء الغليل، وغزلان الهند، وروضة الأولياء، ومن أشهر ما كتبه سبحة المرجان في آثار هندوستان.

الدكتور مقتدى حسن الأزهري: احتل الدكتور مقتدى حسن الأزهري مكانة مرموقة في الأوساط العلمية والأدبية بتأليفاته القيمة في اللغتين العربية والأردية، وإسهاماته البارزة في مجال التدريس والصحافة، والترجمة. ويعد من الشخصيات البارزة في الهند، ومرجعا علميا لطلاب العلم والعلماء، و أديبا بارعا، وصحفيا ناجحا. وله مؤلفات عديدة باللغتين العربية والأردية. وقد نال الدكتور الأزهري إعجابا وقبولا بكفاءته العلمية والأدبية، ولغته الناضجة في الهند وخارجها. وحاز على جائزة رئيس جمهورية الهند لخدمة اللغة العربية، لعام 1993م. ومن مصنفاته: تاريخ الأدب العربي (5) أجزاء باللغة الأردية، ونظرة إلى مواقف المسلمين من أحداث الخليج باللغة العربية، وحقيقة الأدب ووظيفته باللغة العربية، والثقافة الإسلامية والمسلمون.

ولعل أهم ركيزة من الركائز التي تقوم عليها دعائم اللغة العربية في الهند هي تلك المؤلفات العربية القديمة التي ألفت لخدمة اللغة العربية فنا ولغة وموضوعا وعلما، ولاسيما في المجامع العلمية ومراكز البحث والتحقيق. فالهنود خاضوا مضمار الصحافة والتاريخ، وسبروا غور اللغة والأدب، واغترفوا من مناهل التفسير والحديث، و غاصوا في بحر المنطق والفلسفة والكلام، وتركوا لأخلافهم آلاف المؤلفات التي هي خير دليل في الدروب الحالكة، ومصباح منير للباحث عن الضالة المنشودة.

أما الهيئات والمؤسسات والمدارس الحكومية وغير الحكومية التي لها إسهاماتها القيمة في خدمة العربية في الهند فهي كثيرة. فقد أنشئت في طول الهند وعرضها مئات من المدارس الدينية، وعرف دورها البالغ في نشر العلوم والثقافة الإسلامية والعربية في مختلف أدوار التاريخ. ومن أهم المدارس الدينية والمراكز الإسلامية في الهند: دار العلوم ديوبند، و مظاهر العلوم بسهارنفور، دار العلوم ندوة العلماء بلكناؤ، والجامعة السلفية ببنارس، وجامعة دار السلام بعمر آباد، وجامعة علي كرة الإسلامية، ودائرة المعارف وغيرها من المدارس والمراكز والهيئات والمؤسسات الإسلامية والعربية، ولكل منها أبنائهم الذين ساهموا في مسيرة التأليف والترجمة.

الثقافة الهندية في العالم العربي: كانت  الهند منذ قديم الزمان مهدا للعلوم والفنون وكانت أبنائها يمتازون بالحكمة وسداد الرأي، وكانت العرب واقفين على ينبوع الحكم هذا، فقد كانت لهم علاقات مع الهنود قبل البعثة بكثير ولذالك لما جاء الإسلام وذاع صيته في الآفاق لم تبق هذه البلاد أجنبية للمسلمين ومجهولة لهم بل كانوا يعتبرونها مركزا للعلم والحكمة وكانو يقدرونها خير تقدير، وكان عامتهم يقفون على طول باع الهنود في الحكم و المعارف، وتفوقهم في العلوم والفنون.

ولم تضق خواطر الكتاب والمؤرخين في الاعتراف بعلو كعب الهنود في العلوم والفنون، فيقول الجاحظ في رسالته ”فخر السودان على البيضان”: “وأما الهند فوجدناهم يقولون في النجوم والحساب ويقدمون في الطب ولهم أسرار الطب والدواء ولهم تفوق في التماثيل، ودهن الصور بالاصباغ وهي التي تتخذ في المحاريب وأشباه ذلك، ولهم في الشطرنج، وهي أشرف لعبة، وأكثرها تدبيرا وفطنة· ولهم السيوف وهم ألعب الناس بها، وأحذقهم ضربا بها، ولهم الرقي النافذة في السموم والأوجاع، ولهم غناء معجب، ولهم الكنكة، وهي وتر واحد يمد على قرعة، فتقوم مقام أوتار العود والضبع، ولهم ضروب الرقص”[7]

ولعب الرحالة والجغرافيون العرب دورا كبيرا في تقديم وصف دقيق للهند وأحوالها بدءا من كتاب ابن خرداذبة الذي جعل عنوانه ”المسالك والممالك” سنة 250 هجرية وتحدث فيه عن جغرافية الهند ومدنها وعاداتها، وقال: ”ملك أهل الهند اثنان وأربعون ملة منهم من يثبت الخالق، عزوجل والرسل ومنهم من ينفي الرسل، ومنهم النافي لكل ذلك·”[8] وتوالت بعد هذا الكتاب كتب أخرى في مختلف العصور· ووضع ابن النديم في كتابه الأهم ”الفهرست” جزءا عن الهند وكتبهم وثقافتهم، ونجد كذلك بابا عن الهند في كتاب طبقات الأمم للقاضي صاعد الأندلسي، وغيره كثير·

فالكتب العربية تشهد أن العرب استفادوا من الهنود في مجال الأدب وتأثروا بأفكارهم وآرائهم الأدبية واقتبسوا منها في كتبهم الأدبية المهمة، يشير صاحب تاريخ التمدن الإسلامي الى هذا قائلا: “وإذا قرأت العقد الفريد لابن عبد ربه أو سراج الملوك للطرطوشي، أو غيرهما من كتب الأدب المهمة، رأيت مؤلفيها إذا ذكروا بعض الآداب أوالأخلاق أو نحوها قالوا:” وفي كتاب الهند كذا وكذا”[9] وقد كتب الكاتب العربي القاضي صاعد الأندلسي  عن الهند، فهو يقول: ” فكان الهند عند جميع الأمم على ممر الدهور وتقادم الزمان معدن الحكمة وينبوع العدل والسياسة و اهل الاحكام الراجحة والآراء الفاضة ……….. فلهذا التحقوا بعلم العدد والإحكام بصناعة الهندسة ونالوا الحظ الأوفى والقدح المعلى من معرفة حركات النجوم وأسرار الفلك وسائر العلوم الرياضية، وبعد هذا فإنهم أعلم الناس بصناعة الطب و ابصرهم بقوى الادوية وطبائع المولدات وخواص الموجودات.[10]

ولأجل رغبة العرب في العلوم الهندية تمت ترجمة عدد لا يحصى من الكتب والرسائل من اللغة السنسكريتية الى اللغة العربية كما ألفت كتب ورسائل عن علوم الهند وفنونها، وفيما يلي ذكر موجز لرغبة العرب في الفنون الهندية والمؤلفات فيها:

الرياضيات: من أهمّ مآثر العرب في العلوم المختلفة في العهد الإسلامي أنهم نقلوا الأرقام الهندية (من 1 إلى 9) إلى اللغة العربية التي امتدت إلى جميع البلاد الأخرى بواسطتهم، وكانت الأعداد تكتب في بلاد العرب وغيرها من البلاد الأخرى بالأحرف. ويسميها العرب الأرقام الهندية؛ لأنهم وجدوها من أهل الهند. أما أهل أوروبا فيسمّونها أرقامًا عربية؛ لأن الرياضيات وصلت إليهم من العرب. وكان أول من تلقى العلم على هذه الأرقام الهندية من العرب هو أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي، ولذلك هناك فرع خاص بالحساب يقال في الإنجليزية (Algorism)؛ لأنهم نقلوه عن الخوارزمي.  يقول اليعقوبي: ” …….. وضع التسعة الاحرف الهندية يخرج منها جميع الحساب الذي لايدرك معرفتها وهي ١،٢،٣،٤،٥،٦،٧،٨،٩.[11]

علم الفلك: وكان علم الفلك أحد العلوم التي عرفها العالم العربي لأول مرة من خلال ترجمة كتاب Surya Sidhhanta السنسكريتي في نهاية القرن الثامن، وقد ترجم إبراهيم الفزري هذا الكتاب بناء على أمر الخليفة المنصور، وأصبح العلماء العرب على اطلاع على التطورات التي حدثت في مجال علم الفلك في الهند. والكاتب الشهير أبو ريحان محمد بن احمد البيروني أشار إلى بعض المراجع ذات الشهرة الهائلة التي اكتسبها علم الفلك من الهنود.[12]

علم الطب: وقد وصل علم الطب الهندي (الأيورفيدا) إلى العالم العربي بشكل صحيح بعد ترجمة عديد من الأعمال الهندية الكلاسيكية حول هذا الموضوع إلى اللغة العربية تحت رعاية الخلفاء العباسيين. ومن الكتب التي تُرجمت إلى العربية عن الهندية في مجال الطب: كتاب “السيرك”، و قد ترجم أولاً إلى الفارسية ثم من الفارسية إلى العربية من طريق عبد الله بن علي. وكتاب “سسرد”، نقله منكة عن الفارسية ليحيى بن خالد البرمكي. وكتاب “أسماء عقاقير الهند”، نقله منكة عن اسحق بن سليمان.

ويمكن ان نقسم تأثيرات الثقافة الهندية على دول الشرق الأوسط و العالم العربي في ثلاثة مجال إجماليا:
الأول: كلمات هندية دخلت في العربية بسبب الاحتكاك التجاري والاقتصادي، لأن التجار العرب كانوا يحملون من الهند السلع التجارية الهندية و يحملون معها أسماءها مثل زنجبيل و كافور و الفلفل و القرنفل و غيرها من أسماء النباتات و الحيوانات.

الثاني: القصص الهندي، وقد تم ترجمة بعض القصص الهندي مثل “كليلة و دمنة” و “ألف ليلة و ليلة” و غيرها من القصص. وترك كتاب “كليلة ودمنة” تأثيرات واسعة وانطباعات عميقة على الأدب العربي وأدى إلى تطوير الفن القصصي الطويل في العرب. ومن الممكن أن نفهم تأثيراته بحيث أن الشعراء بدأوا ينقلون قصصهم في شعرهم، والتفت الأدباء الى أن يكتبوا فن القصص على منوال هذا الكتاب. فأول كتاب ألف في هذا الفن هو كتاب البخلاء للجاحظ، و نجد عددا كبيرا من الكتاب الذين دفعوا اهتمامهم الى هذا الفن القصصي، ولعبوا دورا مهما في تطوير هذا الفن منهم عيسى بن داب وهشام بن كلبي وهيثم بن عدي وبعد ذلك أخذ الأدباء يتبعون طريق الأدباء السالفين في هذا الفن، ومنها قصة عنترة وقال فيها جرجي زيدان “هي احسن القصص العربية وأفيدها”[13] و ” الف ليلة وليلة”[14]. ولا يفوتني ان أذكر أن شعبية كليلة ودمنة أدت الى منافسة الأدباء في ترجمة كتب القصص والسير والخرافة من اللغات المختلفة بما فيها اللغة الهندية الى العربية كما أشار جميل نخلة المدور الى هذا الجانب: “ولما رأى الأدباء إقبال الناس على الكتاب (كليلة ودمنة) تسارعوا الى تعريب غيره من كتب السير والخرافة، فترجموا عن الهندية كتاب وزره وشماس وفيه أخبار ملوك الهند وبناتهم ومايتخللها من الأمثال التي توسع العقول أدبا مع فكاهة وترويض أفكار”[15] وكذالك الفتكتب قصصية بعدد كبير على نهج ومنوال كليلة ودمنة متأثرا بأسلوب الكتاب ومنهجه الذي حظى بشعبية كبيرة من الكتاب والشعراء.

الثالث: الحكم، إن الهنود اشتهروا بأنهم أصحاب النكت والحكم، فاستفاد الأدب العربي من حكم الهنود ونقلت الأمثال والحكم من اللغة الهندية الى العربية وأصبحت جزءا لاينفك في اللغة العربية، فالقى أحمد أمين الضوء على مستوى تأثر العرب بها وقال: ” أما النوع الذي أخذوا عن الهنود كثيرا فهو الحكم، وهو نوع يتفق الذوق العربي، فهو أشبه شئ بالأمثال العربية، والجمل القصيرة ذوات المعاني الغزيرة التي أولع بها العرب، وهي نتيجة تجارب كثيرة، تركز في جملة بليغة ….. وقد اشتهر الهند بهذا.[16] وتمت ترجمة كتاب “منتحل الجواهر” لشاناق من اللغة السنسكريتية إلى العربية في هذا الفن.

فاتضح مما سبق أن الامتزاج الثقافي والحضاري  بين الهند والعرب يعود إلى عصور مبكرة، ويظهر هذا الامتزاج في الحوار والتبادلات الثقافية بين هذين الحضارتين العريقتين، وهناك الكثير من الأدلة التاريخية لهذا المعادل الثقافي مع مرور الزمن. وكان التفاعل المكثف بين الهند والعالم العربي ديناميا ومتنوعا ومتعدد الأبعاد، وبدا تأثير هذا التفاعل مرئيا دائما في مجال الثقافة والأدب، والواقع أن الروابط الثقافية في الماضي، جعلت هاتين المنطقتين أقرب إلى بعضها البعض.

[1] –  المعلقات السبع مع الحواشي المفيدة للزوزني، حققه د. محمد خير الوفاء، مكتبة البشرى، كراتشي، باكستان، 2011، ص: 64

[2] –  نفس المصدر، ص: 13

[3] – الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن عثمان، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، دار الكتاب العربي: 4/12

[4] – ابن كثير، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية، مكتبة المعارف بيروت، 9/104

[5] – K.M. Panikkar, a survey of Indian history, Asia Publishing House, 1966, Page: 132

[6] – البلغرامي، غلام علي آزاد، سبحة المرجان في آثار هندوستان، دار الرافيدين، بيروت، لبنان، 2015، ص: 354، تقديم وتحقيق: محمد سعيد الطريحي

[7] – البصري، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب، رسالة فخر السودان على البيضان، لم يذكر سنة الطبع والمطبع، ص: 80-81

[8] – ابن خرداذبة، المسالك والممالك، مطبعة بريل، هولند، ص:155

[9] – جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي، راجعه وعلق عليه الدكتور حسين مؤنس، سنة 1969، ج3 ص: 177

 -[10] طبقات الأمم للقاضي صاعد بن أحمد الأندلسي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1912، 4/10

[11]– أحمد بن ابي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، مطبعة بريل، ليدن ، 1883، 1/148

[12] – البيروني، أبوريحان، في تحقيق ماللهند، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، ص: 155

[13] – زيدان، جرجي، تاريخ آداب اللغة العربية، دار الهلال للطباعة  1924،  ج2، ص: 134

[14] – ابن نديم، الفهرست، دار الفكر العربى للطباعة والنشر، ص: 299-300

[15] – المدور، جميل نخلة، حضارة الاسلام في دارالسلام، ‏مطبعة المقتطف،‏ الطبعة الثالثة، 2007،  ص: 221

[16] – أمين، أحمد، ضحى الاسلام، مكتبة النهضة المصرية، ج1، ص: 248

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *