Main Menu

إبداعات برتراند رسل في الفلسفة والرياضة والمنطق: دراسة تحليلية

                                                     وصي ميان خان

                                   باحث في قسم اللغة العربية وآدابها

الجامعة الملية الإسلامية

المدخل:

يعدّ برتراند رسل من أعظم الفلاسفة في تاريخ المعرفة الإنساني، وهو واحد من أعلام الفكر والثقافة الذين غيروا مسار الحياة الثقافية والفكرية في القرن العشرين لا سيما في العالم الغربي، هو فيلسوف العصر الحديث بكل ما فيه من علم وأخلاق وسياسة، حصل على جائزة نوبل للأدب عام 1949، وبعد استعراض أفكار وآرائه في شتى مجالات الحياة ومقارنتها مع انتاجات المفكرين لا يرفض أحد أنه هو أعمق الفلاسفة تأثيرا في تكوين البناء الفلسفي وتغيير طرائق استخدام الرياضة والمنطق واللغة وتشكيل مفاهيم التربية، يمتاز رسل بوضوح الأسلوب، وسلاسة الكلام، والتخلص من الزخارف اللغوية، فهو يقدم المفاهيم الفلسفة الغامضة بعبارات سهلة ممتعة بلغة يفهمها كل من له حظ من الثقافة والفكر.

  لاتفوتنا الإشارة إلى أن هذا المقال يقصد إلى توضيح وتحليل بعض الأفكار الرئيسية للفيلسوف البريطاني الذي عاش عمرا طويلا يبلغ حوالي قرن، وأحدث ثورة في المنطق والفلسفة والرياضة، فقدم نظرية كشفتْ عن سر اليقين في الرياضة والعلاقة الوثيقة بينها وبين المنطق، ولمّا كان المنطق من أهم المواد التي تدرس في مدارسنا الدينية في شبه القارة، يحسن بنا أن نطلع على آراء أكبر الفلاسفة في القرن العشرين تجاه هذا العلم، الأمر الذي دفعني إلى عرض أفكاره في هذا الصدد. فصاحب المقال يكتفي بتحليل آرائه في هذه العلوم، ولا يتعرض لمواقفه الواهية إزاء الدين والمذهب التي لا نحتاج في تبيينها إلى أمثال رسل.

منهج رسل في تحليل الأفكار:

الفلسفة في إنجلترا كانت تجريبية منذ القرن السادس عشر، بيكن، لاك، هيوم، مِل، رسل                                                                                   ومُور، جميعا يشكلون حلقة من سلسلة تتابعت حلقاتها في الفكر الإنجليزي إبان العصور على الترتيب، وعمادهم الأول هو الخبرة المباشرة على اختلاف بينهم في تحليل هذه الخبرة وما يأتي عن طريقها من المعطيات الحسية. [1] فقد تناول رسل بالتحليل كل مفاهيم الثقافة المنبثة في عالم اليوم، ليردها إلى عناصرها الأولية، وينبغي أن نترك الرجل بدوره يصف منهجه يقول:

 “منهجي دائما هو أن أبدا بشيئ ما فيه غموض ولكنه باعث على الحيرة، شيئ يبدو قابلا للشك، ولا أستطيع ان أعبر عنه على نحو محدد، ومن هنا أمضي في عملية شبيهة برؤية العين المجردة لشيئ ما للوهلة الأولى، ثم التعقيب على ذلك برؤية الشيئ نفسه خلال المجهر، فيبدو فيه عندئذ تمايز الأجزاء ما لم يكن قد ظهر عند رؤيته بالعين المجردة في أول الأمر تماما، كما يحدث حينما نستطيع رؤية الجراثيم في ماء عكر خلال المجهر مما لا يمكن للعين المجردة أن تراه، إن من الناس من يقولون إن التحليل يخرج الأشياء عن طبائعها، لكنني أعتقد أن تحليل الفكر يؤدي نفس المهمة التي يؤديها تحليل الماء العكر، إذ هو يبين في جلاء مم تتألف الفكرة فيزيدنا بها علما، دون أن ينقصنا في معارفنا السابقة شيئا، وإنه ليبدو لي أن البحث الفلسفي – كما قد مارسته – يبدأ من حالة عقلية يشعر فيها صاحبها أنه موقن من صدق معرفة يقينية، دون أن يحدد على وجه الدقة ما ذا عسى أن تكون حقيقة هذا الشيئ الذي أيقن بصحته، فعندئذ يركز انتباهه في الأمر، كما يفعل المرء عندما يركز الانتباه في شيئ يرقب ظهوره التدريجي من خلال ضباب كثيف، فهو لا يعدو أول الأمر أن يكون ظلمة غير محدودة المعالم، ثم يأخذ في التمييز كلما برز من الضباب”.[2]

إنجاز رسل الكبير :

  من أهم النتائج التي وصل إليها رسل نتيجة تحليلاته للرياضة هو كشف العلاقة بينها وبين المنطق، كشفا يزيل الغموض الذي كان مخيما طوال العصور الماضية على العلوم الرياضية، فأخرج رسل وتعاون معه زميله وايتهد، مؤلفه الضخم” أسس الرياضة ” في ثلاث مجلدات (1910-1913) الذي يعد كما قال رسل بنفسه ” فاتحة عهد جديد في التحليلات المنطقية، ” وإذا قلنا ذلك فقد قلنا إنه فاتحة عهد جديد في تاريخ الفلسفة الحديثة على الإطلاق “. [3] وذلك لأن الأمر لم يقتصر على الرياضة وحدها بل إنه قد هتكت الستر الذي كان يخفي وراءه سرّ المعرفة اليقينية التي كانت مطلب الفلاسفة في شتى العصور. ولشرح هذا الكشف وإدراك قيمة هذا الموقف الذي يعد أعظم كشف في المجال الفلسفي كله في العصر الراهن، ينبغي هنا إلقاء نظرة حول الأساس الذي ترجع إليه نتائج هذا الكشف.

نتيجة الكشف العظيم :

  إن رسل كان يشوشه المعيار الصحيح للمعرفة الإنسانية لا سيما في الرياضة، فقد كان يهيم في ميادين الفلسفة مترددا بين آراء الفلاسفة، تارة يؤمن برأي وأخرى ينصرف إلى آخر، فقد كان يميل إلى اعتقاد أن هيجل هو إمام روحي في الفلسفة، ثم نفض يديه منه عند ما قرأ كتابه ” المنطق الكبير ” فوجد أن كل ما قاله هيجل عن الرياضة هو ” كلام فارغ خرج من رأس مشوّش”، ليتجه إلى آراء ” كانت” و ” برادلي”، لكن لم يطمئن قلبه بما ذهب اليه ” برادلي” من نفي التكثر في الأشياء وإنكار الإدارك الفطري، كما لم يهدأ له بال في آراء ” كانت” في القضية الرياضية أنها قبلية تركيبية، أي أنها من عند العقل ومنطبقة على الواقع في آن واحد. كذلك لم يرض بما قاله التجربييون الإنجليز من أن علم الحساب مؤلف من تعميمات جاءتنا بها التجربة. فجعل برتراند همه الأكبر أن يستكشف إلى حد يجوز للإنسان أن يقول إنه “يعرف” ما يدعي أنه يعرفه، والمعرفة لها درجات، فمنها ما هو يقيني، ومنها ما هو في حدود الرأي والظن، فمتى يكون اليقين يقينا ؟ ففي هذا السير وجد رسل أن الرياضة هي العلم الوحيد من العلوم الإنسانية التي لا يشك في يقينها أحد لا من الفلاسفة ولا من عامة الناس، ومن ذا يشك أقل شك في أن اثنين يضافان إلى اثنين تكون أربعة ؟ ثم ظهر له أن اليقين الراسخ في حقائق العلوم الرياضية قد استرعى اهتمام الفلاسفة منذ أول تاريخ الفلسفة، ولا يزالون يلقون هذا السؤال على أنفسهم: ما سر هذا اليقين في المعرفة الرياضية ؟ لأننا لو كشفنا سر اليقين في الرياضة لاهتدينا إلى نهج ربما نطبّقه في العلوم الأخرى لصيانة الوقوع في الخطأ.

 فرأى رسل أن إجابات الفلاسفة أتت مختلفة، هذا يقول: إن مصدر اليقين في الرياضة هو أن الإنسان يدرك حقائقها ببداهة الفطرة كأنما ولد العقل وفيه المبادئ الرياضية لا يحتاج إلى كسبها، إنما يحتاج إلى تنبيه، وذلك يقول: بل مصدر ذلك اليقين هو أن الحقائق الرياضية تحصل لنا كغيرها عن طريق التجربة والخبرة المستوفتين الشمول والدقة. فوصل الفلاسفة المثالييون الميتافيزيقيون إلى أن العقل هو المعيار الوحيد الصحيح الذي يكتسب المعرفة اليقينية، وليس للحواس دور في اكتساب مثل هذه المعرفة، ودليهم هو العلوم الرياضية لأن العقل هو الذي صنع أسس الرياضة التي لا يشك أحد في يقينها فلا بد إذن أن يستقيم مسار العلوم الطبيعية كذلك على أسس عقلية، لأن الحواس لا تبلغ بنا إلى اليقين، فكان من الطبيعي أن يذهب كثير من الفلاسفة العقلانيين والتأمليين إلى إنكار شهادة الإدراك الفطري والعلوم التي تستنبط من الحواس كما رأينا عند برادلي، الأمر الذي كان رسل لا يطمئن إليه، فصب اهتماماته الفكرية في الكشف عن الرياضة عسى أن يصل إلى حقيقة يقينها، ويكشف عما قد يكون مدسوسا من مواضع الخطأ في فكرة العقلانيين هؤلاء، فجاء بالتعاون مع زميله ” الفرد نورث وايتهد” في أول القرن العشرين بتحليل الرياضة الجديد.

 وفقا لهذه التحليلات ظهر أن مصدر اليقين الرياضي هو كون قضايا الرياضة تحصيل حاصل لا ينبئ بشيئ عن طبائع الأشياء، فالرياضة لا تمت إلى العلوم الطبيعية بقريب لا، ولا ببعيد حتى تجوز المقارنة بينهما، إن يقين الرياضة  لايستلزم سوى أن يتفق الناس على أن يكون رمزا مساويا لرمز آخر دون أن يكون استخدام الرمزين متوقفا على إشارتهما إلى مسميات في الخارج، فمثلا في قولنا 2+2 = 4، كلمة أربعة لا تضيف في معرفتنا شيئا ما لم نكن نعرف، فأربعة ليس شيئا مختلفا عن 2+2 يأتي بجديد سوى أن يبين معاني الرموز المستخدمة قبله، كما أن هذه المعادلة الرياضية لا تثبت ولا تنفي شيئا  في العالم الخارجي، بل إن العالم الخارجي قد لا يكون مشتملا على أربعة أشياء، ومع ذلك يمكننا أن نقول هذه المعادلة، حتى لو وصلنا إلى هذه الحقيقة بادئ الأمر بالنظر إلى برتقالتين برتقالتين، أو قلمين قلمين كما يفعل المدرس في تعليم الأطفال، لكن بعد تجريد المعنى من البرتقال أو القلم وغيرهما ندرك أن صدقها لا تتوقف على الخبرة الحسية، وكل قضايا الرياضة من هذا القبيل.

 هذا ما وصل إليه رسل في تحليله، وكان الكشف نقطة تحول حاسمة في نظرية اليقين الرياضي، فأقلع رسل جذور الفلسفة التقليدية التي تقول باحتكام العقل في العلوم الطبيعية استنادا إلى يقين الرياضية، الأمر الذي دفع زكي نجيب محمود إلى نصرة وتائيد مذهبه الفلسفي لأننا عرفنا حرصه على هدم الفلسفلة التأملية بما فيها المثالية.

  يقول زكي نجيب محمود: ” وقد تسألني فما قيمة كشف كهذا من الناحية الفلسفية ؟ وأجيبك : بأن قيمته الكبرى هي تحطيم السلاح الذي كان يحارب به القائلون بأن الحقيقة لا تكتسب بالحواس، وإنما تكتسب بالعقل وحده، ودليل ذلك عندهم هو الرياضة، فلسيت الحواس التي تقول إن زوايا المثلث تساوي قائمتين، وإذا كان مثل هذا العلم العقلي يقينيا، ثم إذا كانت الحواس معرضة للخطأ في إدراكاتها، أفلا تقضي الحكمة –إذن – بألا نأخذ بشهادة الحواس في معارفنا، وأن يكون منهاجنا إلى الحق هو العقل النظري الخالص، الذي لا تدعوه الحاجة إلى التقيد بما تراه الأعين أو تسمعه الأذن ؟ [4]

الرياضة والمنطق امتداد لشيئ واحد :

 والجدير بالذكر أن رسل عند ما وصل إلى نتيجة أن الرياضة تحصيل حاصل، فاثبت كذلك أن الرياضة هو امتداد للمنطق الصوري، كلاهما بناء واحد يقوم على قاعدة واحدة، وكما أن المنطق يكفي لصدق قضاياه أن يتسق بناؤه الداخلي دون التطابق في الخارج كذلك يستدعي صدق معادلة رياضية أن تتسق أجزاؤه سواء ينطبق صدقها على الواقع أو لا ينطبق، لأنه يمكننا أن نكوّن عشرين بناء أو معادلة رياضية وكلها صادق على حد سواء مع أنه محال أن ينطبق منها على الخارج إلا بناء او معادلة واحدة.

“The connection of mathematics with logic is exceedingly close, the fact that all mathematical constants are logical constants, and that all the premises of mathematics concerned with these, gives, I believe the precise statement of what philosophers have meant in asserting that mathematics is a priori”.[5]

ترجمة : علاقة الرياضة بالمنطق وثيقة جدا، فكون الثوابت جميعا ثوابت منطقية، وأن مقدمات الرياضة كلها إنما تختص بتلك الثوابت، يبين لنا- فيما أعتقد- بيانا دقيقا ما قصد إليه الفلاسفة حين قالوا عن الرياضة إنها قبلية.

 فإذا كان الرياضي كالمنطق تحصيلات حاصل، من ثم لا تتعرض للخطأ، لأن تحصيل حاصل هو تكرار شيئ واحد مرتين، وليس فيه تورط في الخبر عن الخارج حتى يجوز لنا الحكم عليه بالصواب او الخطأ، فإننا في المنطق نقول ” إن الدنيا غدا إما أن تمطر أو لا تمطر ” بحيث يستحيل الخطأ بعد ذلك، وكذلك حين نقول ” إذا كانت س مشمولة في ص، وص مشمولة في م، إذن تكون س مشمولة في م، كان هذا القول صادقا صدقا مطلقا لأننا لم نفعل سوى تعيين معنى الاشتمال دون ادّعاء أي شيئ أو حادث في الخارج، وليس الأمر كذلك إذا قلنا ” إن النوع الإنساني مشمول في مجموعة الحيوان ” لأنا نجد من يؤيّد ومن يفند، وهكذا الحال بالنسبة إلى المعادلات الرياضية، فقولنا ” السبع المضروب في ست يساوي اثنين وأربعين ” لا يثبت شيئا، ولا ينفي شيئا في الخارج. نظرا إلى ذلك لم يعد يجوز للفلاسفة العقليين أن يحتجوا على التجريبيين بيقين الرياضة.

  والجدير بالذكر أن هذه النظرية للاتصال بين الرياضة والمنطق يرجع في طبيعتها إلى فلسفة رسل الرياضية التي تقوم على تحليل العدد، وبما أن جميع فلسفته في المعرفة وحقيقة العالم وقوامه بما فيه الإنسان –في الأغلب – يتوقف على هذه الفلسفة الرياضية، يحسن بي أن أذكره بإيجاز، لأن هذه الطريقة التي يختار الفيلسوف الإنجليزي لها مكانة عظيمة عند الدكتور زكي نجيب محمود، حتى تكاد نظريته في التحليل تدور حول آراء رسل في تحليل العدد.

  ينبغي هنا أن أستخلص معنى فلسفة العلم من كتابات زكي نجيب محمود وبرتراند رسل  باختاصار شيديد، يقول زكي نجيب محمود : “إن فلسفة العلم محاولة لتفسير العلم لا لتغييره ولا لإضافة شيئ إليه أو حذف شيئ منه بل لتفسيره بردّ قوانينه إلى الأصول الجذريّة التي عنها انبثقت “.[6]

  شرح ذلك أن العلماء يستخدمون في كتبهم العلمية عبارات وصيغا رمزية يصفون بها الأشياء الواقعة وصفا مباشرا، كما يقول عالم عن شعاع معين من الضوء ” أنه ساقط على المرآة المعينة وإن زاوية سقوطه تساوي زاوية الانعكاس ” فهنا هو يستخدم عبارة لتقرير الحكم عن الشيئ الواقعي دون أن ينظر في شرح هذه العبارة نفسها، فهو لا يشرح معنى كلمة شعاع، ومرآة، وزاوية، وسقوط، كأنه يعتبر هذه المدركات من عند نفسه مسلمات أولية لا حاجة إلى التفسير، فاللغة التي يستعملها العالم للحكم عن الأشياء تسمى ” اللغة الشيئية”  (Object -language) لكن هناك طائفة أخرى من العبارات لا تصف الأشياء وصفا مباشرا، بل يراد بها أن تتحدث عن عبارات وردت في كتب العلماء لكي تفسر عبارة علمية فتردالعناصر والمدركات الأولية إلى جذورها الأولى، هذه اللغة يطلق عليها ” اللغة الشارحة “( Meta- language) فالعبارات الشيئية تعبرعن النظرية العلمية التي يريد العالم تقديمها، وأما العبارات الشارحة فليست جزء من النظرية العلمية، بل تنتمي إلى ميدان آخر ما يسميه رسل و زكي نجيب محمود بفلسفة العلم، أو فلسفة علمية. [7]

  تطبيقا لهذا التعريف لفلسفة العلم يكون الفرق بين الرياضة وفلسفتها هو أن الرياضة تستخدم رموزا وعلامات، مثل الأعداد وأحرف الهجاء والعلامات الدالة على الجمع والطرح والضرب والقسمة والتساوي وما إلى ذلك، ثم تشكّل منها صيغات ومعادلات دون الوقوف عند هذه العلامات نفسها، فتقول الرياضة مثلا 8+2= 10 لكنها لا تحلل معاني الواحد، والصفر والاثنين والتساوي، فإذا تناول باحث هذه العلامات ببحثه، وجعلها موضوع حديثه، كان قوله فلسفة رياضية. فالسير في الفلسفة يتجه من نقطة البداية إلى الوراء، وفي العلم يتجه إلى الأمام ؛ والأعداد كما نرى نقطة بداية في دراسة الرياضة، منها يبدا الطفل دراسته حتى يبدو أنها مركبات بسيطة، مع أنها في درجة بعيدة من التركيب كما يظهر بعد التحليل، ما قام به كثير من الفلاسفة الرياضيين وعلى رأسهم رسل، والإنسان -حسب زعم رسل- قد استغرقه دهرا طويلا في فهم وإدراك التشابه بين عصفورين ويومين قبل أن يستطيع استخدام رمز واحد لهما هو العدد “2” وكذلك قضى شطرا كبيرا من االتاريخ لمعرفة أن الواحد هو أيضا عدد كسائر الأعداد فضلا عن تكابده في علم الصفر، فما هو إذاً تعريف العدد ؟

 يقول رسل ما معناه ، أن كل قضية رياضية يمكن ردها إلى المدركات المنطقية ( النوع، الفئة، الصدق، الاستدلال) ولذلك هو يرد جميع قضايا الرياضة أولا إلى الحساب، ويرد الحساب إلى العدد، فيرى كيف أمكن رد العدد إلى مدركات منطقية، مثلا أمامنا ثلاثة رجال، وثلاثة طيور، وثلاثة مصابيح الخ، وهذا الثالوث من الرجال وسواهم غير العدد “3” بدليل أن هذا العدد ينطبق على ثالوثات أخرى غيرها، فبدل أن نحاول استخراج الصفة المشتركة بين هذه الثالوثات لتحديد معنى العدد 3 نجمعها جميعا في حزمة واحدة  ونصور أننا قد ضممنا معها في هذه الحزمة كل الثلاثات الممكنة في العالم، يتكون لنا فئة كبيرة تحتوي على فئات صغيرة، كل واحد تشبه الأخرى، وهذه الفئة الكبيرة من الفئات الصغيرة هي معنى العدد “3” وتعريف العدد بالفئات ينطبق على جميع الأعداد بغير استثناء بما فيها الصفر والواحد.

يقول برتراند رسل :

“ We can suppose all couples in one bundle, all trios in one bundle, and so on in this way we obtain various bundles of collections, each bundle consisting of all the collections that have a certain number of terms.each bundle is a class whose members are collections i.e. classes ;thus each is a class of class.”[8]

 يقول زكي نجيب محمود : ” تعريف رسل للعدد على هذا النوع، هو في الحقيقة بمثابة تعريف الاسم بالإشارة إلى مسماه، ولشرح ذلك أقول : افرض أنك تريد أن تشرح كلمة       ” أخضر” لطفل صغير، فقل له – حسب قاعدة رسل – انظر إلى هذه البقعة، فاللون الأخضر معناه هو الفئة التي تشتمل على جميع الأشياء الملونة بلون شبيه بهذا اللون الذي تراه أمامك، فهذا بعينه ما يريده رسل في تعريقه للعدد، إذ هو يعرف أي عدد بأنه الفئة التي تشمل جميع الفئات التي تكون شبيهة بفئة معينة، فإذا أردت أن تعرّف معنى العدد “3” فانظر إلى ثالوث من الرجال مجتمعين معا، وقل إن العدد “3” معناه هو الفئة التي تشمل كل الفئات التي تكون كل منها شبيهة بهذه الفئة من الرجال التي أراها أمامي.[9]

وواضح أننا إذ نعرّف العدد بأنه فئة من فئات، فالعدد “صفر” هو رمز لمجموعة الفئات الفارغة، والعدد “1” رمز لمجموعة الفئات ذوات العضو الواحد، والعدد “2” رمزلمجموعة الفئات ذوات العضوين، والعدد “3” رمزلمجموعة الثالوثات وهلم جرا، أقول إننا إذ نعرف العدد بأنه فئة من فئات، فإننا بذالك نكون قد حللنا المدرك الرياضيّ الأساسيّ إلى مدركات ليست من الرياضة، بل هي مدركات علم آخر هو المنطق، لأن “فئة ” (class) مدرك من مدركات من المنطق لا الرياضة. هذا هو المقصود من القول بأن رسل ومن معه من المناطقة الرياضيين يحاولون رد الرياضة إلى المنطق، أي أنهم يحاولون تحليل المدركات الرياضية إلى مدركات منطقية.

رأي رسل في المعرفة :

  إذا استثنينا علمي المنطق والرياضة اللذين هما بناءان صوريان على نحو ما ذكر، وهما لا يخبران عن العالم الخارجي، فطبعا نتيجة هذا الرأي لرسل ومعه زكي نجيب محمود، بقيت لدينا مجموعة العلوم الطبيعية، والتي لا بد فيها من الإدراك الخارجي، نجمع في هذه العلوم أولا معلوماتنا فنستخرج منها القوانين العلمية التي نطبقها في النهاية، فقوام هذه العلوم هو ما تدركه حواسنا، فيبرز هنا سؤال : “ما الذي يدرك الإنسان من الأشياء المحيطة به ؟ يقسم رسل هذه المعرفة إلى قسمين : معرفة بالاتصال المباشر، ومعرفة بالوصف.

 أما معرفة الاتصال المباشر هو باختصار، انطباع المعطيات الحسية على أعضاء الحس من الرائي، فمثلا، أمامي هذه المنضدة، فما ذا أدرك؟ لا أدرك- في الحقيقة – إلا لمعات من الضوء تأتيني بالرؤية المباشرة بالعين، ونبرات من الصوت – عند ضربي المنضدة – تأتيني عن طريق السمع، ولمسات من الصلابة تأتيني باللمسة المباشرة، ومن مجموع تلك اللمعات وهذه النبرات واللمسات تركب في ذهني بناء هو الذي أقول عنه إنه ” منضدة “. فهذه المعطيات الحسية – في رأي رسل – هو معرفة بالاتصال المباشر، والتركيب الناشئ في الذهن وأداؤه بعد ذلك بالكلمات هو معرفة بالوصف، فهذه اللمعات والنبرات هي المعرفة اليقينية لأنها معرفة عن الجزء، وأما قولي ” المنضدة أمامي ” هو معرفة بالوصف ليس من الضروري أن يكون صادقا ويقينيا لأنه معرفة عن الكلية كوّنتُها داخل نفسي، ليس هناك في الخارج ما يعكسه. ويؤدي هذا التحليل إلى أن الكلمة الكلية ليست في الحقيقية اسما واحدا يطلق على شيئ بعينه كما يتبادر إلى الذهن، فليس في الخارج شيئ ما اسمه، شجرة، إنسان، منضدة، أوكتاب على سبيل العموم والإطلاق، بل كل ما في الخارج هو ” هذه الشجرة ” و”هذا الإنسان”، و”هذا الكتاب”.. أما الكليات فمقامها في الذهن لا في الخارج [10].

“ We shall say that we have acquaintance with anything of which we are directly aware , without the intermediary of any process of inference or any knowledge of truths , thus in the presence of my table, I am acquainted with the sense data , that makes up the appearance of my table – its colour , shape , hardness , smoothness etc. All these are things which I am immediately conscious when I am seeing and touching my table… My knowledge of the table as a physical object, on the contrary is not direct knowledge…My knowledge of the table is the kind of which we call “knowledge by description” [11]

ترجمه : سنقول إن لدينا اتصالا مباشرا بشيئ ما إذا كنا على وعي بذلك الشيئ وعيا مباشرا دون أن تتوسط في ذلك أية عملية استدلالية أو أية معرفة بحقائق، وعلى ذلك فحين تكون منضدتي حاضرة أمامي، فأنا على اتصال مباشر بالمعطيات الحسية التي منها يتألف ظاهر المنضدة، لونها وشكلها وصلابتها ونعومتها الخ ؛ فكل هذه أشياء أكون على وعي مباشر بها خلال رؤيتي ولمسي للمنضدة… أما معرفتي بالمنضدة باعتبارها شيئا ماديا فهي – على عكس ذلك ليست معرفة مباشرة… معرفتي بالمنضدة هي من النوع الذي سأطلق عليه اسم ” المعرفة بالوصف “.

 وهذه النظرية في المعرفة يؤدي إلى أن يكون لرسل نظرية في طبائع الأشياء وقوام العالم، فقد كان الفلاسفة فيما مضى لا يعرفون إلا جوهرين يردون الكون إليهما معا أو إلى واحد منهما، وهما الروح والمادة. أما المثالييون فيعترفون بالروح دون المادة، ويجعلون الظواهر المادية حالات من خبرة عقلية، وأما التجريبيون فيعترفون بالمادة دون الروح، كما كان هناك فلاسفة يقولون إن الكون روح ومادة معا كما أن الإنسان عقل وجسم. فجاء رسل بمذهبه في ضوء نظرية بناء المادة في علم الفيزياء الذي حلل المادة إلى درجة أنه أصبح أقرب ما يقوله الروحانييون عن الروح (كما قال زكي نجيب ) وفي ضوء نظرية أينشتين النسبية كذلك ما تقول بإضافة بعد رابع إلى أبعاد المكان الثلاثة مما أدى إلى التخلص من فكرة الزمان الواحد والمكان الواحد، فظهر أن المادة مركبة من مجموعات ذرية كل منها مؤلف من كهارب موجبة وكهارب سالبة (أو البروتونات و الإلكترونات )وهما في حركة دائمة لا تستقر، وطبعا ليست هذه الكهارب في الصلابة من شيئ كما كان يزعم عن الأشياء، فوصل رسل نتيجة هذا الكشف الفيزيائي إلى أن أي شيئ في الحقيقة سلسلة من الأحداث تتلازم وتتابع، هو تاريخ ممتد مع الزمن ولا يمكن فهم وجوده إلا على هذا الامتداد المتغير لحظة بعد لحظة. ويقصد بكلمة ” أحداث ” (Events) مجموعة من اللمعات اللونية والنبرات الصوتية واللمسات وهلم جرا. فهذا القلم وذلك الشجر إنما هو سيال دافق أو خط طويل من الحوادث كالقطعة الموسيقية، أو المسرحية التي تتطلب وقتا للفراغ من عزفها بحيث لا توجد كلها في لحظة واحدة. فإذا سئل أين النغمة الموسيقية، فالجواب لم يكن بتحديد نقطة مكانية واحدة ولا لحظة زمانية واحدة، بل كان الجواب الصحيح هو أنه سلسلة من حوادث تعاقبت في فترة زمنية، وهكذا تكون الحال بالنسبة إلى المنضدة وإلى القلم وغيرهما من سائر الأشياء، فإن كنت أرى المنضدة مستقرة في مكان محدد فالذي أراه هو الحالة الراهنة من سلسلة حالاتها التي تمتد من أول تاريخها وستمتد إلى آخر ذلك التاريخ ؛ فالموجود الآن من المنضدو هو ” حادثة ” من مجموعة الحوادث التي منها يتألف تاريخها، والذي يخلع على المنضدة وحدتها هو ارتباط تلك الحوادث في تاريخ واحد كما أن الذي يخلع على النغمة الموسيقية وحدتها هو ارتباط أجزائها في سلسلة واحدة من الحوادث. ونفس هذه الحوادث بعد الإدراك تتحول إلى حالات عقلية شعورية، فالحالات العقلية هي الأخرى سلسلة من الحوادث، فأصبح في الإمكان أن نقول أن قوام العالم لا هو مادة ولا هو عقل، بل هو مصدر محايد سابق على العقل والمادة، وإنما تكون الحالة المعينة عقلية أو مادية حسب الطريقة التي ترتب بها الحوادث، إذا رتبت على نحو ما كانت مادة، وإذا رتبت على نحو آخر كانت عقلا، والأمرهنا شبيه بأن تكون لدينا عشر خرزات مثلا، نرصها على نحو فتكون مربعا، ونرصها على نحو أخر فتكون دائرة.هذا الذي يسميه رسل ب” الواحدية المحايدة ” أو ” هيولى محادية ” وقد سبقه وليم جيمس الأمريكي إليه. [12]

  فبرتراند رسل في موقفه من العالم لا يمكن وضعه في طائفة المادّيين أو المثاليين والعقلانيين، لأنه لا يردّ ظواهر العالم كلّها بما فيها الظواهر الفكرية الشعورية داخل نفس الإنسان إلى مادّة مثل ماركس، والدكتور واتسن وغيرهما من الفلاسفة وعلماء النفس المادّيين، ولا هو يردّ هذه الظواهر إلى العقل الصرف مثل ما قام به هيجل، وديكارت وبرادلي وغيرهما من المثاليين  والمتأمّلين، وليس هو بمعترف بجانبي المادة والعقل جنبا إلى جنب مثل ما اختار ” كانت” وغيره من العقلانيين، لكنه واحدي من طراز فريد، فالعالم كلّه مؤلف من عنصر محايد لا بالعقل ولا بالمادة، بل العقل والمادة كلاهما مؤلف منه، على اختلاف بينهما في طريقة التأليف [13].

المصادر والمراجع

محمود، زكي نجيب : برتراند رسل : نوابغ الفكر الغربي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية.

محمود، زكي نجيب : في حياتنا العقلية، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، سنة 1989م

محمود، زكي نجيب: من زاوية فلسفة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1993م.

محمود، زكي نجيب : نافذة على فلسفة العصر الجزء الأول : وزارة الإعلام – مجلة العربي، الكويت، الطبعة الأولى، سنة 1990م.

المصادر الإنجليزية :

Russell, Bertrand, Introduction to Mathematical Philosophy, Originally published by George Allen & Unwin, Ltd. London May 1919. Online corrected Edition version 1.0 ( Februrary 5 ,2010)

Russell Bertrand : The Principles of Mathematics , W.W. Norton and company, INC New York

Russell Bertrand : The Problems of Philosophy, Henry Holt and company New York

[1] ) محمود: زكي نجيب، برتراند رسل : نوابغ الفكر الغربي ص 31

[2]  ) محمود: زكي نجيب، نافذة على فلسفة العصر، الجزء الأول ، ص 116

[3]  ) محمود: زكي نجيب، من زاوية فلسفية 192

[4]  ) نافذة على فلسفة العصر : الجزء الأول ص 119

[5] ) Russell Bertrand : The Principles of Mathematics pp 8

[6]  ) محمود: زكي نجيب، ، في حياتنا العقلية ، ص 95

[7]  ) برتراند رسل ، نوابغ الفكر العربي – ص 47

[8] ) Russell, Bertrand Introduction to Mathematical Philosophy, P- 14

[9]  ) برتراند رسل ، نوابغ الفكر الغربي ، ص56-57

[10]  ) راجع : من زاوية فلسفية ، ص 194-195 ، نافذة على فلسفة العصر ، الجزء الثاني  ، ص 123

[11] ) Russell, Bertrand , The Problems of Philosophy , p 73-74

[12]  ) من زاوية فلسفة ، ص 197

[13]  ) برتراند رسل ، نوابغ الفكر الغربي ، ص 97-98